كتب سيمون سمعان في “المسيرة” – العدد 1735
صراع بقاء سعياً لتمرير الأزمة
الأسواق في الأعياد فرح مفقود في انتظار الفرج
منتصف تشرين الثاني صدر قانون الموازنة العامة للعام 2022 في الجريدة الرسمية لتصبح نافذةً وفاتحةً بذلك الباب على العديد من الخطوات المالية، سواء لناحية زيادة رواتب القطاع العام وما تتطلّب تلبيتها من إنفاق، أو زيادة الرسوم وما يستتبع ذلك من ارتفاع في الأسعار. هذا الواقع، تزامن مع إرباك سياسي رسمي ناشئ عن الشغور الرئاسي وسجالات الصلاحيات، ومع فقدان ثقة تزيده حدّة إعاقةُ انتخاب رئيس يمكن أن يرسي الحد الأدنى من وجود الدولة وعمل المؤسسات المنهك من الفساد وسوء الإدارة. في مثل هذا الزمن من كل عام، كان ينشغل اللبنانيون بالتحضير للأعياد، بتزيين البيوت والشوارع، بالدوران في الأسواق والمولات يحملون الفرح ويبحثون عن ترجمته مشتريات واحتفالات. غير أن السنوات الأخيرة حرمتهم هذه المتعة وإن كان إيمانهم يجعلهم راضين بخبزهم كفاف يومهم. لكن لزمن الأعياد فرحه العارم ومتطلباته الكثيرة، ويعود هذا العام وسط صعوبات وتعقيدات.. فكيف يصف الإقتصاديون وأرباب القطاعات الوضع، وما هي المخارج؟
واضح أن أكثر من مسألة إقتصادية ومعيشية تتزاحم في الوقت الضائع بين نهاية العهد ونهاية العام. جدل وتخبّط حول قانون الكابيتل كونترول، قراءات مختلفة عن تأثير زيادة الرواتب على سعر صرف الليرة مقابل الدولار، تقديرات متباينة حول أثر رفع الدولار الجمركي على أسعار السلع الإستهلاكية، والسقف المرتقب أن تبلغه مختلف الحاجيات. وكل ذلك وسط زيادات متفلّتة من غير خدمات بالمستوى المطلوب في الكهرباء والمولدات والسرفيس والإستشفاء والتعليم، وما إلى ذلك من متطلبات حياتية باتت أبعد من قدرة معظم اللبنانيين الذين تتوسّع بينهم شرائح من ينضمّون إلى المصنّفين تحت خط الفقر.
قراءات إقتصادية وتوجّسات مالية
يزداد تساؤل المواطنين كما الخبراء عن كيفية تأمين الدولة للإيرادات، سواء لدفع الرواتب للموظفين أو لتأمين ما يترتّب على الخزينة من مدفوعات، في حين لا موارد داخلية ولا تدفقات خارجية ولا تحويلات ولا بابَ متاحًا للإستدانة بعدما توقّف لبنان عن سداد ديونه الخارجية ولم يُقدم على تنفيذ أي من الإصلاحات المطلوبة كشرط للدعم المالي؟!
في هذا الإطار يشير الخبير الإقتصادي إيلي يشوعي إلى أن «مسألة الجباية أساسية بمعنى أنه يجب أن تسعى الدولة إلى منع التهرّب الضريبي وجباية فواتير الخدمات العامة. وهذا الإجراء ضروري لتأمين الإيرادات من دون أن تكون الدولة مضطرة لأن تلجأ إلى طبع المزيد من العملة الوطنية. كما يجب أن تترافق التصحيحات مع إعادة تكوين الرأسمال والإحتياطيات الوطنيَّين من العملات الأجنبية من خلال إعادة توطين الأموال والرساميل المهرّبة أو بإعادة الثقة لحملة الدولارات في الداخل بغية تشجيعهم لإعادتها إلى المصارف، بالإضافة إلى مسألة تعويم المصارف لتعود قادرة على تمويل النهوض الإقتصادي».
هذا التخوّف يترافق مع توجّسات لدى صرّافين واقتصاديين ومصرفيين حول المدى الذي يُمكن أن تذهب إليه أسعار الصرف والسلع في الشهر الأخير من السنة. وقد حذّرت مصادر معنية بالشأن المالي والاقتصادي من انعكاس بنود الموازنة سلباً على الوضع المعيشي للمواطنين وقدرتهم الشرائية في ظل ارتفاع سعر صرف الدولار في السوق السوداء، والتوجّه الذي بات معلنًا لاعتماد الدولار الرسمي على سعر 15 ألف ليرة في مطلع العام المقبل. وقدر مسؤولون في وزارة الإقتصاد أن الرسوم والأسعار ستزداد بنسبة تفوق الـ 20 في المئة فور اعتماد سعر 15 ألف ليرة. ويرى إقتصاديون أن زيادة الرواتب ستضخّم الكتلة النقدية بالعملة الوطنية والتي قد تصل الى مئة ألف مليار ليرة، وأن من شأن ذلك أن يُضعِف العملة الوطنية أكثر فأكثر وسط غياب خطّة إقتصادية علمية، وإدارة حكومية رصينة وفاعلة، وعدم استقرار سياسي.
جولة في الأسواق… وصدمة!
وسط هذا الجو السلبي وغياب الرقابة والمتابعة الرسميتين يجد الدولار طريقه سهلاً للتقدّم ولو صعودًا، كما يجد الجشعون من التجار خطواتهم آمنة في التسعير ولو على دولار 45 ألفًا وعلى حساب معيشة المواطنين، من دون أي رادع. وفي جولة على الأسواق والسوبرماركت، يتبيّن فعلا كم أن الأسعار غير متلائمة مع مداخيل معظم العائلات اللبنانية. وإذ يبرر التجّار الإرتفاع بفارق السعر بين الليرة اللبنانية عملة التسعير والدولار الأميركي عملة الشراء، يُقرّون بأن الأمر لم يعد سهلًا على المستهلك. ويشددون أنه بالفعل نفسه هو غير سهل على التاجر الذي انخفضت أرباحه في المتوسط إلى أقل من النصف، بحسب نقاط البيع، لافتين إلى أنه لو لم يكن الأمر كذلك لما لجأ البعض إلى إقفال متجره.
تعليقاً على ذلك، يجيب رئيس نقابة مستوردي المواد الغذائية هاني بحصلي عن عدم تخفيض أسعار المواد عند انخفاض سعر صرف الدولار، بإنّ «هذا غير مقبول، ومن جهتنا كنقابة مستوردين نُصدِر لوائح واضحة كلما ارتفع أو انخفض الدولار». ولفت إلى أنه «يجب التفريق بين المستوردين والسوبرماركات، فالمؤسسات الكبيرة تلتزم باللوائح، ولكن هناك 20 ألف نقطة بيع لا يمكن ضبطها كلها».
الأمر نفسه ينسحب على الألبسة وعلى عدد من السلع التي تلقى عادةً طلبًا في فترة الأعياد. فعلى سبيل المثال لا يوجد في السوق قطعة ثياب متوسطة النوعيّة بسعر أقل من مليون ليرة. وطبعًا الماركات المعروفة باتت إما مفقودة أو بأسعار تفوق قدرة المستهلك المتوسط الدخل. وبعملية حسابية بسيطة يتبيّن عدم قدرة أية عائلة على التبضّع بالشكل الذي كانت تمارسه سابقًا، كونه بات يتطلب عشرات الملايين، في وقت لم تعد هذه المبالغ متاحة للعائلات.
يُضاف إلى ذلك كلفة التنقل للأشخاص والنقل للمنتوجات على أنواعها والتي باتت تشكل نسبة عالية من الأسعار. فتعرفة السرفيس مثلا بلغت 80 ألف ليرة وليس من يكفل لجمها في حال واصل الدولار ارتفاعه. وهناك من صوّر الوضع بأنه لم يعد في علاقة تشاركية بين المنتِج والتاجر والمستهلك، بل بات صراع بقاء بينهم سعيًا لتمرير الأزمة على أمل استعادة السوق استقراره بعدها. ويقول رئيس إتحادات ونقابات قطاع النقل البرّي بسام طليس إنّ «تعرفة السرفيس تصدر بقرار من وزير الأشغال». وكما رمى بحصلي المسؤولية على نقاط البيع، رماها طليس على سائقي الأجرة، معتبرًا «أن ليس هناك من يراقب أو يحاسب على ما يقوم به السائق العمومي من ناحية تعرفة السرفيس».
وليس الأمر مقتصرًا بالنسبة إلى اللبنانيين على المشتريات أمتعةً وحاجياتٍ وموادَّ غذائية، بل هناك سندات القروض الشهرية التي توقّف بعض المصارف كلياً عن استيفائها من المقترضين الأفراد على سعر صرف 1500 ليرة، مشترطين التسديد على سعر 8 آلاف أو 15 ألف ليرة. الأمر الذي خلق بلبلة كبيرة خصوصًا في ظل عدم صدور أي قرار بذلك عن جمعية المصارف، أو أي تعميم عن مصرف لبنان.
وبسؤال «المسيرة» أحد المصرفيين، جزم بأن هذا الأمر غير منطقي ولم تعتمده كل المصارف، إنما بعض الفروع وفي شكل منفرد. وتوقّع أن تقوم هيئة الرقابة على المصارف بدورها لوقف هذا الإجراء. لكنه في الوقت عينه اعتبر أن استيفاء القروض على سعر 1500 ليرة لم يعد منطقيا أيضا ولا متناسبا مع الواقع، مشيرا إلى أن هذا الأمر قد يصبح واقعا في غضون أشهر قليلة، لكن بعد تصحيح فعلي للأجور، وإلا فإن قيمة السند تصبح أكبر من راتب المقترض الذي لم يتصحح راتبه بالقيمة الموازية، ما يخلق مشكلة اجتماعية – اقتصادية وأخرى قانونية.
ماذا عن المستقبل؟
كل هذه العوامل تجمّعت وتضافرت مع غيرها من المسبِّبات لتشكّل هذا الكمّ من التعقيدات والعقبات على طريق اللبنانيين الباحثين عن فرح مفقود حتى في زمن الأعياد. ويرى الإقتصاديون أن الشغور الرئاسي والشلل الحكومي في لبنان، يؤديان إلى استمرار التأزم الاقتصادي والاجتماعي. ويعتبرون أن ذلك يؤدي إلى تأجيل كل الحلول الممكنة، لمعالجة الأزمة الاقتصادية، لحين انتخاب رئيس، وتشكيل حكومة فاعلة. وهذا ما يؤدي بنظرهم، إلى استفحال الأزمات المتصاعدة، من سعر الصرف، إلى أسعار المحروقات والمواد الغذائية، وشح الأدوية وغير ذلك من أزمات. وثمّة من يتحدّث عن توجه حكومي بالتنسيق مع مصرف لبنان لرفع الدعم كلياً عن الطحين بعد نفاد أموال قرض البنك الدولي والبالغة 150 مليون دولار، الأمر الذي سيرفع سعر ربطة الخبز الى 50 ألف ليرة. لكن في المقابل هناك من يطمئن إلى أن ثمّة مساعي وآليات لتجديد القرض. وقد أعلن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي أن «المجلس التنفيذي لبرنامج الأغذية العالمي قرر تخصيص مبلغ 5 مليارات و400 مليون دولار أميركي للبنان للسنوات الثلاث المقبلة، مع وعد بأن تكون المنتوجات المشتراة لغاية المساعدات الغذائية من لبنان بالكامل».
لكن هذا لا يعني توالي الإنفراجات، فحاكم مصرف لبنان رياض سلامة أكّد أن المصرف المركزي سيبدأ العمل بسعر الـ15000 ليرة مقابل الدولار ابتداء من أول شباط 2023 وأن التعميمين 151 و158 سيصبحان على 15000 بدل الـ8000 والـ12000 إبتداء من هذا التاريخ. وسيبقى العمل بالتعاميم ساريًا إلا إذا صوّت المجلس النيابي على قانون الكابيتال كونترول، فعندها يتم إلغاء كل هذه التعاميم ونصبح محكومين بالتعاطي بين المودعين والمصارف تبعا للقانون الجديد.
وسط كل ذلك، هناك أمل؟ نعم. لكن غير مسنودٍ إلى مسوّغاتٍ في الواقع، وأي إجراء آنيّ ترقيعي، لا يعيد للبناني البحبوحة والفرح ما لم يستقم المسار العام للأمور وتصطلح السياسة كسكّة مستقيمة لجريان الإقتصاد، وعليه فإن كل الحلول تبقى عاجزة عن إصلاح الأوضاع المالية والإقتصادية والمعيشية. وما على اللبناني إلا ابتكار الصبر إلى أن يحلّ الفرج!
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]