كتب شارل جبور في “المسيرة” – العدد 1734
خسارتان مُني بهما «حزب الله» في أقل من ستة أشهر: الأولى تمثلّت في الانتخابات النيابية الأخيرة التي شكلت إنتكاسة مثلّثة للحزب: الأولى خسارته لورقة الأكثرية النيابية، والثانية تراجع حضوره داخل البيئات السنية والدرزية والمسيحية تحديدًا مع إنحسار وضعية حليفه الأكبر «التيار الوطني الحر»، والإنتكاسة الثالثة مع بروز حالة نيابية مستقلة غير خاضعة لتوجهاته على رغم افتقادها للتنظيم ودقة تشخيص الأزمة بسبب خبرتها الحديثة في السياسة.
والخسارة الثانية المدوِّية ترتبط بانتهاء ولاية الرئيس ميشال عون الرئاسية نظرًا للغطاء الواسع الذي أمّنه لـ»حزب الله» على امتداد ولايته، فخسر الحزب مع خروج عون من القصر الجمهوري غطاء رأس الدولة الذي دافع عن سلاحه في المنتديات ووفّر له البيئة الخصبة والحاضنة لأن يسرح ويمرح بالطريقة التي تتناسب مع أجندته.
عدم قدرة الحزب على تأمين الإنتقال السلس لرئيس من صفوفه يعدّ خسارة له وتراجعًا عن الوضعية السلطوية المتقدمة التي كان وصل إليها من خلال إزدواجية السلاح والسلطة، حيث إنه يُمسك بالسلاح خارج الدولة، ويُمسك بمفاصل السلطة، الأمر الذي أسقط الحدود الفاصلة بين الدولة والدويلة، وأصبحت الأخيرة موجودة في السلطة باسم الديمقراطية وتتولى تغطية وضعيتها خارج هذه السلطة.
وما تحقّق في الانتخابات النيابية ومع خروج الرئيس عون من بعبدا يصبّ في الاستراتيجية نفسها التي اعتمدتها القوى السيادية بدءًا من العام 2005 لجهة تجنُّب مواجهة «حزب الله» بالسلاح تيمناً بمقولة إن «السلاح لا يواجَه سوى بالسلاح»، لأن مواجهة من هذا القبيل تعني إحياء الحرب الأهلية وترسيم حدود المناطق اللبنانية بالدشم والمتاريس، فيما المطلوب ترسيم حدود العلاقة بين الدولة والحزب، وإذا كان نزع السلاح بالقوة متعذرًا، وإذا كانت العودة إلى الحرب ليست هدفاً، فإن ما هو ممكن ومتاح يكمن في منع الحزب من التأثير على سياسات الدولة.
وعلى رغم أن المشكلة الرئيسية منذ خروج الجيش السوري من لبنان تتمثّل في سلاح «حزب الله» الذي يصادر قرار الدولة الاستراتيجي ويعطِّل دورها في كل المجالات والقطاعات، إلا أن المشكلة التي لا تقلّ خطورة عن الحزب وإساءة للبنان تكمن في تحالفاته التي مدّته بمزيد من القوة والنفوذ والتأثير والفعالية، وخطيئة معظم القوى الحليفة للحزب مضاعفة كونها لم تتحالف معه إقتناعًا بمشروعه المذهبي الذي لا علاقة له بلبنان، إنما بهدف أن يمنحها النفوذ والسلطة والمال مقابل أن تمنحه الغطاء لسلاحه.
هذه الفئة السياسية مجرمة بحقّ لبنان واللبنانيين لأنها تسعى إلى السلطة على حساب الدولة والدستور والمبادئ الأساسية التي توافق عليها اللبنانيون في اتفاق الطائف لإنهاء الحرب الأهلية، وهذا يندرج في باب الفساد السياسي، لأن الفساد ليس فقط من طبيعة مالية ورشوة وسمسرات وصفقات، إنما طبيعته السياسية أخطر بكثير بسبب تآمره مع الغريب على أبناء البلد، وتبديته مصالح دول خارجية على حساب مصلحة الدولة اللبنانية.
ومن هنا فإن التحالف الأساسي الذي أساء إلى لبنان واللبنانيين وفرمل اندفاعة إنتفاضة الإستقلال وأخرج «حزب الله» من عزلته الوطنية هو الذي أبرمه الأخير مع العماد ميشال عون في 6 شباط 2006 ومدُّه بكتلة نيابية كبيرة وغطاء مسيحي، ولولا هذا التحالف لكان سلك مسار العبور إلى الدولة، الذي أطلقته قوى 14 آذار، مسارًا مختلفاً، خصوصًا أن كل تحالفات الحزب الأخرى ثانوية وهامشية.
وقد مارس العماد عون «التقية السياسية» من أجل الوصول إلى رئاسة الجمهورية، وبعد أن احتجز موقع الرئاسة الأولى لفترة طويلة، فكان أن برزت مخاوف بعض أركان 14 آذار من أن يكون الهدف من عدم انتخاب رئيس للجمهورية الوصول إلى مؤتمر تأسيسي، ففضلت انتخاب رئيس من 8 آذار بغية الحفاظ على اتفاق الطائف، وفي هذا الوقت بالذات بدأ العماد عون يبدِّل في تموضعه واعدًا بأن يكون الجسر بين 8 و 14 آذار، فإذا به مع دخوله إلى القصر الجمهوري ينسف الجسر بين لبنان والدول الخليجية ويحصِّن الجسر بين طهران وبيروت.
وقد أظهرت تجربة الرئيس عون خطورة ومساوئ وجود رئيس للجمهورية من 8 آذار، لأن إزالة الحدود بين الدولة والدويلة أدى إلى تسريع وتيرة الإنهيار المالي، وتغييب سياسة الدولة الداخلية والخارجية، فتراجعت العلاقة بين بيروت والعواصم الخليجية بشكل غير مسبوق تاريخيًا. ومعلوم أن هذا الفريق غير مؤهّل للحكم وإدارة الدول التي لا تدار سوى وفق مقاييس ومعايير واحدة ترتبط بالإلتزام بالدستور والقوانين والقضاء والشفافية والإنفتاح على الخارج وتوفير كل مقوّمات الإستقرار والإزدهار، فيما هذا الفريق لا همّ له سوى نشر ثورته الدينية التي لا يمكن نشرها سوى في مناخات الحروب وعدم الإستقرار والفوضى وتحالفات مؤازرة له تستفيد من الفساد والسلطة.
تتطلّب إدارة الدول مهارات وفنّ وثقافة وحرص على المال العام، وإذا كان محور الممانعة لا يُتقن ثقافة إدارة الدول لأنه بتكوينه ضد مفاهيم السيادة والإستقلال ونهائية الكيانات التي يعتبرها وليدة الإستعمار، وتتعارض مع سعيه لإلغاء الحدود وتوحيد الساحات تحت راية مشروعه الديني، فإن العماد عون أظهر بدوره أنه لا يُتقن إدارة الدولة وسقط في تجربتين: تجربة الحكومة الإنتقالية بين عامي 1988 و1990 حيث دُمِّرت الجمهورية، وتجربة رئاسته للجمهورية بين عامي 2016 و2022 حيث انهارت الجمهورية، ما يُثبت أن المشروع العوني نسخة طبق الأصل عن المشروع الإيراني الذي لا يتنفّس سوى من الفوضى، وغير مؤهّل للحكم وكل الحجج والأعذار التي يقدِّمها ساقطة، والأمر الأساس الذي سيبقى محفورًا في الأذهان للمستقبل أنه في كل مرة استلم فيها السلطة دُمِّر لبنان وفشلت الدولة وسقطت الجمهورية وعزل البلد وافتقر الشعب وهاجر.
ومع إنتهاء ولاية الرئيس عون تكون انتهت معه سيطرة «حزب الله» على الجمهورية من رأسها، ويكون هذا المشروع قد فقد ورقة قوة أساسية أساءت إلى ثلاثة أدوار أساسية:
أساءت أولاً إلى الدور المسيحي التاريخي الذي كان أول من ساهم في تأسيس مفهوم الدولة الحديثة في الشرق القائمة على تداول السلطة والديمقراطية والحرية والشراكة والاقتصاد الحر والإستقرار والإزدهار والعلم والثقافة والعلاقة مع العالمين العربي والغربي، فمن المعيب أن يسجّل على المسيحيين خروجهم عن خطهم التاريخي وتأييدهم لحالة تشكل النقيض لكل ثقافتهم وتجربتهم وقيمهم وأهدافهم وتراثهم وحضارتهم.
أساءت ثانيًا إلى دور الدولة اللبنانية التي شكلت المثل والمثال في العالم لجهة حداثتها وتطورها وإدارتها لتعددية حضارية وتحولها إلى مركز استقطاب علمي وثقافي وطبي وسياحي واقتصادي واستثماري، فتحولت إلى نموذج للدول الفاشلة وغير المستقرة والمصدِّرة للكبتاغون بدلا من الأدمغة، والإرهاب بدلا من الثقافة، وأصبح من الضرورة عزلها كالوباء تجنبًا لضررها.
أساءت ثالثاً إلى دور المواطن الفرد اللبناني الذي كان يفتخر بجواز سفره ويدخل إلى مطارات العالم مرفوع الرأس وصيته يتعدى بكثير وأشواط الحجم الصغير لبلده، فإذا به يتحول إلى مواطن منبوذ ويخجل بجواز سفره مع تحول وطنه إلى ساحة تصدِّر المخدرات والإرهاب والعنف وعيّنة عن المجتمعات المتناحرة والفاشلة.
مع مطلع هذا الشهر، تشرين الثاني، دخل لبنان في مرحلة جديدة أفضل بكثير من المرحلة التي سبقت كونها تعطي الأمل بالتغيير الذي لم يكن ممكنا تحقُّقه والرئيس عون ما زال في موقع الرئاسة الأولى، وبالتالي نهاية العهد العوني تعطي الأمل لبداية تعيد وضع البلد على السكة الصحيحة بعدما انحرف كثيرًا في هذا العهد، ولكن المطلوب بقوة وإلحاح ليس ملء الفراغ بأي وسيلة وطريقة تجنبًا للإستمرار في دوامة الفشل نفسها، إنما المطلوب تغيير النهج والممارسة وطريقة إدارة الدولة بدءًا من رئاسة الجمهورية مرورًا برئاسة الحكومة وصولاً إلى الحكومة مجتمعة. ومن هذا المنطلق فإن الشغور الرئاسي الذي افتعله فريق 8 آذار سعيًا إلى تحسين ظروفه الرئاسية يجب تحويله إلى فرصة لإعادة إنتاج سلطة شفافة وسيادية وإصلاحية ومسؤولة تضع نصب أعينها مصلحة البلد والشعب، إنطلاقاً من التقيُّد بأحكام إتفاق الطائف وعلاقات لبنان العربية والخليجية والدولية.
فلبنان أمام فرصة تاريخية لإنتاج سلطة جديدة، بدءًا من رئاسة الجمهورية تعيد ترسيم الحدود الفاصلة بين الدولة والدويلة، لأنه من دون هذا الترسيم سيبقى لبنان غارقاً في مستنقع الإنهيار والفشل، وفي موازاة الترسيم البحري مع إسرائيل فإن المطلوب أن يتمدّد هذا الترسيم الذي يشكل علامة من علامات نهائية الكيان اللبناني وسيادته ليشمل الحدود البرية مع إسرائيل والبحرية والبرية مع سوريا وحدود العلاقة مع «حزب الله» الذي يجب رفع تأثيره عن الدولة اللبنانية ومؤسساتها.
شارل جبور – رئيس جهاز الإعلام والتواصل في “القوات اللبنانية”
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]