كتب المحامي أنطوان عون في “المسيرة” – العدد 1734
الترسيم… إتفاق معاهدة أم وثيقة؟
الكلمة الفصل للقانون!
طرحت إتفاقية ترسيم الحدود البحرية إشكالات متنوّعة وجدلاً سياسيًا واسعًا، في ظل التجاذبات اللبنانية الداخلية في زمن الإنهيار الاقتصادي والإنكماش التجاري وتفاقم الأزمات الإجتماعية والصحية والبيئية…
من الطبيعي، على ضوء ما تقدم، أن ينظر الشعب اللبناني بشيء من التفاؤل وبالكثير من الحذر والتشكيك في احتمالات تحسّن الأوضاع والحدّ من الإنهيارات المتلازمة، من جرّاء تحوّل لبنان الى دولة منتجة للنفط والغاز.
وعليه، لا بدّ من إجراء قراءة موضوعية، علمية وهادئة لاتفاق ترسيم الحدود البحرية، بعيدًا عن التجاذب السياسي ومحاولة إستغلال تلك الإشكالات لتحقيق مكاسب معنوية، سياسية وانتخابية من هنا أو هناك، وبعيدًا عن الأسئلة التقنية والهندسية والاقتصادية.
نكتفي في الدراسة الحاضرة بإجراء توصيف قانوني لهذا الإتفاق على ضوء المبادئ العامة للقانون الدولي العام الناظمة للمعاهدات الدولية، وكذلك النصوص الدستورية اللبنانية ذات العلاقة في الأنظمة البرلمانية عمومًا والدستور اللبناني خصوصًا.
في قواعد القانون الدولي العام المتعلقة بالمعاهدات والإتفاقيات الدولية:
وفقا للدكتور وليد بيطار (القانون الدولي العام ص 154)، المعاهدة إتفاق يُبرم بين أشخاص القانون الدولي من أجل إنتاج آثار دولية. والمعاهدة تعقدها الدول الكاملة السيادة والمنظمات الإقليمية والدولية المعترف لها بالشخصية القانونية الدولية.
من جهته، قدم الدكتور أحمد أبو الوفا (الوسيط في القانون الدولي العام طبعة رابعة 2004 ـ القاهرة ص 92 الى 95) تعريفاً للمعاهدة الدولية وخصائصها كالآتي:
«المعاهدة الدولية إتفاق دولي يتم إبرامه بين شخصين أو أكثر من أشخاص القانون الدولي، يحكمه هذا القانون، سواء تمت صياغته في وثيقة واحدة أو أكثر، أيًا كانت تسميته أو عنوانه».
وفي سياق متصل، يرى الدكتور محمد السعيد الدقّاق (القانون الدولي ـ المصادر والأشخاص ـ طبعة 1992 ـ الإسكندرية ـ ص 47 الى 57) أن المعاهدات الدولية هي إتفاقات مكتوبة تتم بين أشخاص القانون الدولي بقصد ترتيب آثار قانونية معيّنة وفقاً لقواعد القانونا لدولي العام.
(يراجع في تحديد المعاهدة الدولية: عز الدين فودة ـ الدور التشريعي للمعاهدات في القانون الدولي ـ المجلد 27 سنة 1971 ص 99 وما يليها و: Rousseau CH – principes généraux du Droit International public – Paris – PEDONE – 1944 p.143).
أما في معايير تصنيف المعاهدات في القانون الدولي العام:
فإن عقد المعاهدات يعني قيام تصرفات قانونية ملزمة، صحيحة ومشروعة، ولا تضرّ بالغير، ادخل التصديق إليها بمقتضى القانون الداخلي (الدستوري) لإعطائها ضمانات تتعلق بالإلتزام بها وجعلها جزءًا من النظام القانوني للدولة.
المعاهدة هي من الأعمال السياسية التي لا يجوز أن تظل محصورة بين الحكام، بل يجب إطلاع المواطنين على أحكامها وعلى ما تنشئه من حقوق والتزامات، وتحتاج الى تصديق السلطة التشريعية على مضمونها.
المعاهدة تقيّد الدولة وليس فقط الطبقة الحاكمة، فتظلّ الدولة مرتبطة بها بعد رحيل الذين أبرموها. والمعاهدة شهادة على سيادة الدولة وإبرامها يمثل التلاقي بين القانون الدولي العام والقانون الدستوري (الداخلي لكل دولة موقّعة أو منظمة).
لا تكون المعاهدة إلا مدوّنة. ففي التدوين إثبات للحقوق والإلتزامات المتبادلة بين الأطراف التي أبرمتها.
تمر المعاهدة الدولية بمراحل ثلاث أساسية:
المفاوضات، وهي تجري بين الدول وأشخاص القانون الدولي بواسطة ممثلين أو مفاوضين مندوبين مزوّدين بأوراق تفويض (وثائق مكتوبة صادرة عن رئيس الدولة أو رئيس الحكومة أو وزير الخارجية).
موافقة سلطات الدولة على المعاهدة وفق الأصول والآليات الدستورية المحددة والخاصة بكل دولة.
مرحلة تطبيق المعاهدة من قبل الدول الملتزمة بأحكامها.
تختلف القواعد الدستورية المتعلقة بشروط عقد المعاهدات والتصديق عليها باختلاف الأنظمة السياسية. أما صلاحيات البرلمان، فتظل إلزامية بالنسبة الى المعاهدات التي تتطلب مراحل قانونية مكتملة.
في الأنظمة البرلمانية:
يمارس البرلمان دورًا فعليًا في عملية تصديق المعاهدات. وتنص الدساتير في الأنظمة البرلمانية على وجوب إخضاع المعاهدات الهامة لموافقة البرلمان الذي يدرس بنودها بالتفصيل ويصوّت عليها، وله أن يرفضها أو يطلب تعديل بعض أحكامها. وفي هذه الحالة الأخيرة يتوجب على الدول المتعاقدة الأخرى أن توافق على التعديلات المقترحة. إن لعمل البرلمان نتائج خطيرة على كيان المعاهدة، فإذا رفض التصديق عليها، لا تستطيع الدولة الإلتزام بها (…)، أما إذا وافق عليها، فتستكمل المعاهدة الخطوات النهائية لصدورها كقانون في النظام الداخلي.
حق التصديق بين البرلمان والحكومة:
في فرنسا نص القانون الدستوري لعام 1875 (وهو أحد المصادر الرئيسية لواضعي نص الدستور اللبناني لعام 1926) على توزيع إختصاص التصديق بين الحكومة والبرلمان، فالرئيس هو الذي يصدّق المعاهدات. أما المعاهدات التي تتطلب تصديق البرلمان، فقد حددها الدستور بمعاهدات الصلح والمعاهدات التجارية والمالية، والمعاهدات المتعلقة بالجنسية، والمعاهدات التي يكون موضوعها التعديلات الإقليمية (تنازل أو ضمّ أو تبادل)، ومعاهدات تحديد الحدود (Délimitatoin des Frontiétes)
في إحالة القانون الدولي العام الى القانون
الدستوري الداخلي:
يتم تصديق المعاهدات والإتفاقيات الدولية وفق القواعد المنصوص عنها في الدستور. فهو بمثابة الشروط الشكلية لصحة المعاهدة. والتصديق الذي يتعارض مع هذه القواعد الدستورية يعرّض المعاهدة للبطلان.
وبالمعنى ذاته، يرى العلامة الفرنسي (Pierre – Marie Dupuy) في مؤلفه «القانون الدولي العام» (Précis Dalloz 3e éd.) ص 209 فقرة 247 بعنوان «ليونة الإجراءات»: «Le choix entre les divers types de procedures (…) est laisse aux Etats (…). Les contradutes formelles (…) peuvent venir des exigences posées dans leur Droit constirutionnel interne, elle ne réaultent pas, en règle Générale, du Droit international».
أي ما تعريبه: «إن الخيار بين النماذج المختلفة من الإجراءات… متروك للدول المعنية (…) أن الإلزامات الشكلية يمكن أن يكون مصدرها القانون الدستوري الداخلي، ولا يكون مصدرها عمومًا أحكام القانون الدولي العام.
في التوصيف القانوني لاتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل:
أولاً: في فقه القانون الدولي العام:
1-تلاقى فقهاء القانون الدولي العام على إعتبار إتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين بلدين، إتفاقية أو معاهدة دولية خاضعة لقواعد القانون الدولي العام، ولم تحل إليه تلك القواعد من نصوص دستورية داخلية خاصة لكل من الدول الموقّعة والمصدّقة لتلك الإتفاقية أو المعاهدة.
يراجع في الفقه الفرنسي الدولي العام:
1-Quoc Dinh – Patrick Daillier – Mathias Forteau – Alain Pellet – Droit international public – 3e éd. 2009 p. 135 – NOTE.
2- Peirre – Marie Dupuy – Droit international public 3e éd. – Précis DALLOZ – 1995 – N 247 p. 209 – 210.
2- ويلاقي الفقه القانوني الدولي اللبناني موقف نظيره الفرنسي بشأن تصنيف إتفاقية ترسيم الحدود البحرية والبرية، من بين الإتفاقيات والمعاهدات الدولية. يراجع بهذا المعنى: د. وليد بيطار (إستاذ في الجامعة اللبنانية ـ القانون الدولي العام ـ المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ـ طبعة أولى ص 185 ـ 186).
ثانيًا: في الإجتهاد الدولي:
1-حكم محكمة العدل الدولية (CIJ) الصادر في 3 شباط 1994 في قضية الخلاف على الحدود البحرية بين الجماهيرية الليبية وجمهورية التشاد، المنشور في مجلة «قرارات وآراء إستشارية وأوامر إداء محكمة العدل الدولية لسنة 1994 (ص 6 الى 40)، حيث جاء في الصفحتين 11 و 14 ما يأتي:
ص 11: «حيث إن دولة تشاد تلتمس من المحكمة تحديد ترسيم الحدود بين جمهورية التشاد والجماهيرية الليبية وفقا لمبادئ وقواعد القانون الدولي النافذة والمنطبقة على موضوع الخلاف بين الفريقين».
وفي الصفحة 14 من الحكم ذاته، وردت الحيثية الآتية: «من أجل تحديد الحدود المتبادلة للفريقين، يقتضي الأخذ في الإعتبار مجموعة إتفاقات دولية (…) وأن الحدود بين الفريقين تبقى لازمة الترسيم وفقا للمبادئ النافذة في القانون الدولي».
2- حكم محكمة العدل الدولية تاريخ الأول من تموز 1994 في قضية ترسيم الحدود البحرية بين قطر والبحرين (المنشور في مجلة «قرارات وآراء إستشارية وأوامر إداء محكمة العدل الدولية لسنة 1994 ص 112 الى 128، حيث وردت الحيثيات الآتية في الصفحة 120 البندين 22 و23):
– إن الفريقين وافقا على اعتبار تبادل الرسائل في كانون الأول 1987 بمثابة تأسيس إتفاق دولي له القوة الإلزامية في علاقات البلدين المتبادلة.
– وقد اعتبرت المحكمة بادئ ذي بدء أن الإتفاق الدولي يمكن أن يتخذ إشكالا متنوّعة، سواء أتمت صياغته بنص وحيد أو بنصين أو بعدة نسخ متلازمة، وذلك بمعزل عن تسمية تلك الإتفاقات.
– كما أفتت المحكمة ذاتها في حالة صدور بيان مشترك بين الطرفين الممثلين أصولا أنه «لا توجد قاعدة في القانون الدولي تحظر أن يعتبر بيان مشترك، إتفاقية دولية من شأنه عرض حل للخلاف الناشب بين الطرفين الموقّعين للتحكيم أو الى القضاء. (مجلة محكمة العدل الدولية لسنة 1978 ص 39 ـ المقطع 96 ــــ حكم Plateau Continental de la mer Egéé – Arrêt C.I.J. Recueil 1978 – p. 39 – parag. 96).
وفي الصفحة 122 بند 30: خلُصت المحكمة الى خاتمة مفادها أن محضر 25 كانون الأول 1990 أسوة بتبادل الرسائل الحاصل في كانون الأول1987، يشكل إتفاقاً دوليًا منشئاً لحقوق وموجبات ملزمة للطرفين.
النظام الدستوري اللبناني للمعاهدات والإتفاقات الدولية:
أ-في الدستور اللبناني لعام 1926 وتعديلاته السابقة لتعديل عام 1990:
1-إن المادة 52 من الدستور اللبناني، وبرغم أنه جرى تعديلها مرتين قبل التعديل لعام 1990، مرة بموجب القانون الدستوري الصادر في 17/10/1927 (إلغاء الإحتفاظ بنص المادة الثالثة من صك الإنتداب)، ومرة ثانية بالتعديل الدستوري الصادر في 9/11/1943 (حصر صلاحيات المفاوضة والإبرام بشخص رئيس الجمهورية، فإن كافة تلك التعديلات (بما في ذلك التعديل الدستوري لعام 1990 تبعا لاتفاق الطائف) لم تمسّ قيد أنملة نص الفقرة الختامية للمادة 52 من الدستور، والتي كرّست قاعدة وجوبية مفادها موافقة مجلس النواب على المعاهدة لكي تُعدّ مبرمة دستوريًا، وذلك إذا كانت تلك المعاهدة تنطوي على شروط تتعلق بمالية الدولة والمعاهدات التجارية وسائر المعاهدات التي لا يجوز فسخها سنة فسنة.
2- وفي ذلك الحرص على عدم تعديل الفقرة الأخيرة من المادة 52 دستور، دليل واضح على تأكيد وتكريس دور المجلس النيابي في النظام الديمقراطي البرلماني (ولبنان معتمد لهذا النظام) في المصادقة على المعاهدات الدولية الأكثر أهمية، إن لجهة تعلّق أحكامها بمالية الدولة، والمعاهدات التجارية وتلك التي لا يجوز فسخها سنة فسنة.
3- ويرى الأستاذ بشارة منسى (في مؤلفه «الدستور اللبناني طبعة أيلول 1998 ص 268 ـ 269 تحت شرح المادة 52 من الدستور) أن هذه المادة آثارت جدلاً كبيرًا بعد توقيع إتفاق القاهرة بين الجيش اللبناني ومنظمة التحرير الفلسطينية، حيث حصل الرئيس شارل حلو على موافقة مجلس الوزراء على هذا الإتفاق من دون أن يطلعه عليه، كما وافق المجلس النيابي على الإتفاق المذكور من دون أن يطلع عليه، وقد عارض الأستاذ ريمون إده هذا الشكل من التعامل مع مجلس النواب. ولا يُخفى ما أسفر عنه إتفاق القاهرة من حرب إستمرت سبعة عشر سنة واجتياح إسرائيلي للبنان عام 1982. ثم وقع لبنان في مشكلة مماثلة عندما حصل إتفاق 17 أيار 1983 الذي وقعه عن الجهة اللبنانية السفير أنطوان فتال، وهذا الإتفاق أُلغي في ما بعد، وكان وافق عليه مجلس النواب من دون أن يبرمه في النهاية رئيس الجمهورية.
4- بدوره، فإن العلاّمة الدكتور إدمون رباط (في مؤلفه الوسيط في القانون الدستوري اللبناني ـ طبعة 1970 ص 696 الى 701) ينتقد منح المادة 52 لرئيس الجمهورية صلاحية المفاوضة وإبرام المعاهدات والإتفاقيات المحددة والمصنّفة في القانون الدولي العام ـ بالتعاون مع الحكومة، ولا سيما وزير الخارجية، بعيدًا عن رقابة البرلمان، إذ إنه لا يلتزم بإطلاع البرلمان عليها إلا حينما تمكّنه من ذلك مصلحة البلاد وسلامة الدولة (متى؟ ومن يقدّر توفر تلك الشروط؟).
مما يعني أنه، فيما خلا المعاهدات الموصوفة في الفقرة الأخيرة من المادة 52، يكون باستطاعة رئيس الجمهورية وبموافقة الحكومة، أن يربط لبنان بمعاهدات من أنواع شتى، كالأحلاف العسكرية والمواثيق السريّة بدون أن يعلم البرلمان بأمرها وأخذ موافقته عليها. ومن الأمثلة على ذلك في دستور ما قبل الطائف، إتفاقات أُجريت من دون عرضها على البرلمان في عهد الرئيس بشارة الخوري وعهد الرئيس كميل شمعون (كالإتفاق مع الولايات المتحدة على مبدأ ايزنهاور واتفاق القاهرة في عهد الرئيس شارل حلو واتفاق 17 أيار 1983 في عهد الرئيس أمين الجميل).
وفي الختام، يشير الدكتور إدمون رباط الى أن السلطة الإستنسابية المقررة لرئيس الجمهورية بعرض المعاهدات على البرلمان أو كتمان أمرها ـ وذلك بالطبع بموافقة الحكومة ـ مقتصرة على المعاهدات السياسية فحسب. أما المعاهدات المحددة في الفقرة الختامية من المادة 52 (متعلقة بمالية الدولة، المعاهدات التجارية وتلك التي لا يجوز فسخها سنة فسنة) فلا تُعدّ مبرمة إلا بعد موافقة مجلس النواب عليها. ولا يبدو معقولاً أن تقتصر صلاحية مجلس النواب على الموافقة من دون المناقشة وعلى المناقشة من دون المصادقة على هذه المعاهدة أو ردّها.
ب- في الدستور اللبناني بعد تعديل عام 1990:
1-يرى الدكتور زهير شكر (الوسيط في القانون الدستوري اللبناني ـ المجلد الثاني ـ طبعة أيار 2019 ـ دار المنهل اللبناني ـ ص 694 الى 699) أنه في ظل التعديل الدستوري الصادر في 21/9/1990 قد اشترط لإبرام المعاهدة موافقة مجلس الوزراء على مضمونها، أي أن إبرام المعاهدة من قبل رئيس الجمهورية بالإتفاق مع رئيس الحكومة ليس نهائيًا، لأن مجلس الوزراء يمارس صلاحية الإبرام بعيدًا عن رقابة البرلمان. وبالتالي، فإن التعديل الدستوري لعام 1990 نزع من رئيس الجمهورية صلاحية الإبرام وإمكانية عقد معاهدات سرية من دون موافقة الحكومة.
2-بالنسبة الى دور البرلمان في عقد المعاهدات الدولية وإبرامها، فقد ميّزت المادة 52 من الدستور بين المعاهدات التي لا تُعدّ مبرمة إلا بعد موافقة مجلس النواب وبين المعاهدات السياسية التي أعطت الحكومة صلاحية الإستنساب في إطلاع المجلس النيابي عليها «حينما تمكّنها من ذلك مصلحة البلاد وسلامة الدولة».
3-هل يعني الإطلاع مجرد أخذ العلم من قبل المجلس النيابي، أم يتجاوز ذلك الى التصديق على المعاهدة؟ لا يبدو معقولاً أن تقتصر صلاحية مجلس النواب في هذه الحالة على الإطلاع من دون المناقشة وعلى المناقشة من دون المصادقة على هذه المعاهدة أو بإجراء الرقابة على أعمال السلطة الإجرائية، في الحقل الدولي، كما يمارسها بصورة مستمرة وبحكم قواعد النظام البرلماني على أعمالها، من جهة سياستها الداخلية على اختلاف أنواعها وميادينها.
ما هي عواقب مخالفة الفقرة الأخيرة من المادة 52 من الدستور بفعل عدم أخذ موافقة مجلس النواب على معاهدة أو إتفاقية ترسيم الحدود البحرية، والمصادقة عليها بالتوافق بين رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء من دون عرضها للمناقشة والتصويت على البرلمان مادة مادة، ومن دون إصدارها بموجب قانون بعد موافقة المجلس النيابي عليها؟
1-يُجمع الفقه الدولي العام على أن عدم موافقة المجلس النيابي على الإتفاقية أو المعاهدة الدولية التي تستلزم بطبيعتها تلك الموافقة وجوبًا، يؤدي الى اعتبارها باطلة وغير مصدّق عليها وغير نافذة. وبالفعل، فإن تاريخ العلاقات الدولية مثقل بحالات عدم المصادقة عليها من المرجع المختص دستوريا، بالرغم من توقيعها من الأشخاص المخوّلين والمرخص لهم بالتوقيع، لأن موافقة المجلس النيابي عليها يضفي عليها صفة الإلزامية. وتسجل سابقة في حالة إتفاق 17 أيار 1983، حيث وافق مجلس النواب على تصديقه وعاد رئيس الجمهورية ورفض إصداره ونشره، فسقط وسقطت معه مفاعيله القانونية الملزمة.
2- وبالعودة الى مخالفة المادة 52 دستور فقرتها الأخيرة، نشير الى أن ذلك يعني أن السلطات التي وقّعت ووافقت على المعاهدة من دون عرضها على المجلس النيابي لإعطاء موافقته، قد ارتكبت مخالفة جسيمة للدستور اللبناني، وذلك في ظل عدم المسؤولية السياسية لرئيس الجمهورية. وتبعا لذلك، فإن رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء والوزراء الذين وقّعوا ووافقوا على مضمون المعاهدة من دون إحالتها الى المجلس النيابي لأخذ موافقته، يكونون مسؤولين عن خرق الدستور في مادته 52. وفي النهاية، يُطرح السؤال: من هي المرجعية التي تحاسبهم على هكذا خرق؟
3- نشير بادئ ذي بدء الى أن المجلس الدستوري اللبناني غير مختص لمحاسبة من ارتكب تلك المخالفة، كما أنه ليس مخوّلاً إبطال الموافقات غير الدستورية، والتي تكون صدرت للمصادقة على المعاهدة، وبالتالي محاسبة المرتكبين. وقد ورد في المادة الأولى من قانون إنشاء المجلس الدستوري: «… والإشكالية تتمثل في أن المعاهدة أو الإتفاقية لا تمسي نصًا له قوة القانون إلا بعد مصادقتها والموافقة عليها من قبل البرلمان وصدورها بموجب قانون. وعليه، يكون من المرجح إعتبار المجلس الدستوري غير مختص لإبطال المعاهدة أو الإتفاقية المخالفة لشروط الفقرة الأخيرة من المادة 52 سدتور. وبكل حال، فإن المجلس الدستوري ليس المرجع المختص لمعاقبة أو محاسبة الرؤساء والورزراء مرتكبي تلك المخالفة»…
4- ومن جهة أخرى، ولو تبيّن أن المعاهدة أو الإتفاقية الدولية قد صدرت بموجب مرسوم متخذ في مجلس الوزراء وموقّع من كل من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء بعد موافقة مجلس الوزراء عليه، فإن مجلس شورى الدولة غير مختص أيضًا للبت بالطعن بالمرسوم المذكور لتجاوزه حد السلطة ولعدم مشروعيته بعيب مخالفة الدستور، لأن موضوع المعاهدات الدولية ومطابقتها لمبدأ الشرعية، من عدمه، يدخل في خانة الأعمال الحكومية Actes de gouvernement ويخرج عن رقابة القاضي الإداري.
مراجع البحث:
أ-في القانون الدولي العام:
1-Pierre Marie Dupuy – Droit international public – précis Dalloz – Droit Aublic et science politique – 1995 p. 197 à 210.
2- Charles Rousseau – Droit international public – précis Dalloz 1976 – 8e édotion p. 21 à 42 et p. 54 à 64.
3- NGYUEN quoc DINH – Patrick Daillet – Alain Pellet et Mathias Forteall – international public – 8e éd. Point DELTA – L.G.D.J. p. 132 à 165.
4- د. محمد السعيد الدقّاق ـ القانون الدولي ـ المصادر ـ الأشخاص ـ الدار الجامعية 1992 ص 45 الى 72.
5- د. أحمد أبو الوفا ـ الوسيط في القانون الدولي العام ـ الطبعة الرابعة 2004 دار النهضة العربية ـ القاهرة ـ ص 92 الى 99 وص 100 الى 114.
6- د. علي صادق أبو هيف ـ القانون الدولي العام ـ الطبعة السابعة عشرة ـ دار منشأة المعارف بالإسكندرية 1997 ـ ص 523 الى 596.
7- د. محمد المجذوب ـ القانون الدولي العام ـ منشورات الحلبي الحقوقية ـ الطبعة السادسة 2007 ص 563 الى 620.
8- د. وليد البيطار ـ القانون الدولي العام ـ المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ـ طبعة أولى 2008 ص 140 الى 190.
ب- في القانون الدستوري اللبناني:
9- Edmond Rabbath – la constitution Libanaise – origins, textes et commentaires – publications de l’université Libanaise – Beyrouth 1982 – sous l’article 52 de la constitution p. 333 à 340.
10- Raymond Sayegh – Le president de la République Libanaise – publications des centre de recherches – Université Libanaise – Institut des sciences sociales.
11- د. إدمون رباط ـ الوسيط في القنون الدستوري اللبناني ـ دار العلم للملايين بيروت ـ الطبعة الأولى 1970 ص 694 الى 701.
12- الأستاذ بشارة منسى ـ الدستور اللبناني ـ أحكامه وتفسيرها ـ الدراسات والوثائق المتعلقة به ـ أيلول 1998 تحت شرح المادة 52 من الدستور اللبناني ـ ص 267 الى 303 و346.
13- د. زهير شكر ـ الوسيط في القانون الدستوري اللبناني ـ مجلد رقم 2 ـ دار المهل اللبناني طبعة أيار 2019 ص 694 الى 699.
14- جان باز ـ الوسيط في القانون الإداري اللبناني ـ الجزء الأول 1974 ص 440 – 441 (المعاهدات ـ الأعمال الحكومية).
15- د. يوسف سعدالله الخوري ـ القانون الإداري العام ـ الجزء الأول ـ طبعة 2007 ص 324 الى 334 (الأعمال الحكومية).
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]