“مش إلي أنا بينقال هالحكي”، لكن قيل له أكثر بكثير بعد!
منذ نحو ثلاثين عاماً، تاريخ تربّع نبيه بري على رئاسة مجلس النواب، ولم يسمع الرجل كلاماً وملاحظات قاسية مباشرة، كتلك التي سمعها في الجلسة الأخيرة المهزلة، لانتخاب رئيس للجمهورية، من قِبل النائب انطوان حبشي.
ليست القصة مواجهة للمواجهة ولمجرد تسجيل موقف شعبوي أو “بطولي” وما شابه، كما ظن البعض، إنما المواجهة كانت أكثر من ضرورية لضرورة تصويب العمل البرلماني، في ظل انتهاك كبير واضح وفاضح للدستور، من خلال مخالفة النواب “الممانعين” لواجبهم الوطني، والذي يقضي بانتخاب رئيس للبلاد من جهة، وتعمّد تعطيل النصاب من جهة أخرى، ما يشكّل مخالفة أخرى فاضحة للدستور، فكانت المجابهة بين حبشي وبري، كي لا يكون النشاز هو القاعدة، والقاعدة هي النشاز كما هو حاصل في البرلمان اللبناني.
ما اعتاد رئيس البرلمان على سماع ملاحظات مماثلة، اعتاد على إسكات الجميع حين لا تعجبه الملاحظات، “بتعاملنا متل تلاميذ المدرسة وقت نحتجّ، لكن وقت تعطلوا النصاب ما بتعترض على أحد، علماً انو المعطلين هم أقرب المقربين لحضرتك” قال حبشي، فاحتج بري “هيدا الكلام ما بيتوجه الي… خَلص خِلص الحكي…” ولم ينتهِ الحكي ولم يتوقف حبشي عن الكلام والاعتراض الشديد بكل احترام، إنما بجدية قاربت الحدّة، عجز من خلالها “حَرِيّف” المجلس عن إسكات النائب الثائر.
“أربعة أسابيع تعطيل تحت إدارتك من دون توجيه أي ملاحظة للمعطلين، وعم نعيش حالة نتعاطى معها باستخفاف. وبتمنى عليك دعوة الهيئات الناخبة لممارسة واجبها وتبقى بالمجلس لحين انتخاب رئيس…” ينتفض بري “خلص الكلام”، لا يتجاوب حبشي “لاء يا دولة الرئيس والقصة عندك حتى نطبّق الدستور”…”خلص خلص فهمت”، صرخ بري مستاء، وانصرف الى إدارة جلسة تعطيل جديدة، مخالفة للدستور والأعراف والقوانين، حتى آخر سطور الدستور!
طبعاً لم يسجّل في محضر جلسات المهازل المتكررة تلك، أن نائباً في “القوات اللبنانية”، صبر شهراً كاملاً وعلى مضض على رئيس برلمانه، عله تحصل أعجوبة ما، علّ يحصل تصويب ما، أو علّ ضمير وطني نائم ما يصحو، ليمارس واجبه الأخلاقي والوطني، وانتخاب رئيس سيادي للبلاد، ولم يحصل، فقرر باسم رفاقه في تكتل الجمهورية القوية، وباسم اللبنانيين الغاضبين المهمّشين العاجزين عن فعل أي شيء، أي شيء حتى الآن في ظل هيمنة وسطوة حزب السلاح وحلفائه، أن يعلن الثورة، وأن يجابه من لم يعتد المجابهة في ساحة، حتى الساعة يعتبرها ساحته الشخصية.
اخترق حبشي المحظور، دخل من دون تسلل إنما بوضوح تام الى ملعب بري، وضع كرة رفض الأمر الواقع في شباكه، سجّل هدفه المباشر، ربح جولة وإن كان يعلم أنه واللبنانيين الأحرار معه، سيخسرون جولات أخرى كثيرة بعد بسبب إدارة المجلس، ومن يمون على تلك الإدارة، لكن الرب أمرنا بتحطيم الهيكل فوق الرؤوس، حين لا يستمع هؤلاء الى نداء الحق والعدالة وصوت الناس، والى صوت الرب في هيكل الانسان.
هي ثورة صغيرة صحيح، لكن ما فعله حبشي قد يكون كرة الثلج التي ستتدحرج لتدحرج معها الحجر الكبير، ويشع من خلف الظلام نور ولادة رئيس سيادي جديد للبنان.