كتب ميشال يونس في “المسيرة” – العدد 1735
أراضيهم الرهبانيّةُ الشاسعةُ الزمانِ على مَدِّ بِرِّه وأبرارهِ، الوسيعةُ المكانِ وِسعَ براريه وقِفارِه، المُترامية الأطرافِ حتّى صوتِ الربِ داخل فردوس عدنٍ يُنذِرُ آدمَ المخدوع: «مِن عَرَقِ جبينِكَ تأكل خبزكَ». هذه الأراضي الفردوسيّة اللبنانية هي ذاتُها التي فُتِحَت مدرسةً وكليَّةً وجامعةً مُعلِّموها ذوو أساكيمَ عصاميَّةٍ تنسدلُ فوقَ جباهِ ناذريها بيارق لوطنٍ أرضياتُه تُساوي سماويّاتِه، كيانُه كيانُ آية حبَّةِ القمحِ التي لا تُثمِرُ سنابل وحِنطةً وخميرًا وخبزًا إلاَّ إذا تناسلَت تناسلاً ميلاديًا مع التُّرابِ الأعمقِ خصبًا وتجذُّرًا وانتماءً لشعبٍ إكتسبَ مِن نُذرِ طاعةِ رهبانِه للرب فِعلَ طاعتِه التامّة لجذوره وجزوعِه التي إن انقطع عنها وقع في خطيئةِ خطايا القُحطِ واليباسِ، ثمَّ اختبرَ في نذرِ عفافهم إلاَّ لبتوليةِ أم الرب منهجيَّةَ تعفُّفِهم عن أسباب ومُسبِّباتِ طَردِ آدم من فردوسه وليس من فردوسٍ مُصطنَعٍ مُصنَّعٍ تصنيعًا بشريًا يُضاهي سماويّة فردوسهم اللبناني، وشعبٌ علَّمه فقرُ رهبانِه كيف يعتصمُ بوطنٍ نَذرَ بانوه الأبرار الأوّلون الأفذاذ التخلّي والإستغناء عن كلٍّ ما لقيصر لأجل امتلاكِ كامل الإيمان والرجاء والثقةِ بصلاة: «أعطنا خبزنا كفاف أيامنا وأجيالنا ودهورنا حتّى أبدِ آبدين وَقفِ جبل أرز الرب»!
إنَّهم رهبان لبنان المُتحدِّرون أصلاً وفرعًا مِن مَساكنِ نشيد مزمور: «لتفرحَ البريَّةُ والقَفرُ وتزدهر الباديّةُ وتُزهِر إزهارًا». هذا الترنيمُ الأخَّاذُ الذي ألهمَ أباهم الثريّ أنطونيوس لأن يوزِّعَ ثرواتِه وممتلكاتِه على الفقراء والمساكين لأجل أن يكونَ له كنزٌ في السماء لا يفنى. إنهم رهبان لبنان المُتحدِّرون أصلاً وفرعًا من ملكوتٍ دَلَّهم عليه أبوهم مارون الإلهي مَسقوفٍ بِشَعرِ مسوح حبسائهم وبِشِعرِ تسابيحِ وتهاليل وهللوياتِ أبرارهم وصِدِّيقيهم المُرتَفعين كأرز لبنان. إنَّهم رهبان لبنان آباءُ الصِّعابِ صناديدُ المِحَن ملافنةُ تدريس الصَّخرِ دروس البناء وجهابذةِ زَجرِ الأعاصير وتطويع عتوِّها. إنهم روّادُ التآخي مع العوسَجِ والقُطرُبِ والقِندولِ والعُلَّيقِ، منها تعلَّموا وعلَّموا اُمَّتَهم أُمَّة الأديار بأن الأشواكَ البريَّة الجارحة إن لم تُنبتُ عنبًا لخمرةِ الأفراح والأعراس فإنَّما حتمًا وتأكيدًا ستُثمرُ تيجانًا منسوجةً مُحَيَّكةً لجباهِ ملوكِ الصَّلبِ والصلبان، ملوكٌ لبنانيونَ أدركوا بالرؤيا والبَصرِ والبصيرة أنَّ لبنانيَّتَهم ومنذ 1600 عام هي جلجلةٌ مُتَّصلةٌ بانصلاب ذراعَي إبن الله فوق خشبةِ الأمم، ومُتواصلةٌ بدروب آلامٍ لبنانيَّةٍ مُبرِّحَةٍ لاهوتُها بطاركةٌ مقاومون صُلِبوا وأُحرِقوا ورهبانٌ ذُبِحوا من الورديّةِ إلى الوريدِ.. وناسوتُها رجالٌ إستثنائيون منذورون للموتِ فِداءً عن الأُمَّةِ اللبنانيّةِ وحدها من دون سواها، ومساميرُها أزمنةُ يُسرٍ وأزمنةُ عُسرٍ، ومُرُّها أيام خبزٍ وأيامُ جوعٍ، ومريماتُها أمهاتُ شهداءٍ لأجلهم تمجَّدت وتقدَّست ترنيمة: «فليكُن موت أبنُكِ حياةً لطالبيها».
رهبان لبنان ملافنةُ مدارس السنديان يوزِّعون على طلاّبها الجرديين شهادات اختصاص منازلةِ عواصف الدَّهر العاتيّةِ وإجازات الثّباتِ على الإخضرار الدائم، إخضرارُ الروح والعقلِ والذاكرةِ أوَّلاً، ثم خصوبة الكُتُبِ والدفاتر والمحابر والأقلامِ ثانيَّةً. إنَّه مُعلِّمي الراهب مُستلهمُ ومُكتَشِفُ ومُفتَتِحُ مدرسة تحت السنديانة يجذبُ إليها أطفال شعبه وفتيانِه بجاذبية ومهارة صنارة أول تلميذ معلم بحيرة جنّاشر سمعان بن يونا، فينطلق بهم للتنقيب عن مناجم ومعاجم العلمِ بلبنانياتِه وعالميّاتِه إبتداءً من فرحةِ حِفظِ مزامير الطّوبى وأبجدية آراميَّةِ كُتُبِ الصلوات التي تخرَّج منها طوباويوه وقدِّيسوه بتراتُبيَّتِها العريقة: أبجَد. هَوَّز .حًطّي. كَلمَن. سَعفَص. قَرشَت.
وإنّهم رهبان لبنان الموارنة الذين حملوا منائرَهم الفكرية العلميّةِ المدرسيّةِ مُجتازين البحر من شواطئ لبنانهم إلى شواطئ مرفأ جزيرة قبرص حيثُ يتوطَّدُ وجود شعبهم الماروني منذ سنوات الألفيّة الأولى!
من جبال لبنان الى شواطئ قبرص
بعد أن اجتاز الصعاب والمخاطر والمطبّات بين وادي القديسين وكُرسي بطرس في روما لأجل أن ينال إستقلال رهبانيَّته إستقلالاً بطرسيًا بابويًا وينشلُه من بين أيادي رؤساء وأحبار هذا الدَّهر، توسَّعت رؤيا رئيس الرهبانية اللبنانية المارونية الفَذّ الأب العام ميخائيل إسكندر الإهدني إلى أبنائه الموارنةِ النّازحين من جبل لبنان إلى الجزيرة القبرصية عبرَ توالي أزمنةِ الضِّيق الشديد لأجل أن يُزوِّدهم بزاد العِلمِ من خلال تأليف عنصرةٍ رهبانيّةٍ لبنانيَّةٍ تسافرُ إلى قبرص المارونيّة وتكِف مع شعبها بالجسد والروح والكتاب والكلمة من خلال رسالةٍ أبويَّةٍ تاريخيَّةٍ وجَّهها الأب العام الإهدنيُّ المقدام مُستوحاةٍ من آيةِ: «كنتُ جائعًا فأطعمتموني»، لتُصبحَ بصيغةِ: «كنتُ أُمِّيًا فعلَّمتموني». رسالةٌ مُستلهَمَةٌ من أغلى تمنيّات المعلم يسوع: «مجّانًا أخذتم مجّانًا أعطوا».
وهذا هو النَّص الحرفي لرسالة الأب العام ميخائيل إسكندر الإهدني الموجَّهة عام 1735 إلى الأب إندراوس القبرصي، ترجمان المجمع المقدّس في روما، يقول فيها: «وأمَّا من جهة قولكم أنكم عينتُم كلَّ سنة عشرين قرشًا عملة بلادنا ترسلها كل سنة إلى إخوتنا الرهبان إلى قبرص ليعملّوا رسالة فيها، فلأجل نيتكم الصالحة قد حرَّكَنا ربُّنا إلى عمل آخر أحسن وأثبَت من الرسالة كل سنة .وأمّا عملُنا فهو: أننا اعتمدنا اعتمادًا كليًا وأرسلنا إثنين من رهباننا إلى جزيرة قبرص وهما أبونا بطرس المصوّر ومعه رفيقه القَسّ مكاريوس العشقوتيّ، وأوجبنا على المَذكوريَن أن يفتحا مدرسةً للعلم الروحانيّ والقراءة للأولاد الذين يجمعونهم من كل الضّيع والمواضع التي فيها ماروني، لأن كل القُرى ما فيها أولاد كفاية. وحتى يصير خير لكل الطائفة في قبرص، قلنا لهما أن يجمعا الأولاد الذين يريدون أن يتعلَّموا وأن يجولا أيضًا في القرى البعيدة في كل مدة، ويُعلِّما ويُرشدا المسيحيين على قدر قوتهما ومعرفتهما… والأبوين المذكورين سافرا إلى قبرص من شهرين وكسور قبل تاريخه. وإن سألتنا من أين يكون معاشهما لأن أهل قبرص فقراء، فنُجيب أولاً: لمّا نظرنا ضرورة العمل في قبرص، إتكلنا على الله وأرسلناهما وأعطيناهما خرجيتهما من مال الرهبنة الفقيرة نحو ستين قرشًا، وأوصيناهما أيضًا أن الولد الذي يقدرون أهله أن يبعثوا له مؤونة، مليح. وأمّا الفقير الذي ليس لأهله قوة ومقدرة أن يعيلوه، أطعماه من الرغيف الذي يرزقكما الله أياه. والرجا بالله الجوّاد وغَيرة أهل الخير. «إن الله ما بيقطعها»، أنه بيصير خير من هذه المدرسة أكثر من مدرسة عينطوررة. هذا مختصر أخباري لحضرتكم. فبقيَ المأمول من همَّتكم أن تسعوا وتتكلّموا بمساعدة هذه المدرسة وإثباتها حتى تكونوا مُشتركين مع الرهبنة بهذا الخير».
رسالة الرئيس التاريخي للرهبانية اللبنانية المارونية الأب العام ميخائيل إسكندر الإهدني النّاضحة كليًا بما في عقل وقلب معلم التلاميذ الإثني عشر، هي رسالةٌ عابرةٌ منذ عام 1735 حتى أبعد بكثيرٍ من عام 2022، لتتوجه اليوم وغدًا وما بعد غد إلى جميع إدارات الجامعات والكليات والمدارس الرهبانية والكاثوليكية والمسيحية، وسائر إدارات المعاهد اللبنانية الأخلاقية الإنسانية!!!
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]