إنّ واقعَنا المُبَرمَج أفرزَ بعضاً من مُتَعاطي السياسةِ المُنخَفِضي المستوى، والمُفتَقِرين الى سلامةِ التّفكير، والمُتَشَرنِقين في قمقمِ خلفيّاتِهم النّرجسيّة، بحيثُ أنّ مفهومَ رئاسةِ الجمهوريّةِ قد اختلطَ عليهم، فاستشاطوا تنظيراً عشوائيّاً لم يُوَفِّ هذا النِّطاقَ حقَّه. من هنا، سأحاولُ الإضاءةَ على هذا الحَيِّز، بإجابةٍ على سؤالٍ بديهيٍّ هو : ما هي رئاسةُ الجمهوريّة ؟ أو ” ما ” هو رئيس الجمهوريّة؟
إنّ لبنان ينعمُ، ولو بالشَّكلِ، بالنظامِ الديمقراطيّ، فنحنُ، فعليّاً، نحافظُ على الديمقراطيةِ ولا نمارسُها. ولمّا كانت الديمقراطيةُ نظامُ المواطنينَ جميعاً تفترضُ آليّةً موجِبة هي الإنتخابات، فإنّ القاعدةَ العريضةَ تمنحُ ثقتَها لِمَنْ يمثّلونها في البلاد، وهذا يعني، تحديداً، أنّ رئيس الجمهوريةِ الذي يحوزُ على الأغلبيةِ النيابية، يكون قد أُعطِيَ التّوكيلَ الذي منحَهُ الشّعبُ لنُوّابِه. وبَعيداً عن كلِّ فِقهٍ قانونيّ، وعن أيِّ اجتهادٍ تشريعيّ، وعن أيِّ تفسيرٍ دستوريّ، واستناداً الى القاعدة الثلاثيّة في الرياضيّات، يكون رئيسُ الجمهورية ممثِّلاً للشّعب بكليّتِه، أي أنّه الرئيسُ الفِعليّ والشّرعيّ لِأَكبر كتلة نيابية، على أساس أنّ المجلسَ النيابيّ هو الذي انتخبه. من هنا، وبشرطِ أن يكون الرئيسُ رئيساً متأبِّطاً الدّستورَ، وذا شخصيّةٍ جريئةٍ وصادقة، وأن تكونَ تبعيّتُه للوطنِ فقط، يحقُّ أن تكون له كلمةٌ وازنةٌ في الدولة، ليؤَمِّنَ إرادةَ الشّعبِ وخيرَه العام، وخصوصاً في القرارات المصيريّة التي تحكمُ مستقبلَ الوطنِ وأَهلِه.
إنّ رئيسَ الجمهوريّة هو حارسُ الدّستور، ويتولّى الحرصَ على استمراريّةِ كيانِ الدولة، وعلى حمايةِ الإستقلالِ الوطنيّ، وسيادةِ الشّعب، ووحدةِ الأرض، ويرعى عمليةَ سلامةِ الدولةِ وأمنِ المواطنين. وهو درعُ النّظام الديمقراطيّ الجمهوريّ، الذي يتظلَّلُه اللبنانيّون ويفيدون من أُعطياتِهِ، وفي مقدِّمِها الحريّة. وهو الحَكَمُ الحياديُّ اللّافِئِويّ إلّا في ما يُعتَبَرُ قضايا الوطنِ الإستراتيجيّة، وجوداً، وكياناً، وهويّةً، وسيادةً… لذلك، هو عَمودُ الدولةِ ومرتَكَزُها الأمين، والقادرُ على التّأكيد بأنّ الممارسةَ الديمقراطيةَ ممكِنة، وفي صحّةٍ جيّدة.
إنّ رئيسَ الجمهوريّة هو، وحدَه، الرّمزُ الوطنيُّ لأنه الضّامنُ للدولةِ ووكيلُ النّاس. من هنا، وكونَه المسؤولَ الأوّلَ عن أمانِ الشّعب، ويأخذُ، على محملِ الجدّ، قلقَ مواطنيه وحقوقَهم، يجبُ أن تكون له وِقفاتٌ سلطويّةٌ هي من أبسطِ واجباتِهِ القانونيّة، وأن يكونَ البندُ الأولُ في جدولِ أعمالِهِ استرجاعُ الأمنِ المنهوب، والحكمِ المسلوب، والكرامةِ الوطنيّةِ المُفَسَّخة، من مَحميّاتِ قُطّاعِ الطُّرقِ، وعصاباتِ الطّارئين، ما يعيدُ الأهميّةَ للمعطى القانونيّ للدولة، ولهيبةِ الرئاسةِ بالذّات.
إنّ رئيسَ الجمهوريّةِ من شأنِهِ أن يدخلَ من البابِ الواسعِ الى كَنفِ السيادة، مُعلِناً عن القدرةِ على تسييرِ شؤونِنا بنفسِنا، وبقرارٍ صُنِعَ في لبنان. فقد هالَنا، وعلى مدى عُقود، ما اقترفَتهُ أدواتُ المؤامرةِ على بلادِنا، وعلى سلامتِها، لذا، على الرئيسِ أن يكونَ شأنُهُ شأنَ الرِّجالِ الأشدّاءِ الذين يُعتَدُّ بهم في المواقفِ الملتهِبة، متصَدِّياً لِمَن يتمادَوا في التعدّي على مكوّناتِ السيادة، والسيادةُ قضيّةُ حقّ، تَصَدِّياً يُحدِثُ صدمةً نوعيّةً تُثبتُ أنّ كرامةَ السيادةِ مواجَهَةٌ وليسَت استجداءً.
إنّ رئيسَ الجمهوريّةِ يلامسُ جراحَ الوطنِ، من موقعِهِ الدستوريّ، ومن ثباتِهِ واستقامتِهِ على الحقّ، والثَّباتُ على الحقِّ واجبُ الحرّ، فإنّ موقفَهُ في هذا المجالِ غيرُ قابلٍ للمساومة، فقَدَرُ الرئيسِ في المواقفِ لا في التنصّلِ، وفي الرّضوخِ للإبتزاز، والتّهويل، والصّفقات، وهذا يعني، تماماً، أنّ سلوكيّاتِ الكبرياءِ، والشّرفِ، والإعتزازِ، والرّجولة، هي قيمةُ الرئيسِ المجرَّدةُ التي وُلِدَت مع تَشَكُّلِ جُبلتِه، وهي أسمى من أن يَعلُوَ عليها شيء، وبها، وحدَها، كمبادئ، يكتملُ يَقينُ الرئيسِ بنفسِه، كرَجُلٍ مسؤول.
إنّ رئيسَ الجمهوريّةِ قادرٌ على إعادةِ العالَمِ الى الطاولةِ اللبنانيّة، وهذا حقُّهُ وواجبُهُ، والواجبُ لا رموزَ فيه، فلبنانُ الحضارةِ لم يكن، يوماً، متقوقِعاً، منزَوياً، منكمِشاً لا يجاري طُيوفَ التقدّمِ، والمشاركة، ومزايا الرقيّ، وغيرَ مُنفلِشٍ على المدى الإنسانيِّ الرَّحب، فلبنانُ اللّيبيرالِيُّ التوجّهِ هوعابِرٌ للحدودِ، دوماً، ليُنشئَ حالةً علائقيّةً تتَّصفُ بالعالميّة، وباتّزانٍ موصوفٍ، وانسجامٍ مع الحقيقةِ يُجمِعُ عليهما كلُّ العالَم. من هنا، وبعدَ أن خَبَت مصابيحُ لبنانَ، أو عُمِلَ على إطفائِها من معروفين، ليصبحَ الوطنُ خارجَ العالميّة، لا بدَّ من جَذبِ العالَمِ، شَرقِهِ وغَربِه، لإعادةِ أواصرِ التّلاقي مع لبنان، وتَبَنّي قضيّتِه، ليعودَ، كما كان، نَقشاً في صفحةِ التمدّن، ونموذجاً للحريّةِ والإنفتاح، حتى يَصحَّ القول : هل من كلامٍ عن الحريّةِ، من دونِ ذِكرِ لبنان، وليسَ فيه غَصَص ؟؟
إنّ رئيسَ الجمهوريّةِ الذي يَظهرُ منهُ للعَدلِ حِفاظ، لأنّ العدلَ هو الأَفصَحُ في عَقدِ الأحكامِ بين الظّالمِ والمظلوم، ولأنّ الإصلاحَ يبدأُ منه، عليهِ أن يفصلَ سيطرةَ السياسةِ عن العدالة، وبجرأةٍ وحزم، ويدعوَ الى تَحديثِ القوانينِ، ليجدَ النّاسُ في رُبوعِها نكهةَ الحقّ. فسَمعةُ القضاءِ من رِزقِ الرئيس، ومُخزياتُهُ هي الأَفضَحُ عِبرةً عن تراخي الرئيسِ، ما يؤدّي به الى المَحظورِ تَدَخُّلاً، واستبداداً، وفساداً، حتى يغدوَ القضاءُ أرضاً خصبةً للمُستَقوينَ ولمصالحِهم. لِذا، على الرئيسِ أن يُطلِقَ صرخةً إنتفاضَويّةً زاجرةً، وهي ضرورةٌ حتميّة، لينتقلَ بالعدالةِ في القضاءِ من دائرةِ النّارِ الى صُبحٍ واعدٍ، ومن جسدٍ مريضٍ ومسحوقٍ الى ناموسِ المجتمعِ الأعلى.
إنّ رئيسَ الجمهوريّةِ يَعبرُ، حُكماً، من مقامِ الرؤيةِ الى مقامِ الرّؤيا، ومن آثارِ الوصفِ الى إتقانِ الحُلول، خاصةً عندما تأكلُ الهمومُ الناس، ويصطرعُ في نفوسِهم الشكُّ واليقين، وتتشوَّهُ حياتُهم بالظّلمِ والجوعِ، ويواجهونَ واقعاً بائساً من لِئامِ أهلِ زمانِهم… لسنا نطلبُ، في موقعِ الرئاسةِ فيلسوفاً متجاوِزاً أو نبيّاً مُنذِراً، ولكن، لا مبالغةَ في طَلبِ رئيسٍ رائدٍ ذي نباهةٍ ثاقبة، وتَقويمٍ صائب، ومعرفةٍ واسعة، وقريحةٍ متوقِّدة، وضميرٍ نَيِّرٍ، وولاءٍ يَبذلُ ما عندَه من صدق، وبهذا، وحدَه، يُنقَشُ اسمُهُ على خواتِمِ الوطن.