يدخل لبنان مرحلة جديدة غير مسبوقة في تاريخه في ظل تعطيل كامل للسلطة الإجرائية: شغور رئاسي، وحكومة مستقيلة في حكم تصريف أعمال.
أضف الى ذلك فإن مجلس النواب شبه معطل كونه أساساً هيئة ناخبة في ظل الشغور الرئاسي كما ثمة محاولة لتعبئة الوقت الضائع باجتماعات وحوارات ونقاشات ريثما تتضح الصورة.
هذا يعني أن مصير الاتفاق مع صندوق النقد الدولي أصبح في خطر، واحتمال إجراء إصلاحات من أي نوع أصبح ضئيلاً إذا استمرت هذه الظروف. ما يحتّم الحاجة الملحة لانتخاب رئيس للجمهورية بالآليات الدستورية، على ألا يستغل هذا الوضع لأخذ الشعب اللبناني والوطن رهينة من قبل قوى الأمر الواقع والتعطيليين للوصول الى تسوية تحت ضغط الفراغ.
هذا الجمود في بلد منهار يعني دولة فاشلة بكل المعايير. لم تعد الدولة
(the state) قادرة على إدارة شؤون الوطن (the homeland) حتى بأدنى الحدود. الدولة والشعب مؤتمنان على الوطن. الشعب يهاجر ويمرض ويفتقر ويجوع ويصرّف أعماله بالحد الأدنى، والدولة تصرّف شؤون ما تبقى لها من أعمال، وتعتمد المؤسسات القليلة المتبقية على مساعدات خارجية.
لا سيادة للدولة على قرارها، لا قدرة لها لتأمين الخدمات الأساسية لشعبها وتعيش في عزلة عن محيطها والمجتمع الدولي، إلا عندما تكون لهذا المجتمع مصالح محددة على غرار ترسيم الحدود البحرية.
غاز مثله مثل “السمك في البحر”، سدود كلفت المليارات وهي جافة، كذلك محطات التكرير وهي لا تعمل، لا ضبط للحدود أو التحصيل الجمركي، لا كهرباء، لا دواء، لا استشفاء، وقريباً لا تعليم إلا على حساب المساعدات الإنسانية الخارجية. جزء كبير من العاصمة مدمر جراء ثالث أكبر انفجار في التاريخ، ومرفأها لا يعمل بشكل كامل.
النظام المالي تحول من مصرفي إلى “كاش”، فاستفادت منه شركات تحويل الأموال أكثر مما كانت تستفيد المصارف على حساب الشعب. عمت الفوضى في التهريب وتبييض الأموال وأصبح من كان خارج النظام المصرفي أصلاً، أكثر قوة، يستفيد من المقدرات… والمخدرات.
بكل المعايير، يسلم رئيس الجمهورية شعبه دولة فاشلة في حكم تصريف أعمال، بيد أن الوطن لا يزال موجوداً. لكن استمرار الدولة بالفشل والشلل الذي أصبح هو القاعدة، سيدخلنا سريعاً في مرحلة الخطر على الوطن.
لا شك أن الفساد والسلاح ساهما بشكل أساسي في التدمير المنهجي للدولة. لكن ما عزّز مفاعيلهما، هو نهج التعطيل، والاستقواء، والدخول في الصفقات من تحت الطاولة بينما تتم المجاهرة بالخصومة من فوقها، نهج محاولة دخول نادي الفاسدين بحجة تعزيز حقوق الطائفة وحضورها في الدولة، نهج غذى الخروج عن الدولة وأعطاه الغطاء، نهج يعتبر الإخفاق انتصاراً والهزائم أحداثاً مجيدة تستأهل الاحتفال. نهج العتمة والتعتيم عن الحقيقة، وتطويع القضاء والمؤسسات، نهج التدمير الشامل والقفز بالبلاد في الهاوية لإلزام الجميع على التنازل لصالحه.
هذا النهج الذي سبق العهد ورافقه، قد يستمر في المستقبل إذا لم يتم تعديله على المستويين الوجداني والوجودي، لأنه سيكون مع حلفائه، أكبر تهديد للوجود والكيان.
مشهدية خروج رئيس الجمهورية من القصر أظهرت مدى حاجة تياره السياسي لتصوير الحدث وكأنه بداية وليس نهاية، لأن شيئاً لم ينجز ولا مبرّر لدخول السلطة بأوسع مروحة دعم كرئيس لكل البلاد، وخروجه فقط كرئيس لتيار من دون تقدم في شيء، لا بل تراجع في كل شيء تقريباً. هي محاولة لتيار سياسي أن يظهر الفشل وكأنه إنجاز بعدما أُعطي فرصة ذهبية وأضاعها على نفسه وعلى البلاد.
فلا نفرَحَنّ بنهاية عهد هو فقط بمثابة مرحلة من مراحل نهج مستمر، ساهم في تدمير تاريخ ومستقبل مناصريه ومناهضيه على حد سواء.
لإنقاذ الوطن والخروج من الفشل، علينا أن نعمل مجتمعين لتأمين انتخاب رئيس للجمهورية بالأطر الدستورية، يعيد للدستور مكانته قبل فوات الأوان. فهذا الانتخاب هو الخطوة الأولى في مسار إنقاذ الوطن وفي تعديل مسار نهج دام عقود وساهم في الوصول الى هذا الوضع، قبل أن يتبع تصريف الأعمال، تصريف وطن، ولا يمكن أن نسمح بذلك.