كتب جو حمورة في “المسيرة” – العدد 1734
على هامش الحرب الروسية – الأوكرانية، يتنافس «علماء» العلاقات الدولية حول التالي: هل تلك الحرب عالمية أم إقليمية؟ يرى التقليديون منهم أنها، حتى الساعة، حرب إقليمية، فيما يراها الحداثيون عالمية بامتياز. يكبر الخلاف «الفكري» بين التيارين، إلا أنهما يتوافقان حول نقطة يتيمة، وهي أن لهذه الحرب تأثيرات عالمية. وهو الأمر الصحيح، قياساً على لبنان وجارته إسرائيل مثلاً، وتوافق الدولتين على ترسيم الحدود البحرية على وقع الحاجة الأوروبية الملحّة لتعزيز تنوّع مصادرها من الغاز الطبيعي نتيجة للحرب.
لكل من لبنان وإسرائيل مصلحة مباشرة في التنقيب عن الموارد الطبيعية في البحر واستخراجها. إلا أن سرعة التوصل لاتفاق رافقته ضغوط غربية، أميركية – فرنسية بشكل أساسي، للتوصل إلى تسوية «اقتصادية – أمنية» تعطي ضمانات للطرفين اللبناني والإسرائيلي للعمل في حقول الغاز الموجودة والمفترَضة.
أتت التسوية «النهائية» بين البلدين على الشكل التالي: اعتُمِد الخط 23 كخط بحري فاصل بين الطرفين، وأمّنت إسرائيل حقوقها كاملة في حقل «كاريش»، فيما حصّن لبنان حقوقه في حقل «قانا» شرط أن تكون شركة «توتال» الفرنسية هي العاملة فيه وتدفع، في فترة لاحقة، جزءًا من الأرباح لإسرائيل. وبهذا يكون المستفيد الأكبر، من كل مسألة الترسيم، هي شركة «توتال» ومن خلفها فرنسا. أما المسائل الخلافية المتبقة بين الجانب اللبناني والإسرائيلي، كموقع خط العوامات الأمنية الإسرائيلي في البحر، وموضوع الخط غير المُرَسّم بين الناقورة وإحدى الجزر الصخرية في البحر، فأجلت إلى زمنٍ آخر. الزمن الحالي هو زمن الحاجة للتوصل إلى إتفاق سريع يعطي لبنان وإسرائيل والشركة الفرنسية الضوء الأخضر للبدء بالعمل. تعاسة أوروبا جراء الحرب مع روسيا كبيرة، وسد الحاجة الأوروبية أهم من كل «التفاصيل الصغيرة» بين لبنان وإسرائيل.
من المؤكد أن الموارد الطبيعية التي ستُستخرج من حقول لبنان وإسرائيل لن «تفيض» على السوق الأوروبي الذي هو بأمس الحاجة لها، إلا أن أوروبا تبحث عن مصادر جديدة للغاز في المستقبل. لقد استطاعت روسيا، بحكم تحكّمها بالقدر الأكبر من الواردات الأوروبية من الغاز، من ليّ ذراع دول الاتحاد الأوروبي وخاصة فرنسا، وهي المعتمِدة، بشكل أساسي، على غاز الخارج. إستجرار المزيد من النفط من الولايات المتحدة الأميركية، الجزائر، وآذربيجيان ودول أخرى لا يكفي لوحده ولن يكفي، كل الوقت، الحاجة الأوروبية، فكان التوجّه إلى الشرق لفتح نافذة جديدة وإمكانية تنويع المصادر للسوق الأوروبي من الغاز الطبيعي الذي يُشكل العامود الفقري للاقتصاد الأوروبي عموماً.
منذ عامين على الأقل، برز إهتمام فرنسي جدي بالتعاون مع لبنان والعراق وإيران في المجال الاقتصادي. لا تكترث فرنسا، حقاً، لهوية حكام هذه الدول أو الأنظمة السياسية القائمة فيها أو حتى لواقع الشعوب المتردي مهما كان. إن جلّ ما يهمها هو حد أدنى من الإستقرار الأمني يسهّل إقامة «هلال اقتصادي» خاص بها، وذلك على نسق «الهلال الشيعي» الذي حُكي عنه في الماضي كثيراً، ويُحكى عنه حالياً، والقائم على سعي طهران للسيطرة السياسية والأمنية والثقافية على كل البلاد الواقعة غربها وصولاً إلى شواطئ البحر المتوسط.
تبرز فرنسا كأكثر الدول الغربية المتساهلة مع إيران، ولها مصالح اقتصادية من شركات عالمية واستثمارات بمليارات الدولارات في طهران. في العراق، برز إهتمام جدي بتعزيز التعاون بين البلدين في السنتين الماضيتين، ومنه، على سبيل المثال، توقيع شركة «توتال» الفرنسية على عقد ضخم لاستثمار الغاز في حقول محافظة البصرة، كما إمكانية قيام شركات فرنسية بتنفيذ مشروع «مترو» في بغداد الذي ستموّله، بنسب معيّنة، الحكومة الفرنسية. هذا ولا يمكن، بحكم الأمر الواقع، أن تقوم فرنسا بالإستثمار في العراق، من دون تفاهم قابل للحياة بين باريس وطهران، ما يعزز تشابك المصالح الاقتصادية والسياسية بين البلدين.
أما في لبنان، فتم توقيع إتفاقية بين مرفأ مدينة طرابلس والشركة الفرنسية العالمية «Cmacgm» لاستخدام المرفأ كمحطة أساسية لفرنسا وشركاتها في شرق البحر المتوسط، فيما الأهم بهذا العقد هو تشغيل الشركة لمحطة الحاويات في المدينة. كما فازت الشركة نفسها، المملوكة من عائلة «سعادة» اللبنانية الفرنسية، والمقربة جداً من الرئيس الفرنسي، بعقد الإدارة والتشغيل والصيانة لمحطة الحاويات في مرفأ بيروت بداية العام 2022. هذا يُضاف طبعاً إلى ظفر الشركة الفرنسية، «توتال»، بضمانة أمنية لبنانية ـ إسرائيلية، وبحق اقتصادي بأن تكون الشركة الأساسية، وربما الحصرية، العاملة في حقل «قانا». وبذلك يكون «الهلال الاقتصادي» الفرنسي قد اكتمل، من قلب طهران إلى شواطئ الناقورة؛ مصالح اقتصادية فرنسية لا تكترث إلا لسد النقص في مصادر الطاقة والأموال بسبب الحرب الروسية – الأوكرانية.
أما ما تبقى من رياء حول «بطولات لبنانية» خلال التفاوض مع إسرائيل والمبعوث الأميركي، ومسيّرات حزب الله «العظيمة» التي قلبت دفة التفاوض، ناهيك عن تصرفات «الأم الحنون» فرنسا تجاه اللبنانيين، وعدم نوم عيون وجفون الرئيس الفرنسي القلق على الشعب اللبناني وضحايا إنفجار المرفأ، فمجرد ترهات لا تمت إلى الحقيقة بصلة. كل ما في الأمر هو التالي؛ لأوروبا مصلحة أساسية بتنويع مصادر الموارد الطبيعية، فكان أن ضغطت، مع الولايات المتحدة الأميركية، على السلطتين اللبنانية والإسرائيلية معاً للإسراع بترسيم الحدود وتوزيع المناطق الاقتصادية بين الدولتين ليتسنى للشركة الفرنسية الإستثمار وتعزيز الأرباح، ولاحقاً نقل الغاز إلى أوروبا العطشى للموارد بفعل الأزمة مع روسيا.
على العموم، يبقى أن دوام الإهتمام الفرنسي بـ«الهلال الاقتصادي» مشروط بعاملين أساسيين. الأول هو سماح الولايات المتحدة الأميركية لها بالتصرف بأريحيتها في لبنان والعراق ومع إيران، وبقاء «التوكيل» الأميركي لفرنسا بإمكانية القيام بذلك. أما الثاني فهو دوام التنازع الروسي ـ الأوروبي، والسعي الفرنسي الجدي للتعويض عما تخسره اقتصادياً جراء الحرب في أوكرانيا، وهو الأمر الذي يبدو في تصاعد متزايد، خاصة وأن موسم الشتاء قد بات على الأبواب، وأوروبا التعيسة تبحث عن موارد لن ترسلها موسكو من دون بدل استراتيجي مهم.
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]