كتب شارل جبور في “المسيرة” – العدد 1735
عشية كل إستحقاق دستوري وإبانه يُعاد فتح النقاش في مسائل دستورية كان من الطبيعي تلافيها لو أن النُخبة التي تدير الدولة أولويتها إتمام هذه الإستحقاقات بالسرعة المطلوبة تمسكاً بالإنتظام المؤسساتي والإستقرار السياسي وحرصًا على مصلحة البلد وأهله، خصوصًا أن المشترع لم يتعمّد الإلتباس وعدم الوضوح، بل اعتبر أن من بديهيات الإدارة المسؤولة أن تعمد إلى تذليل العقبات التي تعترض سبيل الانتخاب الرئاسي والتكليف والتأليف.
وما يشهده لبنان من ممارسة سياسية سيئة ليست نتاج الحرب الأهلية كما يحاول البعض الترويج والإدعاء محاولاً التعميم والنيل من الذين لو تخلّوا عن واجبهم الوطني لانتهى لبنان بالصيغة المعروفة منذ زمن بعيد، إنما هو نتاج الإحتلال السوري للبنان الذي نشأت في كنفه طبقة سياسية لا تقيم وزناً للدستور والثقافة المؤسساتية، لأن أولويتها كانت إرضاء المحتل بدلاً من إرضاء ضميرها والعمل بموجب الدستور.
هناك من يقع دومًا في فخّ النقاش بالنصاب الدستوري وكأن المشترع وضع هذا النصاب من أجل التوافق لا الانتخاب وتقصّد إلغاء العملية الانتخابية مفسحًا في المجال أمام التعطيل بانتظار لحظة التوافق، وكل هذا «المنطق» الذي لا علاقة له بالمنطق أرسى ممارسة كارثية ونسف النظام الديموقراطي، فيما النصاب وضِع لاعتبارات انتخابية فقط لا غير على غرار لَحظِه النصاب في كل مسألة وقضية تشريعية، والمشترع لا يمكن أن يشرِّع الشغور والتعطيل، لأن الدساتير وُضعت لخدمة الناس وليس لضرب مصالحها، ولانتظام العمل المؤسساتي لا لعرقلته.
والمهل الدستورية وُضعت لتُحترم وليس لتجاوزها وكأن المسألة طبيعية وبديهية، فيما تجاوز المهل يشكل إنقلابًا على الدستور وضربًا لروحيته وتعطيلاً للإستحقاقات الدستورية، والمهلة كافية بحد ذاتها لإسقاط كل النقاش المتعلِّق بالنصف زائدًا واحدًا والثلثين تبريرًا لمن يحاول التلطي خلف النصاب لتعطيل الانتخابات الرئاسية، لأن المهلة تعني أنه على النواب فعل المستحيل لانتخاب رئيس الجمهورية ضمن هذه المهلة تحديدًا، الأمر الذي يتطلب دخولهم إلى البرلمان والبقاء فيه حتى انتخاب الرئيس العتيد.
فرئيس الجمهورية كان يجب أن يُنتخب بين مطلع أيلول الماضي ونهاية تشرين الأول الماضي، وعدم انتخابه مخالفة دستورية واضحة وفاضحة، والإلتزام بالمهلة يعني إلتزام النواب بالمشاركة في الجلسات الانتخابية الرئاسية حتى صعود الدخان الأبيض، وما يحصل اليوم هو تكرار للمشهد نفسه للمرة الثالثة بعد خروج جيش الإحتلال السوري من لبنان، لأن الفريق المتحكِّم بالقرار السياسي بواسطة السلاح يضع اللبنانيين باستمرار أمام إما الشغور المفتوح وإما انتخاب رئيس للجمهورية ضمن صفوفه الممانعاتية.
كان الأمل أن تُنتج الانتخابات النيابية نخبة سياسية متمسكة بالدستور وروحيته وبممارسة تعيد إحياء تجربة عرفها لبنان قبل الحرب وحتى إبانها، خصوصًا أن هذه الانتخابات حصلت بعد إنهيار ما بعده إنهيار، وثورة جدّدت الأمل بالتغيير، ولكن، ويا للأسف، إذ على رغم الإنتكاسة التي مُني بها محور الممانعة بخسارته للأكثرية النيابية وتراجع إختراقاته داخل البيئات المسيحية والسنيّة والدرزية، لم تتمكّن المعارضة من توحيد صفوفها حول القضايا الرئيسية، وفي طليعتها الانتخابات الرئاسية التي تشكل مدخلا لإنتاج سلطة إجرائية متكاملة.
هذا لا يعني فقدان الأمل ووقف الجهود لتوحيد صفوف المعارضة، لأن إضاعة فرصة انتخاب الرئيس الإنقاذي ستؤدي إلى مزيد من الإنهيار وترحيل التغيير إلى الانتخابات المقبلة في ظل نزف ديموغرافي متواصل ومصير قاتم ونفق مظلم مفتوح على سيناريوهات كارثية، فيما الفرصة سانحة ومتاحة ومن الخطيئة تضييعها لاعتبارات شخصية ومصلحية وشعبوية.
وقد أظهرت الانتخابات النيابية الأخيرة والأحداث السياسية أن فريق الممانعة في أضعف لحظة سياسية منذ سنوات، ويجب أن تشكل الانتخابات الرئاسية فرصة باتجاه مزيد من الحدّ من تأثير هذا الفريق على مؤسسات الدولة ومرافقها، لأنه بقدر ما يقوى تأثيره بقدر ما يضعف حضور الدولة ودورها، والعكس الصحيح، والخيار الوحيد المتاح حاليًا يكمن في تحصين المواقع الدستورية لإرساء قاعدة الفصل بين الدولة والدويلة بانتظار اللحظة التي تسمح بأن تستعيد هذه الدولة كل مقوّماتها الاستراتيجية.
وعدا عن أن فريق الممانعة في حالة تخبُّط داخل صفوفه، فإن سلسلة أحداث بيّنت أنه غير قادر لا على فرض انتخاب رئيس ولا على تأليف حكومة ولا على «قبع» قاضي ولا على تزوير تقارير أمنية، وبالتالي الوقت أكثر من مناسب لتدعيم مؤسسات الدولة برئيس جمهورية ورئيس حكومة وحكومة أولويتها إرساء قواعد حكم على أُسس دولتية ودستورية وتشكل بيئة حاضنة لكل إدارات الدولة وأجهزتها العسكرية والأمنية والقضائية والإدارية من أجل أن تحكم بوحي ضميرها ومتطلبات الدستور والدولة.
حاليًا لا خيار خارج الدفع باتجاه إنهاء الشغور، ولو تم العمل بالخطة الرئاسية التي وضعتها «القوات اللبنانية» من خلال الوصول مع مرشّح المعارضة النائب ميشال معوض إلى عتبة النصف زائدًا واحدًا، لكانت أطلقت دينامية رئاسية، وضبطت فريق الممانعة بجرم التعطيل المشهود، ووضعت خلفها وإلى جانبها الرأي العام المحلي والدولي والمرجعيات الروحية، وانتقلت إلى الهجوم ونقلت الممانعة إلى الدفاع، وقلبت الطاولة الرئاسية والحسابات السياسية ولبننت الإستحقاق الرئاسي، ولكن هذه الخطة اصطدمت بأنانيات ومصالح ومزايدات بعض شخصيات المعارضة التي لم تلتقط المغزى من توحيد الصفوف بهدف إلتقاط المبادرة الرئاسية.
وكان الحري بمن يزايد في النصاب، وهو ليس في حوزته 65 نائبًا أصلاً، أن يحمِّل الكتل النيابية التي لم تحترم المهلة الدستورية لانتخاب رئيس الجمهورية مسؤولية الإنقلاب على الدستور والإنقلاب على الناس الذين انتخبوها واتهامها بالتخلُّف عن ممارسة واجبها الدستوري والقانوني والوطني والأخلاقي، الأمر الذي يجب أن يعرِّضها لملاحقة قضائية ومحاسبة برلمانية تصل إلى حدود نزع النيابة عنها، وبالتالي إنطلاقا من هذه الممارسة تُبنى الدول والمؤسسات، ولا تُبنى بالمزايدات والشعبويات.
وكان النائب السابق إيلي كيروز استشهد في أحد بياناته بقول للأستاذ عبدو عويدات بأن «الدولة تُعرف بنظام الحكم فيها، وأن النظام الجمهوري البرلماني يُعرف دوليًا وداخليًا برئيسه، ولا جمهورية بلا رئيس جمهورية، وإلا يُصبح الحكم جماعيًا في حالة عدم وجود رئيس إلى أن يُنتخب هذا الرئيس، مع ما قد ينشأ عنه من توقُّف عجلة الحكم وتعريضه للضياع».
من هذا المنطق يجب إعتبار أن الجمهورية غير موجودة اليوم ومأزومة ومعلّقة بانتظار انتخاب رئيس للجمهورية، ويجب أن تنحصر كل الجهود في انتخاب الرئيس العتيد، لأن رئيس الجمهورية هو رأسها ورمزها والساهر على دستورها وتغييبه يعني تغييبها، ويجب أن يكون شعار المرحلة قول عويدات الشهير «لا جمهورية بلا رئيس جمهورية».
وليس عن عبث أكدت «القوات اللبنانية» وتؤكِّد على أن الأزمة في لبنان سببها من يغيِّب الدولة ومن يدير هذه الدولة، ولو وجِد إلى جانب «القوات» النخبة التي شكل عويدات أحد وجوهها لتحوّل السلاح غير الشرعي إلى بضاعة فاقدة للصلاحية، إذ في موازاة الأزمة التي سببها الجوهري هذا السلاح، فإن الوجه الآخر لهذه الأزمة وجود فئة سياسية خانعة وفئة أخرى تاجرة، فيما المطلوب الوصول إلى نُخبة حاكمة.
شارل جبور ـ رئيس جهاز الإعلام والتواصل في “القوات اللبنانية”
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]