لن ينسى العالم سنة 2022 الموندياليّة، فإقامة كأس العالم في الفترة الشتويّة الأقرب إلى نهاية السنة للمرّة الأولى كان له أثر مميّز… فزملاء الدراسة يتحدّثون عن يوميّاتهم الموندياليّة في الزمن الحاضر، لا عن أمرٍ مضى في الصيف، والأسرة تلتف حول التلفاز في ليالي الشتاء القصيرة… وزملاء العمل، يجدون ما يكسر رتابة حسابات آخر السنة، والجرد العامّ، وكلّ ما يتناوله من إعادة قراءة لسنة مضت «على خير»… وبين أهداف المونديال وأهداف الحكومة اللبنانيّة، لنُعيد مشاهدة بعضها…
بالتأكيد، أضفت استضافة قطر لهذا الحدث الرياضيّ رونقًا خاصًّا، فهذا البلد العربيّ، الصغير في المساحة وتعداد السكّان، والمحدود في موارده البشريّة والزراعيّة، عرف طفرة في النصف الثاني من القرن الماضي، بعد اكتشاف النفط، وبات اليوم من حيث التنظيم وحسن إدارة، أيقونة يُمتَثل بها، وخصوصًا من البلدان المجاورة، والنامية، والصغيرة مثل لبنان.
إذ في كلّ مرّة كنّا نرى فيها مشهدًا حضاريًّا، أو بنية تحتيّة، أو منشأة رياضيّة، ننذهل… ونقول: إنّ هؤلاء القطريّين، كانوا يعيشون في ظروف طبيعيّة واقتصاديّة صعبة منذ زمن، وفي حين كان لبنان يتغنّى بطبيعته واقتصاده، انقلبت الآية، واليوم يعجز عن لفت نظر العالم إليه مجدّدًا، سوى بالكوارث الاقتصاديّة، وفراغه الرئاسيّ، والحياة السياسيّة الهشّة…
في الحديث عن البنى التحتيّة، أصبح لبنان غارقًا في العتمة، وطرقه بالحُفر، ومياهه شحيحة، وما زال يحلم بشبكة مواصلات عامّة تنقذه من شبه الشلل الّذي ضرب قطاع المواصلات، فتضاعفت أجور النقل مع ازدياد أسعار النفط عالميًّا، خصوصًا مع بداية الحرب الروسيّة ـ الأوكرانيّة… وبات اليوم يشتهي فتات الباصات الّتي تزيد في بلاد أُخرى، ونراه يستعطف قلوب القطريّين أو الفرنسيّين ببضعٍ من الباصات المستعملة، يملأ فيها فراغ طرقه وشوارعه، ولو قليلًا.
وكما لا يخلو أيّ مونديال من الأرقام القياسيّة. كذلك عرف لبنان إنجازاتٍ أُخرى، من نوع ضمان حضوره على منصّة التتويج، في عيشه أقسى أزمة اقتصاديّة منذ منتصف القرن التاسع عشر، أو حصوله على المركز الأوّل من حيث معدّلات الانكماش، والمرتبة الثالثة بمعدّل التضخّم، وما رافقه من انخفاض حادّ في دخل الفرد، وارتفاع قياسي في معدّلات البطالة، من دون أن ننسى الأرقام القياسيّة الّتي ضُربت في أسعار صرف الدولار الأميركيّ، الّذي تضاعف منذ بداية السنة إلى نهايتها.
مع نهاية المونديال، ارتفعت ثقة كثير من البلدان بإمكاناتها، وأصبحت أكثر جرأة على ركوب موجة التحدّي، لتصل إلى مستويات متقدّمة من التنظيم والرعاية. في المقابل، زادت ثقة البلدان المتقدّمة في التعاون مع البلدان الناشئة والعربيّة، ولكن لبنان يذهب في عكس هذا التيّار… بحيث أنّه فَقَد عامل الثقة عند المجتمع الدوليّ بسبب حكوماته الّتي فشلت بأيّ شكلٍ، لتغيير الصورة الّتي التصقت بها من حيث الزبائنيّة وتقديم المصلحة الشخصيّة على المصلحة العامّة.
وفي حين كانت الدول تتسابق على تقديم التخفيضات الضريبيّة، جاء لبنان بسياسة رفع الضرائب لتسديد عجزه، ولوّح بزيادة الدولار الجمركيّ، فلم يعرف أن يحقّق أيّ هدفٍ «رغم كل تسديداته»، وبالطبع ارتفع أثره على أرض الواقع حتّى قبل إعلانه، «فاشتعلت» أسعار المواد الأساسيّة، وبات كلّ شيء مشتهى وغير ممكن.
وفي حين تلاشت الطبقة المتوسّطة في المجتمع اللبنانيّ، وبعد أن فشل المسؤولون في الحدّ من الفقر عمومًا، فشل التلفزيون الرسميّ (تلفزيون لبنان) في التعاقد مع شركة النقل الحصريّ للمونديال، فعرف الفقير أيّ مكانة لديه عند المسؤولين، وأيّ حلمٍ فارغ يعيشه كلّ يوم بمستقبل أفضل. فالفرح لم يعُد مجّانيًّا، ولا يمكن أن يكون بعد الآن إلّا بنكهة الدولار الأخضر… إذ لا توزيع عادلاً للموارد، ولا مبادرات تُعيد شعور الانتماء عند المواطنين.
من ناحية أُخرى، شهد لبنان على نزيف القوى العاملة، والعقول المفكّرة، وقد رأينا كيف أنّ دول الخليج مثلًا قد استقطبت كثيرًا من اللبنانيّين، واعتمدت عليهم في تفاصيل نجاحها، وكانوا الجنود المجهولين لكثير من الفعاليّات، وبات اللبنانيّ يتغنّى بحسن تقدير هذه البلاد لجهوده، في حين أنّه كان يبحث عن أيّ لفتة يشعر بها بقيمته كمواطن، من استخفاف بتحقيق العدالة، خصوصًا مع قضيّة مرفأ بيروت، إلى استخفاف بقيمته كإنسان مع تفشّي الحوادث الأمنيّة، من دون أيّ رادع أو متابعة.
عادةً ما تسعى الدول إلى رفع معدّلات الرفاهيّة لدى شعوبها، ويُعتبر مقياس السعادة لدى الشعوب معيارًا يعكس حالة المواطنين… وعلى العكس ممّا تقدّمه الحكومات من خدماتٍ مجّانيّة، شهد العام المنصرم ارتفاعًا في تكلفة الخدمات، لعلّ أبرزها تكلفة الاتّصال بالإنترنت والشبكات المحمولة، فأصبح اللبنانيّ شيئًا فشيئًا يشعر وكأنّه وقع في فخّ مصيدة التسلّل، في كلّ مرّة يحاول أن يسجّل هدفًا، يأتي «VAR» الحكومة ليُلغي فرحته. فهو لا يعرف أيّ نوع من الحماية والشعور بالأمن مع رفع الدعم عن كثير من السلع الأساسيّة، وأدوية الأمراض المزمنة، ليبقى تحت رحمة «كروت» المستشفيات الحمر والصُفر، تلك المستشفيات الّتي تعاني من خلل اقتصاديّ كبير بسبب الأزمة العامّة، وانهاكها بعد سنتين من جائحة كوڤيد-19.
كذلك، شهد العالم كيف أنّ المونديال عرف حلولًا مستدامة، ومنها ملعب 974 الّذي بُني من 974 حاوية شحن، سيتمّ تفكيكها، بالإضافة إلى المقاعد التي يستخدمها الملعب، وتقديمها كمساعدة إلى البلدان الأقلّ نموًّا في العالم. إذ يُعدّ هذا الملعب أوّل مكان مؤقّت في تاريخ كأس العالم. أمّا في لبنان، فما زالت الحلول غير المستدامة، والعدوّة للبيئة هي المسيطرة. فعلى الرغم من نشاط كثير من المبادرات والجمعيّات غير الحكوميّة في مجال حماية البيئة والابتكار الأخضر… تبقى العقليّة النفعيّة والاستهلاكيّة سائدة في المجتمع اللبنانيّ، ويُساعدها ضياع بوصلة الحكومة البيئيّة، فهي من تدعم بوجهٍ مباشر أو غير مباشر، وتوطّد الاعتماد على محركات المازوت من أجل الحصول على الطاقة الكهربائيّة، في ظلّ غياب شبه تامّ لمؤسّسة كهرباء لبنان، على سبيل المثال لا الحصر.
وفي حين هزّ خبر أو «إشاعة» إفلاس لبنان البلد، مع أنّنا ذكرنا أنّ إفلاس بلد غير موجود من الناحية العمليّة، نجد أنّ دولة قطر قد صرفت ما يُقارب 220 مليار دولار أميركيّ على حدثٍ رياضيّ استمرّ 28 يومًا. بالطبع، فكثير من هذه المصاريف ذهبت على البنى التحتيّة، وثمّة إيرادات قد تصل إلى 9 مليارات دولار أميركيّ. تبقى حقيقة الأرقام تقول، إنّ هذا المبلغ يفوق عجز دولة أُخرى مثل لبنان وديونها بكثير. وفي حين تجد قطر الدولة النفطيّة الأريحيّة في صرف مثل هذا المبلغ القياسيّ، يبحث لبنان عن مصادر النفط والغاز في بحره، علّه يسدّد من خلالها بعضًا من ديونه، في المستقبل المتوسّط والبعيد. ليبقى دولة ذات عجزٍ ماليّ واقتصاديّ، على الرغم من موارده الطبيعيّة والنفطيّة الّتي لا يعرف كيف له أن يستثمرها، في حين أنّ دولًا مجاورة قد سبقته، ونظّمت عقودًا طويلة المدى مع الشركات الكبرى.
سياسيًّا، فإنّ المقارنة غير ممكنة لاختلاف أنظمة الحكم بين الدول. لكن، يمكننا أن نستشفّ نوعًا من الاستقرار السياسيّ في الدول الّتي تستطيع استضافة الأحداث الدوليّة، وتزرع الثقة كما سبق وأن ذكرنا، عند زوّارها والمستثمرين فيها. وقد عرف لبنان سنة حافلة سياسيًّا، لكنّها انتهت بفراغٍ كبير (رئاسيّ وحكوميّ) في عناوينه العريضة، وصغير في مفاعيله، لأنّ المواطن قد فقد الثقة في المنظومة، ولا يمكنه الاعتماد على سيناريو يتكرّر في المضمون ويتغيّر في الشكل منذ ثلاثين سنة. علمًا أنّه يمكنه أن يحتفل ولو قليلًا ببعض انجازاتٍ قد حقّقها صوته الحرّ في إحداث صدعٍ في التشكيلات البرلمانيّة، الأمر الّذي قد يعد بالتغيير في المشهد السياسيّ اللبنانيّ على المدى المتوسّط والبعيد.
وفي مشاهدتنا «للإعادة»، لن ننسى أنّ الوضع الصحّيّ في لبنان في الحضيض، لا من الناحيّة المؤسّساتيّة وحسب، بل من الناحية العلاجيّة والوقائيّة… فقد تفشّت الكوليرا أخّيرًا، وكان أمرًا لا يدعو للدهشة… إذ لم تعرف الخطط الحكوميّة أيّ خطّة إنمائيّة أو إصلاحيّة لشبكات المياه والصرف الصحّيّ… وفي حين أنّ البلدان الصحراويّة لم تعُد تُعاني من العطش، لا بل أصبحت قادرة على تكييف منشآتها الضخمة الّتي وصلت إلى حجم ملاعب كرة القدم… عجز لبنان الـ2000 ينبوع، عن تزويد مواطنيه المياه الصالحة للشرب المجّانيّة، لا بل أصبح الأمن الصحّيّ على شفير الهاوية، مع انعدام الصيانة والمتابعة لشبكات المجاريّ، والنفايات الصناعيّة. فحصر استثماراته في إقامة سدود فاشلة، تنعكس تأثيراتها سلبًا على بيئة لبنان ومجتمعه.
كما رأينا، انّ الاهتمام بالسلامة العامّة يُعتبر من أهمّ معايير المشاريع الناجحة، وليس من الصعب أن نفهم أنّ فرض القوانين الواضحة سيؤثّر على بعضهم، لكنّه سيعود بالنفع على الشريحة الأكبر من المجتمع. لذلك، يُعتبر الاهتمام بالأمن المجتمعيّ الوصلة الأمتن في حلقة الاقتصاد الكلّيّ، الّتي تُبنى عليها عمليّة اندماج مستدامة وسليمة للاجئين والعمّال الأجانب، بطريقة تعود بالنفع على جميع الأطراف، لا أن يكونوا مجرّد «مرمى فارغ» يسدّد عليه جميع من أراد أن يبرّر إخفاقاته، أو زيادة حقنه الطائفيّ والعنصريّ لغاياتٍ مشبوهة.
أمّا عن الدعم الدوليّ والمساعدات الدوليّة الّتي اشترطت الإصلاحات الداخليّة، فلم يعرف العام 2022 أيّ تغيير، في حين أنّ دول المنطقة عرفت كيف تبني استراتيجيّات اقتصاديّة-سياسيّة، تدعم من خلالها موقعها في المنطقة. وعرفت أيضًا كيف أنّ كسب الدعم لا يأتي من التحزّبات العمياء، بل بالديبلوماسيّة الحكيمة، والانتقال إلى السلام الفاعل والمُنتِج.
بالطبع هذا السلام يحتاج إلى خطواتٍ جريئة، لا الهروب، والاختباء، والاقفال، والتعطيل، والتهديد بالفراغ… فاللبنانيّ في 2022 كانت له كلمة أُخرى، لعلّها تجسّدت بجرأة فرقة «ميّاس» الّتي بدورها فازت بمونديال المواهب، إذ تُعتبر النسخة الأميركيّة «America’s Got talent» أشهر برنامج مسابقات المواهب في العالم… ولم يخلُ المونديال من لمسة لبنانيّة في أغنيته الشهيرة. وكذلك، فريق كرة السلّة اللبنانيّ، الّذي كان قاب قوسين أو أدنى من تحقيق اللقب الآسيويّ، وحلّ ثانيًا، وفاز بالبطولة العربيّة قبلها… وغيرها من الإنجازات اللبنانيّة الفرديّة، والجماعيّة.
هكذا، نرى أنّ مبادراتٍ لبنانيّة قد برهنت على أنّ لبنان يمكن أن يرتقي إلى العالميّة إذا آمن بمقدّراته، ولم ينتظر من المسؤولين الحاليين أيّ تغيير وتجديد. إذ إنّ من ينتظر الخلاص على شاكلة من يبيع الأوهام والمشاريع الفارغة، ينسى أنّ الخلاص يقوم على المحبّة والرجاء وبذل الذّات، فيتوجّب عليه تغيير نظرته إلى الأمور، ويتخلّص من منظور السياسة والطائفة والمصالح الضيّقة، ويرى الأمور من منطلق الصالح العامّ ومصلحة الوطن.
ختامًا، لا يمكننا أن نغلق باب عام 2022 وكأنّنا نتبرّأ منه… فالمواطن الناضج، يستطيع أن يرى في الأفق البعيد المستقبل الأفضل، الّذي يُبنى على فرص مُتاحة له يوميًّا، فهذا العام لم يكن أسوأ من غيره، إذ حمل في طيّاته كثيرًا من الأمور الإيجابيّة، وقد تخلّص لبنان من أكبر العوائق الداخليّة الأشبه بجهنّم… ونحن لا يسعنا إلّا أنّ نرجو بمستقبل أفضل يحقّق فيه الانتصار تلو الانتصار، ونحن ندرك أنّ «ميسي» لم يُحقّق كأس العالم من أوّل مشاركة، بل تحلّى بالصبر والعزيمة وروح الفريق… ونضمّ صوتنا لصلاة أرجنتينيّ آخر، البابا فرنسيس، الّذي دعا في عظته لعيد الميلاد يوم الأحد الماضي: «ساعد يا ربّ لبنان ليتمكّن من التّعافي بدعم الجماعة الدوليّة وبقوّة الأخوّة والتضامن».