أكثر ما قد يكون مؤثراً بالنسبة الى اللبنانيين في “الإنجاز التاريخي” الذي شكّله اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل والذي شكل مروحة مترامية من الموقف الأميركي الذي اعتبره كذلك الى “حزب الله” أيضاً الذي أدرجه تحت التوصيف نفسه، أنه يقع من ضمن المعادلة السياسية التي لا تبدو قابلة للتغيير فيما أمر كبير على غرار الترسيم يجب أن يحدث تغييراً ما. الحال نفسها تنطبق على انتهاء ولاية الرئيس #ميشال عون ومغادرته قصر بعبدا بما يعنيه ذلك افتراضاً من انتهاء المحاولات لتقويض اتفاق الطائف أو تجويفه وتالياً السعي الى إيصال رئيس للجمهورية يختلف أداؤه عن أداء الرئيس السابق ولا يقرأ في كتابه. ولكن هذا قد لا يكون كافياً في حد ذاته. فبقاء المكوّنات السياسية نفسها والوصفات السياسية نفسها والمعادلة نفسها على رغم هذين المتغيرين الجوهريين لئلا يذهب المرء بعيداً في الواقع الإقليمي وانعكاساته إنما يُخشى ألا يغيّر المنحى في البلد من تشاؤمي كارثي الى إيجابي تفاؤلي.
ثمة أمران مهمان يرتبطان ارتباطاً وثيقاً بتحالف تفاهم مار مخايل. يُفترض بالتيار العوني أساساً أن يعيد تقويم تجربته في الحكم التي لا يمكن اعتبارها ناجحة بأيّ من المعايير، ومجرّد تذرّعه بشعار “ما خلونا” إنما يعني إقراراً منه بالفشل سواء كان مشروعه إنقاذياً للبلد أو تدميرياً له. وهذه النقطة ليست للنقاش في هذا السياق بل إن تجربة 30 سنة مريرة انتهت بنتائج أكثر مرارة للبلد. يتعيّن على التيار العوني إعادة النظر في تفاهمه مع “الحزب” من دون أن يعني ذلك عزله ولا مواجهته ولكن ينبغي أن يقرّ بأن التغطية التي أمّنها للحزب لم تجعله يدفع الثمن وحده في حال التسليم جدلاً بتذرّع جبران باسيل بأن العقوبات الأميركية عليه بموجب قانون ماغنتسكي إنما تعود لرفضه فك ارتباطه بالحزب، وهو أمر ليس صحيحاً، ولكن هذا التفاهم أدّى الى ترتيب كلفة باهظة على البلد وعلى المسيحيين كذلك. ليس المطلوب العداء مع الحزب ولكن المتغير الأساسي الذي قد يسهم فيه التيار إذا تجرّأ على ذلك هو أحد أمرين: أحدهما الضغط عبر تحالفه مع الحزب من أجل تغيير سلوكه وإعطاء الدولة فرصة لإعادة النموّ والنهوض والاستقرار، وهو أمر غدا مستبعداً باعتبار أنه إن كان عون لم يقم بذلك أو لم ينجح فيه إذا جربه للتأثير على الحزب من أجل البلد لا من أجل مصالح سياسية أو شخصية مباشرة، فإن تياره سيعجز عن ذلك. والأمر الآخر هو فك هذا الارتباط العضوي بالحزب فيما لا تحالفات داخلية بين الأحزاب السياسية الأهم باستثناء الثنائي الشيعي، اللذين يشكلان واحداً تقريباً.
وهناك تشاؤم بإمكان مراجعة التيار العوني سياسته أقله في المدى المنظور وبعد فقدانه موقع السلطة والمخاوف من عزلته قبل ترميم صورته الذي قد يستغرق وقتاً طويلاً، ما يجعله في حاجة ماسة الى دعم الحزب وعدم القدرة على الانفكاك عنه، في حال التسليم جدلاً بقدرته على ذلك في المطلق. ولكن ما لم يسهم في الضغط من جهته، ولا نقول مع الآخرين، من أجل مساعدة “حزب الله” أو دفعه الى تغيير جوهري في سلوكه إزاء استعادة مؤسسات الدولة هيبتها وسلطتها فإن إرثه في المساهمة في دفع البلد الى جهنم لن يتغير في المدى المستقبلي المنظور. وقد يكون ما سرى لدى انتخاب عون في 2016 من أنه سيأتي بالحزب الى الدولة وحظي بدعم الكتل النيابية الأخرى هو أكثر ما يؤخذ على عون عدم تنفيذه بل تنفيذه لأداء أدى الى نتائج معاكسة، أكثر ما يسجل سلباً في سجل ولاية عون.
هناك من يعتقد بأن اتفاق الترسيم البحري مع إسرائيل انطوى على نتائج ضمنية متفق عليها في رأيهم باستتباب الهدوء على الحدود مع إسرائيل وتجديد اتفاقية الهدنة لكن مقابل التسليم باستتباب الوضع الداخلي لسيطرة الحزب أو نفوذه. وتجربة اللبنانيين المرة على طريقة “لمَ تنفخ باللبن” لأن الحليب كوى اللبنانيين، يجعلهم لا يثقون فعلاً بأنه لم تحصل صفقة ضمنية ولم تنطوِ على هذه الخلاصة وأن ما حصل كان تلاقياً في المصالح. وذلك علماً بأن أكثر من مصدر ديبلوماسي نفى ذلك. ولكن اتفاق الترسيم يشكل منعطفاً تغييرياً مهماً يضع تساؤلات عدة على الطاولة من بينها أن تجميد سلاح الحزب أو إحالته على التقاعد إذا صح التعبير يمرّ أو لا يمر من دون أثمان وما هي هذه الأثمان، فيما اتفاق الطائف والتأكيد عليه وفق ما جرى في الأيام والأسابيع الأخيرة قد سحب من طاولة التفاوض عليه أو تغييره. وقد انبرى مسؤولون في الحزب الى تأكيد ذلك علماً بأنه، على الطريقة التي اتبعها عون، فإن التغيير هو عبر الاجتهاد والتأويل والتعطيل كذلك. ويعتقد أن التيار العوني سيحاول أن يضغط على أي رئيس مقبل للجمهورية من أجل تبنّي أسلوب عون والاجتهادات الدستورية لمستشاريه. وهذا ما يُخشى منه على الرئيس العتيد في ظل استمرار التيار في لعب دور الغطاء السياسي لحليفه الشيعي. وهو دور لا يمكن الاستهانة به باستعادة مفصّلة للأعوام الماضية.
لم تُطرح هذه الاسئلة بعد ولن يُسمح بأن تطرح في ظل انشغالات أكثر مصيرية بالنسبة الى لبنان في هذه المرحلة. ولكن يعتقد مراقبون أن الشراء والبيع في عملية التوصل الى الرئيس العتيد والحكومة المقبلة يمكن أن يكشفا الكثير من المنحى المتوقع، فيما هذه العملية لم توضع بعد على الطاولة ولذلك لا تُطرح أسماء ولا تجري المخاطرة بها في انتظار الوقت الملائم.