سنوات ست مرّت في عهد رئيس الجمهورية ميشال عون، لم تُصلح ما دمّرته سنوات خلت في الاقتصاد الوطني لأسباب تعدّدت أوجهها، منها الحروب والتطورات الأمنية المضطربة، ثم الفساد في الإدارات العامة والهدر في المالية العامة… وصولاً إلى ما نحن عليه اليوم من انهيار يبدو أنه لم نصل إلى قعره بعد.
لكن في السنوات الست الأخيرة بلغ السيل الزبى، حتى بات التدهور عنواناً مختوماً على جبهة لبنان العريضة، حتى لو تعدّدت العوامل والعناصر لكن النتيجة بقيت واحدة: انهيار مدقع على كل الصعد وفي كل القطاعات وإن بِنِسبٍ مختلفة.
وليس قطاع الكهرباء سوى قمّة الإحباط والانهيار في حمأة الأزمات وما أكثرها. سنوات خطّت سياسة متخبّطة في قطاع الطاقة لم تصلح ما أفسدته السنون، بل فاقمت المشكلة أزمات مُحبِطة، والخسارة خسائر نازفة، و”النتيجة: ظلام شامل تخرقه ساعة كهرباء واحدة… في أسبوع”. أما مصادر الفيول فتاهت بين هنا وهناك، و”النتيجة: فتات يرقّع معملاً ويسند آخر، في انتظار رأفة الدول الشقيقة والصديقة ورحمة البنك الدولي لتأمين شحنة من هذا وباخرة من ذاك.
نائب رئيس مجلس الوزراء السابق النائب غسان حاصباني يفنّد عبر “موقع القوات اللبنانية الإلكتروني” الأزمات المتشعّبة التي تخنق المواطنين وتُفقدهم أدنى مقوّمات حياتهم وعيشهم، لسبب وحيد هو “عدم وجود كهرباء”… شارحاً باقتضاب أزمة قطاع الطاقة المتفاقمة منذ ست سنوات من دون الوصول إلى الحلول الجذرية المرجوّة. وينطلق بسَرد مشاكل الطاقة من منطقة الأشرفية التي تعاني من أزمة انقطاع المياه منذ عشرة أيام متتالية، “وبعد البحث والتدقيق في الأسباب تبيّن أنها تعود إلى عدم تأمين التيار الكهربائي من معمل الزوق إلى مضخّة المياه في منطقة ضبيّة لضخّها إلى الأشرفية. ويتكبَّد سكانها كلفة شراء مياه الشرب ومياه الاستعمال المنزلي في ظل التخوّف من تلوّث المياه وتفشّي وباء الكوليرا… كل ذلك بسبب انقطاع الكهرباء”.
ويعرّج على القطاع الاستشفائي “وما يعانيه في هذه الفترة من مشاكل جمّة تعود إلى المشكلة الرئيسية وهي انقطاع الكهرباء وارتفاع كلفة المازوت لتشغيل المولدات الخاصة”. ويشير إلى أن “كلفة المازوت التي يتكبّدها أي مستشفى للمحافظة على استمرارية عمله الاستشفائي، توازي تقريباً 40 في المئة من الكلفة التشغيلية… لذلك نجد أن هناك مستشفيات عدة تتجه إلى الإقفال”.
ويتوقف حاصباني عند قطاع الاتصالات “الذي يسجّل انقطاعات متقطعة وكأنها تخضع للتقنين، وذلك بسبب عدم توفير الكهرباء لشبكة الاتصالات، وتلجأ بالتالي المؤسسات والشركات المشغّلة لقطاع الاتصالات إلى تشغيل المولدات الخاصة وتكبّد كلفة المازوت المرتفعة في حال توفّر”.
يقول، تزيد كلفة الكهرباء على اللبنانيين بشكل ملحوظ نظراً إلى ارتفاع فواتير المولدات الخاصة بشكل خيالي، الأمر الذي يدفع بعضهم إلى تعليق الاشتراك في المولدات الخاصة والبقاء في الظلمة بسبب عدم قدرتهم على تسديد الفاتورة الشهريّة. الأمر الذي يؤشّر إلى أن الحياة الطبيعية اليومية فقدها لبنان بسبب انقطاع الكهرباء.
ويُلفت إلى أن “كلفة الكهرباء منذ العام 2010 إلى اليوم، والتي تشمل المصاريف التشغيلية وشراء الفيول، فاقت الـ24 مليار دولار اقترضتها مؤسسة كهرباء لبنان سلفات خزينة من الدولة إضافة إلى الأموال التي حصّلتها من المواطنين”، معتبراً أن تلك الخسائر المسجَّلة في السنوات العشر الأخيرة تفوق نصف مجموع خسائر الكهرباء طوال الـ30 سنة كاملةً”.
“كل هذه الخسائر… ولم يتوفّر التيار الكهربائي!” يقول حاصباني “لأنه لم يكن هناك أي استثمار فعلي لإنتاج الكهرباء منذ نحو العام 2011 إلى اليوم، فيما المعامل كلها أصبحت قديمة الصنع. علماً أن هناك قانوناً وُضع في العام 2002 لتنظيم قطاع الكهرباء، لكن لم يتم تطبيقه، لماذا؟ لأن القانون الذي ينصّ على إنشاء الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء وعلى إعادة هيكلة للقطاع برمّته، يتضمّن الفصل بين قطاع الإنتاج وقطاع النقل وقطاع التوزيع. في الأول يتم الاستعانة بالقطاع الخاص للاستثمار في إنتاج الكهرباء بطرق ووسائل عدة. وفي التوزيع أيضاً إدخال الشراكة مع القطاع الخاص لتوزيع وصيانة الشبكات المحلية، وتبقى شبكة النقل التي في يد “مؤسسة كهرباء لبنان” للدولة. وهناك ما يسمّى “تشركة” كهرباء لبنان أي فصل تام للمؤسسة كشركة تابعة للدولة لكن تعمل باستقلالية مالية.
“كل ذلك لم يحصل”، يُضيف حاصباني، “كل شيء مرتبط بالوزير فيما كهرباء لبنان أمست جزءاً من الوزارة بدل أن تكون مؤسسة مستقلة، في ظل غياب الاستثمارات في البنى التحتية”. ويقول إن “هذا النهج المعتمد في عرقلة تشكيل الهيئات الناظمة بحجج مختلفة لإبقاء السلطة في يد الوزير، أو الصراع الذي كان قائماً من قِبَل الذين توالوا على وزارة الطاقة لتعديل القانون ونسف دور الهيئة الناظمة والإبقاء على السلطة في يد الوزير قبل تطبيق القانون، جعل هذا القانون مجمّداً”.
ويتابع، كما أن الإصرار على مقاربات معيّنة لإنشاء المعامل أدى إلى عرقلة المشروع، لأن خطة إنشاء المعامل بقيت حصراً في يد الدولة اللبنانية، ولم تدخل فيها استثمارات من القطاع الخاص، وبالتالي لم تستطع الدولة تمويلها لا بقروض ولا بتمويل ذاتي طوال تلك الفترة، نظراً إلى فقدانها القدرة على ذلك، كما أن القروض الدولية ولا سيما من البنك الدولي تكون دائماً مشروطة بالإصلاحات التي لم تطبَّق. وعندما كان التمويل متاحاً من الصندوق الكويتي لإنشاء معمل جديد كمعمل الزوق، تم رفض التمويل من قِبَل القيّمين على الوزارة آنذاك بحجّة أنها تتطلب تمويلاً ذاتياً داخلياً وليس عبر قروض خارجية، إضافةً إلى عدم الرغبة في التزام شروط تلك القروض… وفي الخلاصة ضاعت هذه الفرصة.
ويُضيف، إنها الأسباب الرئيسية التي رشحت عن الجهة التي كانت تسلمت زمام قطاع الكهرباء طوال تلك الفترة منذ ما قبل العهد… لكن قمة هذا التصرّف أصبحت واضحة للعلن خلال السنوات الست الماضية، وتجلّت في الإصرار على إنشاء المعامل بإشراف مباشر من مكتب الوزير وبدون تطبيق قانون المحاسبة العمومية والشراء العام والذي كان يشوبه الكثير من الغموض. الأمر الذي أدى إلى عدم الحصول على التمويل المناسب وإنشاء معامل الإنتاج.
ويتابع، كما أن الخطة الموضوعة في العام 2010 وتم تطويرها، لم يتم تطبيقها من قِبَل أصحابها طوال السنوات الماضية. فالخطة لم تقتصر فقط على الإنتاج والمعامل، إنما ضمّت 18 بنداً ومن بينها:
– العدادات الذكيّة التي وجب تركيبها نهائياً في العام 2016، لكن ذلك لم يحصل على الرغم من أن أحداً لم يمنعهم من ذلك أو عرقل المشروع.
– نظام الفوترة الحديث لتحصيل الفواتير بطريقة منتظمة شهرياً… لم يُطبَّق أيضاً.
– إجراء الإصلاحات على الشبكة وتخفيف الهدر عنها. تم تصليح عدد محدود من الوصلات والمحوّلات، لكن ليس الشبكة بكاملها. وحتى لو أصلحنا الإنتاج فهناك أكثر من 30 في المئة منه تذهب هدراً على الشبكة ولا تصل إلى المواطن.
– إزالة التعديات على الشبكة، إذ نُظمت حملة في مهلة شهر لإزالة التعديات ومن ثم توقفت. في حين كان يجب أن تكون عملاً دائماً بين وزارة الطاقة والقوى الأمنية. وهنا نسأل هل مَن عرقل ذلك؟ عندما كنا نطرح هذا السؤال خلال جلسات مجلس الوزراء، كان الجواب “هيدا مش شغلكن… شغل الوزير”!
ويُضيف حاصباني، كل تلك النقاط هي أمثلة لمسار 6 أو 7 وزراء تعاقبوا على وزارة الطاقة منذ العام 2007 إلى اليوم: النهج ذاته، المقاربة ذاتها، وتراجع كبير بدل التطوّر قدماً. لقد عرقلوا نفسهم بأنفسهم في عدم تطبيق الأجزاء الأساسية للخطة التي وافق عليها مجلس الوزراء وأقرّها ولم يعترض عليها أحد… إنما لم يتم تطبيقها من قِبَل الوزراء المولجين بذلك. وعلى سبيل المثال لا الحصر، أقرّ مجلس الوزراء في العام 2017 قراراً يقضي بأن يكلّف وزير الطاقة “مؤسسة التمويل الدولية” IFC بإجراء دراسة كاملة لإنشاء “معمل دير عمار 2” ووضع دفتر شروط خاص به، وحتى العام 2022 لم يحصل ذلك!
وعن توقيع زيادة تعرفة الكهرباء، يقول، إن القلة القليلة من المواطنين الذين تَصِلَهُم فواتير “مؤسسة كهرباء لبنان” ويسدّدونها بصورة دائمة، سيدفعون وفق التعرفة الجديدة فارق خسائر قطاع الكهرباء، والتي ستُحتَسَب وفق سعر صرف منصّة “صيرفة” مقابل ساعات محدودة من التيار الكهربائي، والهدر الكبير الحاصل على الشبكة. إن زيادة التعرفة من دون فوترة شهرية صحيحة وفق نظام حديث، وبدون نزع التعديات على الشبكة، وبدون تحصيل الفواتير بشكل سليم، تؤدي إلى هدر ما بين 20 إلى 30 في المئة من القيمة المالية.
المدير العام السابق للاستثمار في وزارة الطاقة والمياه غسان بيضون يتحدث بدوره لـ”موقع القوات اللبنانية الإلكتروني” عن شوائب سياسة القطاع الكهرباء التي انتهجها وزراء الطاقة ولا سيما في السنوات الست الأخيرة، ويقول، تبنّت الحكومة خطة كهرباء لم تتعرّف عليها مع أن تكلفتها ونتائجها الكارثية معروفة. وافقوا على خطة تم تطويرها ثلاث مرات و”الخير لقدام”. خطة وُضِعت في ظروف العام 2009 واليوم بعد 12 سنة اختلف الواق :القطاع الخاص متردّد، والدولة عاجزة مالياً وغير قادرة على استملاك أراضٍ للمعامل.
ويُلفت في المقلب الآخر، إلى أن “الهيئة الناظمة للكهرباء يجب أن تكون مستقلة عن الوزير في خياراتها وتؤمّن استمرارية واستقرار الإشراف على الالتزام بتوجّهات القطاع بمعزل عن تغيير الوزير، ولا يجوز أن يتم تأمين الاستقرار من خلال الإبقاء على وزير من النهج ذاته”، معتبراً أن “الخلاف هو على صلاحيات الهيئة وليس على دورها ووجودها”.
وعن زيادة التعرفة يعتبر بيضون أنّ “رفع التعرفة هو وهم أكثر مما هو حقيقة، إذ لا يمكن لأي زيادة أن تغطي عجز مؤسّسة كهرباء لبنان المالي على صعيد الديون والمتأخرات، والمبالغ المتوجب دفعها لمقدمي الخدمات والمرصودة لملف البواخر وغيرها، وبالتالي ما من جدوى من رفع التعرفة”.
ويقول، أسئلة برسم الحاكم في معرض التفاوض على توفير ثمن المحروقات للكهرباء على مدى ستة أشهر تبدأ المؤسسة في نهايتها بالمباشرة بردّ هذه المبالغ من حصيلة رفع التعرفة:
١- هل تعرّف الحاكم على حقيقة الأوضاع المالية للمؤسسة وحجم ديونها والمبالغ المستحقة بذمتها لمقدمي الخدمات وغيرهم من الموردين؟
٢- هل يعرف الحاكم أن نسبة الهدر من الكهرباء المنتجة كانت تبلغ حوالي 40% قبل الأزمة ورفع التعرفة، وذلك نتيجة الاستمداد غير الشرعي للطاقة اي “التعليق”. وأن هذه النسبة سترتفع ربما الى حدود 40% إن لم يكن اكثر، بعد رفع التعرفة في أسوأ ظروف اقتصادية يمر بها المواطن والاقتصاد؟
٣- هل يعرف الحاكم:
– أن الرادع الأخلاقي يمكن أن يسقط في مثل هذا الوضع، حتى عند الأوادم غير القادرين؛
– أن الفوترة وجباية الفواتير متأخرة بين سنة ونصف وسنتين.
– أن ليس لدى المؤسسة حسابات نظامية وموثوقة يمكن الاستناد اليها في تقييم أوضاعها المالية والنتائج المالية لرفع التعرفة؟
– أن نصف مجلس إدارة المؤسسة معطّل ورئيسه منتهية ولايته ومدراءها العشرة يشغلون وظائفهم بالتكليف وليس بالأصالة. ومبنى المؤسسة بحاجة لتأهيل بسبب انفجار المرفأ والعاملين فيها توزّعوا على كونتينرات وأبنية متباعدة. ومركز التحكّم مدمّر والمؤسسة غير قادرة على السيطرة على بعض محطات التوزيع؟
ويتابع، بنتيجة كل ذلك أتوقّع ان تكون التدفقات المالية الناتجة عن التعرفة الجديدة أقل من المبالغ التي ستستلفها المؤسسة لشراء المحروقات وتأمين 8 ساعات تغذية وتسدد منها مستحقاتها، وأن مصير ما سيوفره الحاكم لها لن يكون أفضل من مصير سلف الخزينة التي اعتادت على هدرها في حرّاقات المعامل.