“لِكُلِّ اِمرِئٍ مِن دَهرِهِ ما تَعَوَّدا”، على ما يقول “أبو الطيّب المتنبّي”، في مطلع قصيدته الشهيرة التي نظمها في مدح “علي بن أبي الهيجاء بن حمدان بن الحارث سيف الدولة التغلبي مؤسس إمارة حلب المعروف بسيف الدولة الحمداني”.
وهكذا الرئيس السابق للجمهورية ميشال عون، الذي أنهى ولايته بتسليم البلاد للشغور الرئاسيّ، منتصف ليل أمس الاثنين. وكما تعوَّد منذ بداياته السياسية إثر تسلُّمه رئاسة الحكومة العسكرية في العام 1988، لم يشأ إلا أن يُخلي القصر الجمهوري، الأحد في 30 تشرين الأول العام 2022 منتقلاً قبل يوم واحد من انتهاء ولايته الرئاسية إلى الفيلا التي شيَّدها في الرابية، على وقع مواقف التصعيد والوعيد والاتهامات يميناً وشمالاً والتبشير بما هو أعظم.
ولا جدل في العدائية التي طبعت مسيرة عون عبر كل تجاربه السابقة، في الحكم وخارجه. ومن اعتقد أنه قد يرحل بسلام في نهاية مسيرته السياسية، خاب ظنُّه. فعون لم يكتفِ، بل دعَّم الشغور الرئاسي بخطوة يبشِّر فيها بمزيد من الفوضى الدستورية، من خلال قبوله استقالة حكومة تصريف الأعمال من دون إصدار مرسوم تكليف رئيس جديد بالتشكيل فضلاً عن تشكيل حكومة، في محاولة لنزع الشرعية عنها، مضيفاً إليها رسالة وجَّهها إلى مجلس النواب يحضُّه فيها على نزع التكليف من الرئيس المكلف نجيب ميقاتي.
ولم يوفِّر عون أحداً من الطبقة السياسية تقريباً، في أيامه الأخيرة في الرئاسة، من الاتهامات بالفساد وعرقلة عهده وإفشاله، منزِّهاً نفسه ووريثه النائب جبران باسيل عن كل الأخطاء التي جناها على نفسه وعلى البلاد وشعبها. لكن أقسى الاتهامات صوَّبها بمعيّة باسيل على رئيس المجلس النيابي نبيه بري، الذي ردَّ عبر وسائل إعلامه بهجوم غير مسبوق في تعرية عهد عون “غير المأسوف عليه”.
وفي كلام عون وباسيل خلال الأيام الأخيرة، ما يبشِّر بشغور طويل بحسب العديد من المراقبين. فالرئيس السابق يرى أن حظوظ باسيل قائمة، والعقوبات الأميركية لا تمنعه من الترشح للرئاسة، “ونحن نمحوها بمجرد انتخابه رئيساً”. في حين كان باسيل يفتتح حملته الرئاسية، فور خروج عون من القصر الجمهوري، بإعلانه أنه متحمّس للرئاسة لكن كل شيء بوقته، حاسماً بأنه لن يقبل بدعم ترشيح حزب الله لخصمه اللدود في معسكر الممانعة الوزير السابق سليمان فرنجية.
فإلى أي مدى يمكن لحزب الله مجاراة باسيل، وهل يقدر على “زعل بري” بهذه السهولة؟ ومن هو مرشحه الفعليّ للرئاسة وهل حسم أمره على هذا الصعيد؟
المحلل السياسي علي الأمين، يرى، أن “حزب الله غير متحمِّس للإتيان برئيس على غرار التجربة السابقة ذاتها لميشال عون، التي لن يكرِّرها بعدما استنفدت شروطها وطاقتها”، مضيفاً أن “الحزب تمكَّن خلال فترة حكم عون من التغلغل أكثر فأكثر في مفاصل الدولة الأمنية والعسكرية والاقتصادية والمالية، وأحكم سيطرته. أما حسابات المرحلة الحالية فمختلفة عن السابقة”.
ويعتبر، في حديث إلى موقع القوات اللبنانية الإلكتروني، أنه “بالنسبة للحزب ليس مهمّاً من يكون الرئيس وشخصه، المهمّ هو الغطاء الدولي”، لافتاً إلى أنه “في حال ربطنا بين ما حصل في عملية ترسيم الحدود الجنوبية، التي لا شك أنها في جزء منها استجابة لمتطلبات خارجية، سواء كانت أميركية أو فرنسية أو إسرائيلية، ولبنان يستفيد منها بشكل أو بآخر منها، فحزب الله يذهب في هذا الاتجاه، أي باتجاه التسويات لا التصعيد”.
لكن الأمين يوضح، أن “التسويات لها شروطها. فالحزب يريد عقد صفقة مع طرف خارجيّ لا مع الداخل، والصفقة شروطها وحساباتها بالدرجة الأولى خارجية. أما تحت هذه المظلة الخارجية، إذا كان باسيل مقبولاً في هذه المعادلة يأتون به، وإن لم يكن مقبولاً لا يفعلون”.
ويشدد، على أن “حزب الله يهرب من الذهاب إلى انتخابات ديمقراطية طبيعية بمرشَّحَين أو ثلاثة أو أكثر، وليربح من يربح. لأن الرئيس الذي سيأتي، يجب أن يكون قد وقَّع لحزب الله مسبقاً على مجموعة شروط والتزامات، وفي أي عملية انتخابية ديمقراطية هذا الأمر غير متوفر، بمعنى أنه يمكن لمرشَّح أن ينفذ من خلالها ويكون رئيس الجمهورية متحرِّراً من أي شروط مسبقة. لذلك يرفض الحزب العملية الديمقراطية الرئاسية من هذه الزاوية”.
وبرأيه، أن “الحزب لا يريد افتعال مشكلة الآن وفرض رئيس بطريقة أو بأخرى، علماً أنه قادر إذا قرَّر ذلك، لكنه لا يريد مشكلة. لأنه بشكل أساسي يعتبر أن المرحلة المقبلة تتطلَّب على الأقل رئيساً قادراً على الذهاب إلى واشنطن وباريس والرياض وغيرها من الدول العربية، ولا يريد رئيساً يسكن القصر ولا يستطيع التحرُّك بأي اتجاه، فيما يتحمَّل الحزب مسؤولية الإتيان به”.
لذلك، “حزب الله يحاول استدراج خارج ما لعقد صفقة معه، يتم من خلالها التفاهم على رئيس للجمهورية بشروط يطمئن إليها. أما معركة بري وباسيل فلا تضرُّ الحزب بشيء، علماً أنها لا تضرّ أيضاً بأي من الطرفين المتصارعين. فباسيل يستخدمها لمحاولة شدّ عصب جماعته طائفيّاً، هذا إذا استطاع ذلك، بعد وضعيته المتراجعة في الشارع المسيحيّ. وكذلك بري، المعركة تخدمه لناحية تنشيط الجماعة. بالتالي هي محاولة افتعال مشكلة أو جبهة جديدة من لا شيء واستخدامها في هذا الإطار”، بحسب الأمين.
ويلفت، إلى أن “بري وباسيل لا يستطيعان القفز فوق قرار حزب الله متى اتَّخذه. لكن الحزب لا يرى أنه سيحسم قراره في وقت قريب، لأن ظروف الاتفاق مع طرف خارجيّ ما حول المسألة لم تنضج بعد. وفي الانتظار، ربما يستدرج هذا اللعب القائم، إذا صحّ التعبير، خارجاً ما لعقد صفقة تخدم مصالح الحزب. بالتالي، لا بأس بالنسبة إليه من تعبئة الفراغ بخلافات المنظومة الحاكمة في ما بينها، بدل أن يتم تعبئته بتصويب السهام عليها من قبل معارضيها”.
أي عملية نسخ من دون ذكر المصدر تعرض صاحبها للملاحقة القانونية