كتب المحامي أنطوان عون في “المسيرة” – العدد 1735
يلاحظ القارئ الموضوعي لنصوص الدستور اللبناني أنه بما يتعلق بالآلية الدستورية لانتخاب رئيس الجمهورية في لبنان، نراها وردت في نطاق أحكام مختلفة. فمن وجهة وردت شروط انتخابه ومدة ولايته، خارج الباب الثالث (المواد 73 و74 و75 العائدة لانتخابه)، إنما في المادة 49 دستور التي استهلت الأحكام الخاصة بالسلطة الإجرائية، وتلك طريقة في التقنين الدستوري إنتقدها الفقه واعتبرها لا تبدو متفقة مع أسلوب صياغة القوانين. ويعتبر الدكتور إدمون رباط في مؤلفه الوسيط في القانون الدستوري أن هذا النقص يزداد مظهره حدّة إذا ما درسنا نص المادة 49 من الدستور (قبل تعديل 1990 وبعده) لأنه تجمّعت في المادة 49 المذكورة تحديد مهام رئيس الجمهورية ودوره بعد تعديل الطائف أولاً، والأحكام العائدة للغالبية في انتخابه ثانيًا، ومدة ولايته ثالثاً، ومنع تجديد انتخابه رابعًا، وشروط انتخابه خامسًا، وموانع انتخابه سادسًا في حالة خاصة! ومن جهة أخرى، فإن المشرّع الدستوري ترك آلية انتخاب رئيس الجمهورية، ولا سيما الأكثرية اللازمة للفوز والنصاب اللازم لانعقاد جلسة انتخابه محلاً لنقاشات وخلافات فقهية قانونية ودستورية، كان من الأجدى حسمها بمناسبة تعديل الدستور لعام 1990، وهي لا تزال إشكالياتها وأسباب تعديلها ملحّة حتى يومنا هذا، وتعود الى البال بمناسبة كل إستحقاق دستوري لانتخاب رئيس الجمهورية.
أولاً: في الإشكالية الأساسية
-النصاب لانتخاب رئيس الجمهورية: هل هو النصاب العادي المنصوص عنه في المادة 34 من الدستور، أم أنه نصاب خاص وموصوف؟ وبعبارة أخرى، هل إن غالبية الثلثين في دورة الأقتراع الأولى والغالبية المطلقة في دورات الإقتراع التالية المفروضتين في المادة 49 لانتخاب رئيس الجمهورية محسوبتان بالنسبة الى مجموع أعضاء المجلس أو الى غالبيتهم المطلقة، التي يتألف منها النصاب العادي؟
نشير أولاً الى أن النقاش حول ما إذا كانت المادة 49 من الدستور حدّدت الأكثرية اللازمة للفوز في انتخابات رئيس الجمهورية بثلثي النواب في ما خص الدورة الأولى، وبالأغلبية المطلقة منهم في ما خص الدورات اللاحقة، نسبة للنواب الحاضرين أم نسبة لعدد الأعضاء الذين يتألف منهم البرلمان قانوناً، قد انحسر لمصلحة إعتماد عدد النواب الذين يتألف منهم المجلس قانوناً، كما أن الجدل حول مسألة ما إذا كان النصاب القانوني لجلسة انتخاب رئيس الجمهورية يجب أن يكون ثلثي الأعضاء الذين يؤلفون البرلمان قانوناً، أم الأكثرية المطلقة منهم، قد خَفُتَ لمصلحة نصاب الثلثين مع بروز آراء مخالفة في القليل من الأحيان. (د. عادل يمين ـ التشارك في النظام الدستوري اللبناني ـ بيروت 2021 ـ طبعة أولى ـ ص 493 ـ 494).
ولكن ما تقدم، لا يغني عن ضرورة عرض المواقف الفقهية المنقسمة حول تلك المسألة نظرًا لأهميتها المحورية وتبيان موجز للأسباب والحجج الدستورية والقانونية والمنهجية في تفسير النصوص، لكل من الموقفين، لما في ذلك من فائدة علمية وفكرية للإضاءة على تلك الإشكالية المتمثلة في صياغة المادة 49 من الدستور، إن في مراحل وضعها عام 1926 أو في سياق محطات تعديلها الدستوري، وصولاً الى التعديل الأخير لعام 1990، من دون التطرق صراحة لحل دستوري نهائي مستمد مما خلُص الفقهاء بغالبيتهم إليه، ولما اعتمدته رئاسة المجلس النيابي تباعًا كعرف دستوري باعتماد النصاب الخاص والموصوف.
أ – نظرية النصاب العادي وفقا للمادة 34 من الدستور:
1 – نذكر أولاً من أبرز الفقهاء المؤيدين لهذه النظرية الأساتذة الآتية أسماؤهم:
– الدكتور إدمون نعيم مؤيدًا من قبل هيئة التشريع والإستشارات في وزارة العدل عام 1958 قبيل انتخاب اللواء فؤاد شهاب (مذكورة في مؤلف الدكتور إدمون رباط السابق ذكره ص 669)
– الأستاذ عبده عويدات ـ النظم الدستورية في لبنان والبلاد العربية والعالم ـ منشورات عويدات ـ بيروت سنة 1961 ص 513 وما يليها.
– د. مصطفى أبو زيد فهمي ـ النظام البرلماني ـ الشركة الشرقية للنشر والتوزيع ـ بيروت 1969 رقم 209 ص 265.
– أنطوان بارود ـ مذكرة بشأن النصاب والغالبية لانتخاب رئيس الجمهورية ـ النشرة القضائية 1962 ص 59.
– أنور الخطيب ـ المجموعة الدستورية ـ القسم الثاني «دستور لبنان» الجزء الثاني ـ السلطات العامة ـ قاعات بحث ـ الطبعة الأولى 1970 ص 106 – 107.
– سليم الزيبق ـ النصاب العادي لجلسة انتخاب رئيس الجمهورية يوفّق بين المحافظة على موقع الرئاسة وعدم شلّ المؤسسات الدستورية ـ جريدة «النهار» العدد 23094 تاريخ 18/8/20027 ص 9.
– محمد علي ضناوي ـ الدستور لم يعطِ الأقلية حق تعطيل انتخاب الرئيس ـ جريدة «النهار» العدد 23077 تاريخ 30/7/2007 ص 19.
2 – أبرز وأهم الحجج المؤيدة لهذا الرأي:
يعرض الدكتور عادل يمين لأبرز تلك الحجج (وهو ينفرد بذلك خلافا لباقي المؤلفين المؤيدين بغالبيتهم لنظرية النصاب الخاص والموصوف) في مرجعه السابق الذكر (ص 494 الى 500) على الوجه الآتي:
– إن نصاب الثلثين للدورة الأولى من الإقتراع المنصوص عليه في المادة 49 دستور، هو نصاب فوز لا نصاب إنعقاد، وإلا لو كان المشترع قصد منه نصابًا لقانونية الجلسة لكان تحوّط لاحتمال عدم حضور الثلثين، وهو ما لم يفعله.
– ليس من تلازم دائم بين نصاب الحضور وأغلبية التصويت، وهما أمران مختلفان، إذ إن نصاب الحضور يتيح للمجلس الإجتماع بشكل قانوني، بينما غالبية الانتخاب تتيح له إتخاذ القرار». وهي حجة ترتكز الى آراء فقهية فرنسية تفصل بين نصاب الحضور ونصاب القرار. (Eugène pierre – traité de droit politique électoral et parlementaire – p 1121 N 978).
– القول إن النصاب العادي المنصوص عليه في المادة 43 من الدستور لا يصلح لجلسة الانتخاب الرئاسي، بحجة أن المجلس الملتئم لانتخاب رئيس يُعتبر هيئة انتخابية، لا هيئة إشتراعية، سندًا للمادة 75 دستور، ليس في محله ومستوجب الرد، لأن الغاية من هذه المادة لا علاقة لها بالنصاب وإنما بتأمين سلامة العملية الانتخابية.
– إن إعتماد أكثرية الثلثين يفضي الى منح الأقلية الحق بتعطيل جلسة انتخاب الرئيس من خلال إحجامها عن الحضور، في حين أن إعتماد النصاب الواجب للفوز في دورات الإقتراع اللاحقة للدورة الأولى، وهو الغالبية المطلقة، يضمن تأمين الانتخاب واستمرارية المؤسسة الدستورية، مع الإشارة الى أن هيبة الرئيس وصفته التمثيلية تتأثران بأغلبية الانتخاب المفروضة وليس بأغلبية نصاب جلسة الانتخاب.
– إن المادة 49 من الدستور لا تفرض نصابًا خاصًا لانتخاب رئيس الجمهورية، وإن كلمة «غالبية» الواردة في هذه المادة لا تتعلق بالنصاب، بل هي تتعلق فقط بعدد الذين يقترعون فعلاً في الجلسة. ويكفي ليكون الإجتماع قانونيًا أن يضم نصاب الجلسات العادية المنصوص عليه في المادة 34 من الدستور، والدليل على ذلك هو أن الدستور، عندما يتطلب لموضوع ما نصابًا غير النصاب العادي ينص عليه بشكل صريح لا يدع مجالاً لأي شك أو تأويل (كما فعل في المادة 79 من الدستور المتعلقة بتعديل الدستور والمادتين 60 و70 المتعلقتين بمحاكمة رئيس الجمهورية والوزراء). (أنور الخطيب ـ المرجع السابق ذكره ص 106 ـ 107).
– لم ينص دستور الجمهورية الثالثة في فرنسا الذي استمد الدستور اللبناني لعام 1926 منه، على أي نصاب خاص لانتخاب رئيس الجمهورية، في حين أن المادة الثالثة من القانون الدستوري لعام 1875 كانت تنص على أن رئيس الجمهورية يُنتخب بالأغلبية المطلقة من أصوات المقترعين من مجلسي الشيوخ والنواب…
– لم يوجب الدستور نصابًا خاصًا لانعقاد جلسة انتخاب رئيس مجلس النواب ونائبه، بل اكتفى في المادة 44 بجعل فوزهما بالغالبية المطلقة من أصوات المقترعين، كما أنه لم يشترط نصابًا خاصًا للمشاركين في الإستشارات النيابية الملزمة التي تقود الى تسمية رئيس الحكومة المكلّف، فلماذا يحدد نصابًا خاصًا لانتخاب رئيس الجمهورية؟ (محمد علي ضناوي ـ مرجع سابق ص 19)
– لا يمكن التذرّع بوجود عرف دستوري باعتماد نصاب الثلثين في انتخاب رئيس الجمهورية، لأن وجود العرف الدستوري يشترط توفّر عنصرين لازمين: الأول مادي، ويشتمل على التكرار والثبات والوضوح والعمومية والقِدَم، وهو عنصر متوافر بالتأكيد في مختلف عمليات الانتخاب الرئاسي في لبنان في ما خص نصاب الثلثين، وثانٍ معنوي ويتطلب الإقتناع بأن ما استقرت عليه العادة قد أصبح قاعدة قانونية تتعلق بقوة الإلزام. (Lêon Dugnit – traité de droit constitutional – la règle de droit – Le problème de l’Etat – Tome 1 – 3e éd. 1927 – paris p 1 et 5). وهو عنصر غير متوافر في المسألة بنتيجة الخلاف الدائم حول إشكالية النصاب.
ولكن حجج مناصري النصاب العادي، تجد حججًا مناهضة لها يتمسك بها أصحاب نظرية النصاب الخاص لانتخاب رئيس الجمهورية.
ب – نظرية النصاب الموصوف والخاص لانتخاب رئيس الجمهورية:
1 – نذكر من أبرز الفقهاء المؤيدين لهذه النظرية الأساتذة التالية أسماؤهم:
– الدكتور إدمون رباط ـ الوسيط في القانون الدستوري اللبناني – دار العلم للملايين – طبعة 1970 ـ صفحة 668 الى 678.
– الدكتور زهير شكر ـ الوسيط في القانون الدستوري اللبناني ـ المجلد الثاني ـ أيار 2019 ـ دار المنهل اللبناني ـ ص 655 الى 673.
– الدكتور محمد المجذوب ـ الوسيط في القانون الدستوري اللبناني وأهم النظم السياسية في العالم ـ الطبعة الخامسة 2018 ـ منشورات الحلبي الحقوقية ص 456 الى 458.
– الدكتور عادل يمين ـ التشارك في النظام الدستوري اللبناني ـ بيروت 2021 ـ طبعة أولى ـ ص 500 الى 523.
– الدكتور حسن الحسن ـ الأنظمة السياسية والدستورية في لبنان سنة 1967 ص 192.
2 – أبرز الحجج والبراهين الفقهية المؤيدة لهذا الرأي:
• يرى كل من الدكتور إدمون رباط (قبل تعديل 1990) والدكتور زهير شكر (بعد تعديل 1990) أنه من المقارنة بين المادة 49 والمواد 60 و70 و77 و79 من الدستور من جهة، والى النص الفرنسي لهذه المادة من جهة ثانية، أن المعنى الذي يبدو متوافقاً مع روح الدستور هو أن النصاب إنما يتناول مجموع أعضاء مجلس النواب.
• مقارنة المواد 60 و70 و77 و79 مع نص المادة 49 من الدستور:
– تنص الفقرة الثانية من المادة 60 من الدستور، العائدة إلى القواعد المتبعة في كيفية إتهام رئيس الجمهورية «بخرق الدستور والخيانة العظمى، بأن يتخذ مجلس النواب قراره في هذا الصدد، بأكثرية ثلثي مجموع أعضائه».
– كما أن المادة 70 المتعلقة بكيفية إتهام الوزراء «بارتكابهم الخيانة العظمى أو إخلالهم بالواجبات المترتبة عليهم»، تنص على أنه لا يجوز أن يصدر قرار الإتهام إلا «بأكثرية الثلثين من مجموع أعضاء المجلس».
في القواعد المنصوص عليها في الفقرة (ب) من الفصل الثالث العائد إلى تعديل الدستور، قضت المادة 77 بوجوب إصدار إقتراح مجلس النواب بتعديل الدستور، «بأكثرية الثلثين من مجموع الأعضاء الذين يتألف منهم المجلس قانوناً».
في المرة الثانية، وبعد إعادة مشروع التعديل إلى المجلس، إذا لم توافق عليه الحكومة، وجب، إذا أصر المجلس على مشروعه، أن يصدر قراره، عندئذ، بأكثرية ثلاثة أرباع من مجموع الأعضاء الذين يتألف منهم المجلس قانوناً…».
كما أن المادة 79، الواردة في الفقرة (ت) المتعلقة بأعمال مجلس النواب، قد نصت على أنه يجب أن تتألف الأكثرية المطلوبة، في حال طرح مشروع يتعلق بتعديل الدستور ـ من قبل الحكومة ـ «من ثلثي الأعضاء الذين يؤلفون المجلس قانوناً»، ليصبح إلتئام المجلس، مع الإضافة الى أنه «يجب أن يكون الإقتراع بالأكثرية نفسها».
الذي يبدو في هذه النصوص الأربعة، هو الإختلاف في صياغتها. ففي حين أن المادتين 60 و70 تذكران أكثرية تتألف على أساس مجموع أعضاء مجلس النواب، تصرّح المادتان 77 و79 الأخيرتان بأنه يقتضي أن تنظم أكثرية الثلثين أو الثلاثة أرباع من مجموع الأعضاء الذين يتألف منهم المجلس قانونا، أو من ثلثي الأعضاء الذين يؤلفون المجلس قانونا.
فبين الفئتين من النصوص الأربعة، إختلاف إذاً في أشكالها. كما أن الإختلاف قد وقع بين هاتين الفئتين من النصوص، فكذلك قد وقع بينها وبين نص المادة 49 من الدستور. ذلك أن المادة 49، بدلاً من أن تستعمل إحدى الصيغ الواردة في المواد 60 و70 و77 و79 ، قد اتبعت طريقة أخرى، للدلالة على أن النصاب هو في مجموع النواب، وذلك بقولها بأكثرية الثلثين «من مجلس النواب»، أي من أعضائه كلهم. ولا يمكن الإدعاء بأن عبارة من مجلس النواب تعني فقط تعيين الهيئة الصالحة للانتخاب.
يتضح إذاً، أن جميع هذه النصوص قد ارتدت أشكالاً مختلفة، للتعبير عن قاعدة واحدة، ألا وهي أن الأكثرية في الأحوال التي وصفتها لا تكتمل إلا بالنسبة إلى مجلس النواب بجميع أعضائه.
• العودة الى النص الفرنسي للمادة 40 من الدستور:
ـ هناك من احتج أيضًا بالإختلاف الواقع بين النص العربي للمادة 49 وبين نصها الفرنسي ـ السابق ـ إذ إن في النص الفرنسي قد نظم الإقتراع بأكثرية الثلثين من أصوات Suffrages مجلس النواب، بينما جاء القول في النص العربي بأن هذا الانتخاب يتم بأكثرية الثلثين من مجلس النواب.
في تحليل الدكتور زهير شكر لهذين النصين، لا يرى وجود تناقض بينهما، لأن النص الفرنسي يتميّز من النص العربي بإضافة ناخبي أو أصوات مجلس النواب، أي كل مجلس النواب. كما أن المشرّع الدستوري لو أراد النص على أكثرية الثلثين لقال: من أصوات النواب الحاضرين. ومع ذلك، وبعد أن أصبحت اللغة العربية لغة لبنان الرسمية الوحيدة (المادة 11 من الدستور) يكون النص العربي للمادة 49 النص المعوّل عليه وحده من دون النص الفرنسي الذي أصبح ملغى.
• تفسير النص علمياً:
أ ـ لتفسير القوانين، تفسيراً موضوعياً، قواعد علمية أصبحت شائعة، ليس في القانون الخاص فقط، وإنما في القانون العام ومنه القانون الدستوري (د. إدمون رباط ـ المرجع السابق ص 762).
كانت الطريقة القديمة تستند في تفسير القوانين أولاً، إلى ما يحتويه النص من العناصر اللغوية والقانونية، إذ إن المفسرين كانوا يجهدون لاستخراج ما أمكن استخراجه من النص المعروض على تفسيرهم بالإستعانة بمحتويات هذا النص وحدها. إذا أشكل عليهم فهمه، وتعذر تطبيقه، لجأوا عندئذ إلى «الأعمال التحضيرية أو التمهيدية» لهذا القانون، من تقارير موضوعة قبل صدوره ومن أجل إصداره ، ومناقشات برلمانية أو غير برلمانية قد تقدمته.
في هذه الأعمال التحضيرية، يتحرّى المفسرون، ليس فقط عما قصده المشترع عندما اعتزم وضع هذا القانون، وإنما أيضاً عن الغاية لكل حكم من أحكامه.
كان لا بد لهذه الطريقة الشكلية الضيقة من أن تؤدي إلى الإشكال في معرفة تلك المقاصد، لأن المشترع لم يلحظها، وإما أشار إلى إعسار تلاؤمها، وبالتالي في تطبيق القانون الذي ينطوي عليها، لأن الزمن قد تطوّر، وأن حالاً جديدة قد ظهرت. وعندئذ، كان يبدو القانون غير متوافق مع مقتضيات الزمن، وغير متجاوب مع حاجات المجتمع.
ب ـ لذلك، تحوّل رجال القانون، منذ أوائل القرن العشرين، إلى طريقة علمية كانت أنجع وأخصب من الأولى، تتلخص باعتبار القانون مؤسسة Institution اجتماعية أو ما يُسمّى القانون الحي، أضحت مستقلة عن أصولها التاريخية، ولا سيما عن الأسباب التي دعت الشارع إلى وضعها، وهي تحيا حياتها الذاتية، فتقوم بوظيفتها الاجتماعية الجوهرية، في المجتمع الذي يحيط بها، وتلبي حاجاته، وتقدم له ما تتطلبه مشكلاته من حلول ملائمة.
إن الغاية من القانون هي خدمة المجتمع وتدليل متناقضاته، لذلك فإن الطريقة الواجب إتباعها لإدراك هذه الغاية، لم تكن في التعلق، تعلقاً شكلياً بعيداً عن الوقائع الاجتماعية، باسباب القانون الأولى، التي دفعت إلى إصداره، وإنما باستنباط تفسير له، يتوخي المجتهد في اعتماده، إحقاق الحق وتحكيم العدل والوجدان، في إطار المصلحة العامة العليا.
ج – لتفسير المادة 40 من الدستور على ضوء تلك القواعد، فإنه ينبغي، بادئ ذي بدء، التذكير بما نصت عليه المادة 75 من الدستور ذاته من: «إن المجلس الملتئم لانتخاب رئيس الجمهورية يُعدّ هيئة انتخابية لا هيئة إشتراعية…».
هذا النص وحده كافٍ لإزاحة المادة 34 من الدستور عن التطبيق في مجال المادة 49، لأن المادة 34 مرتبطة بقيام المجلس بوظيفته التشريعية، في حين أن المادة 49 ترسم له كيفية توليه وظيفته الإضافية، وهي انتخاب رئيس الجمهورية، المستقلة دستورياً ومنطقياً، عن وظيفته التشريعية.
د ـ فرضت المادة 49 صراحة أكثرية خاصة «من مجلس النواب»، فتكون الأكثرية المفروضة للدورة الأولى لانتخاب رئيس الجمهورية، الثلثين من هذه الأكثرية أي من عدد أعضاء مجلس النواب.
أشار النص بعد ذلك، إلى أنه «يكتفي بالأكثرية المطلقة في دورات الإقتراع التي تلي»، ولا بد هنا من تطبيق الحكم ذاته، قياسًا، واعتبار الأكثرية في الدورات التي تلي مؤلفة من مجلس النواب أيضاً، لأن المنطق لا يستسيغ الإختلاف في القاعدة العائدة إلى حالة دستورية متعاقبة، بقيت واحدة في جوهرها.
ثانياً: في غالبية ما كرّسه الفقه الدستوري وطبقته الممارسة الدستورية:
1 – برغم أن الدكتور عادل يمين قد تفرّد با ستعراض الحجج المؤيدة لنظرية النصاب العادي في دراسته المذكورة أعلاه، فإنه يريد صراحة (في الصفحة ٤٩١ منها) إعتماد نظرية النصاب الموصوف والخاص، حين يشدّد على أن هذه المسألة تشكل واحدة من أبرز قضايا التشارك في النظام الدستوري اللبناني، حيث إن اعتماد نصاب خاص موصوف لجلسة انتخاب رئيس الجمهورية سيضمن مشاركة أكبر لمختلف الإنتماءات الطائفية للنواب في عملية الانتخاب، في حیں إعتماد النصاب العادي سيخرج الانتخابات الرئاسية من ضوابط التشاركية الطائفية.
2 – ويجزم الدكتور محمد المذوب (في مؤلفه المشار إليه ص 456 الى 458) بأن الأخذ بالنصاب العادي في الانتخابات الرئاسية يشكل مخالفة للمبادئ والأسس التي قام عليها الدستور، ويعتقد أيضًا أن المجلس النيابي يكون قد تجاوز صلاحياته عندما يسمح لنفسه وللجانه المشتركة باستنباط حلول وتفسيرات لا تتلاءم مع النصوص الدستورية. ويضيف الدكتور محمد المجذوب: «ولو أجرينا مقارنة بسيطة بين المادة 49 والمواد 60 و70 و77 و79 من الدستور، لوجدنا أنها كلها، على الرغم من إختلاف تعابيرها، تعتبر أن النصاب لا يكتمل إلا بالنسبة الى مجموع عدد أعضاء المجلس، بالإستناد الى هذه المقارنة يجد من غير المنطقي وغير المعقول انتخاب رئيس للجمهورية بغالبية نسبية تمثل أقلية من النواب».
ويتابع الدكتور المجذوب (ص 457 ـ 458): «وفي مجلس النواب الحالي المؤلف من 128 نائبًا، كيف نفسر «غالبية الثلاثين من مجلس النواب». هل المقصود بها ثلثي أصوات الحاضرين المقترعين، أم ثلثي مجموع العدد الأصلي للنواب؟ إذا سلمنا بصوابية الرأي الأول «إفتُتحت الجلسة بحضور 86 نائبًا من أصل 128، وجرى الإقتراع واعتُبر فائزًا من نال ثلثي الأصوات، أي 58 صوتاً إذا صوّت الجميع، وإذا لم ينل أحد 58 صوتاً إكتُفي بالغالبية المطلقة في الدورات اللاحقة، أي 86 ÷ 2 + 1= 44 صوتاً، ويمكن أن يتضاءل هذا العدد إذا اقترع بعض النواب بأوراق بيضاء.
ويرى معظم الفقهاء أنه من غير المنطقي التسليم بهذا الرأي، لأن الرئيس يجب أن يحظى بموافقة غالبية موفورة تعزز مركزه، ولأن الدستور اشترط أغلبية أكبر من الأغلبية العادية في موضوعات أقل أهمية. ولهذا يرى هؤلاء الفقهاء أن الغالبية المطلوبة في المادة 49 هي غالبية ثلثي مجموع عدد النواب بكاملهم، أي 86 صوتاً، وعلى هذا الأساس يُعتبر المرشح للرئاسة فائزًا في الدورة الأولى إذا حاز 86 صوتاً أو 65 صوتاً في الدورات الأخرى (128 ÷ 2 + 1 = 65).
3 – ويؤكد الدكتور زهير شكر على الموقف والرأي ذاته، متسائلاً (مرجع سابق ذكره ص 669 – 670): هل من المعقول، بل من المصلحة الوطنية، أن يأتي رئيس الجمهورية منتخبًا بنتيجة إقتراع جارٍ على أساس النصاب العادي؟ لا شك أنه سيكون معبّرًا عن إرادة نفر من النواب، وممثلاً من ثم لأقلية من الشعب.
إن عملية انتخاب رئيس الجمهورية هي من العمليات الأساسية في حياة لبنان، لأن الدستور قد أراد أن يكون رئيس الجمهورية رئيسًا للدولة وليس لفئة معينة من الناس، وبنزعه عنه كل مسؤولية برلمانية قد ترفعه الى مصاف الحَكَم الأعلى، لتوحيد كلمة الوطن بين عناصره وأحزابه كلها.
فلا يكون من المعقول أن يتم انتخاب رئيس للجمهورية بالأكثرية البسيطة وبالنصاب العادي، لكي يكون وليد أقلية من النواب، لا تنعكس فيها أماني الشعب ومطالبه. إضافة الى ذلك، فإن العرف قد استقر على اعتماد الأكثرية المطلقة من مجموع أعضاء المجلس الذي يؤلفونه قانوناً، أي مجموع عدد النواب الأحياء، إلا إذا شغر في ظروف سياسية طبيعية، أحد المقاعد في الأشهر الستة الأخيرة من ولاية المجلس.
ويلفت الدكتور شكر الإنتباه بالنسبة للتأكيد على النصاب الخاص لانعقاد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية (ص 663 فقرة 962) الى أن الإعتبارات السياسية والطائفية التي أملت إعتماد أكثرية الثلثين لتأمين النصاب القانوني منذ الإستقلال، حتى لا يسمح، في ظل مجلس نيابي طائفي، لطائفية معيّنة بالتفرّد في اختيار رئيس للجمهورية، ما زالت قائمة، لا بل زادت حدّتها خاصة بعد إستشهاد الرئيس رفيق الحريري وما تبع ذلك من تنازل حول العلاقات بين الرئاسات.
التعديل الدستوري الصادر في 21/9/1990 أقرّ مبدأ المناصفة في توزيع المقاعد بين المسلمين والمسيحيين، وهو الأمر الذي زاد من إمكانية إستئثار طائفة أو مذهب بانتخاب رئيس الجمهورية فيما لو اعتمدنا الأكثرية المطلقة في مسألة النصاب.
انتخاب العماد ميشال عون رئيسًا للجمهورية بعد شغور إستمر سنتين ونصف، نتيجة عدم توافر نصاب الثلثين، حسم وبشكل نهائي مسألة النصاب بأكثرية الثلثين من مجموع أعضاء البرلمان.
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]