إننا نسمعُ، وبتصريحاتٍ مفوَّهة، أراءً تمدُّ سلاسلَها الكابوسيّةَ حولَ عُنُقِ العقلِ، صادرةً عن أصحابِ حكمٍ هوائيّ، وهي أقربُ ما يكونُ الى الهلوسةِ، أو الى الهذيان الذي يهبطُ من خلايا جمجمةٍ فارغةٍ الى عَضَلةِ اللّسانِ، مُحيلاً الى التّقاعدِ كلَّ ذرّاتِ الفكرِ والمنطق.
هذه اللغةُ التي تنأى عنها، حتى ألوانُ الإنحطاط، تسوقُ الى الذّبحِ ما تبقّى من آثارِ الإستيعابِ لدى الناسِ الذين لسعَتهم سِياطُ الفقرِ، والجوعِ، والذلّ… وهي، أي اللّغة، تصدرُ عن مخيّلاتٍ عَفِنة، وعن سفاهةِ خُلق، يرمي أصحابُها الى تَذكيرِ التّاريخ بهم، ربّما كأبطالٍ لا تنطبقُ عليهم إلّا حُمّى الدّونكيشوتيّة.
لقد تأكّدَ للنّاسِ أنّ قاماتِ هؤلاءِ المُتطاوِلين لم تمكِّنْهم من بُلوغِ مقاماتٍ ليسَت لهم، وبالتالي، فمهما رشقوا المَدى بالحَصى، لن يحقّقوا سوى خيبةٍ تليقُ بوجهِهم المُشبَع بالقُبح. إنّ هؤلاءِ الغرائزيّين، لو استغلّوا نصيحةً مجّانيّةً بالصَّمت، لكانوا وفّروا على شُخوصِهم مرارةَ المهانةِ، ومشروعَ التّحقير، ومدَّ أصابعِ اتّهامِهم بالفسادِ، والنّهبِ… فهم لم يرثوا مجداً، لأنهم لم يستحقّونه، ولم يصونوا كرامةً لأنهم مرَّغوها في وَحلِ الدَّنايا والموبقات، ولم يحافظوا على نقاءِ وجوهِهم لأنهم أهرقوا ماءَها على أعتابِ آمِريهم.
كان من الأَفضل لهم، أن يلوذوا بالسّكوت، فَلَربّما يعتادُ النّاسُ على نسيانِهم طِرازاً سيّئاً في السّلطة، مُشَوَّهاً بالإنسحاقِ الذي لم يَسعَوا، يوماً، الى فَكِّ زَرَدِهِ ليعبروا الى فُسحاتِ الحقِّ، والنُّبلِ، وفروسيّةِ الكِبار. لقد عَصَوا قِيَمَ الرّجولة، وكفروا بمزايا الوطنيّةِ ولاءً مُخلِصاً للأرضِ، ووارَوا في الثَّرى الإستقامةَ، والاَنَفَة، فباتَ مشهدُهم مهشَّماً، باهتَ القيمة.
لقد كانوا وثيقةً نافرةً للحالِ المتدنِّيةِ في الوطنِ الذي لم يوفّروا طعناتٍ قاتلةً كادَت أن توديَ بكيانِه. لقد أرادوا أن يَنسَوا، وأن يُنسوا الناسَ أيضاً، بأنّهم جماعةٌ مافياويّةٌ تلطَّت بالألقابِ، والمراكز، والنّفوذ، لبَسطِ هيمنتِها على مصالحِ الدولة، ومقوّماتِها، وبشكلٍ مُمَنهَج، وأدارَت أنشطةً غيرَ مشروعةٍ في الصّفقات، والتّهريب، والنَّصب، والإختلاسِ، والإبتزاز، وتبييضِ المال، ما أدّى الى إثرائِهم الفاحشِ الذي أَتلَفَ كلَّ أَثَرٍ للنزاهةِ.
لقد غابَ عن هؤلاءِ الطليعيّين في الكذب، المُنفَصِمي المواقف، والذين يستوجبُ حالُهم ورشةَ استصلاحٍ عقليٍّ وإبائيّ، أنهم عَيَّشوا الناسَ في ظلِّ السكّينِ المُلامِسِ لرقابِهم، واعتَدَوا على مكوّناتِ السيادة، وانقلبوا على حقِّ الشّعب، والوطن، وصاروا دميةً هزيلةً لاهِثةً خلفَ المنفعةِ الرّخيصة، وتغاضَوا عمّا أَمَّلوا النّاسَ به، من إحداثِ نقلةٍ إصلاحيّةٍ تغييريّة، ما أكَّدَ على هرطقاتِهم، وتهريجِهم، وصَدَإِ وعودِهم. وهذه، كلُّها، ليست إلّا تجارةً خاسرةً في سوقِ التّعاطي الوطنيّ الذي تَخَدّروا عن فَحواه، وحتى عن هوامشِه.
إنّ التّصريحاتِ الأخيرةِ للذين اعتبروا أنفسَهم، يوماً، أنصافَ آلِهة، ما هي سوى خُطَبٍ خشبيّةٍ تُثيرُ الغَثَيانَ، والقَرَف، وليسَت، على الإطلاق، كلاماً مُنزَلاً لا يقبلُ تبديلا، فكلامُهم، على عواهنِهِ، وتناقضاتِه، ليس سوى ثرثرةٍ دراميّةٍ محتواها حُطامٌ مهزومٌ ومُشَظّى، ضاعَت منه معادلةُ الصّوابِ والخطأ، فباتَ كتلةً من اللَّفظِ جرداءَ، لم يستخدمْ أصحابُها، لها، أَسمدةَ المعرفةِ من وَعيٍ، ومنطقٍ، وموضوعيّة، لأنهم لم يشرّعوا عقولَهم لتَقَبُّلِها، فهكذا اعتادوا…
هؤلاءِ الغائبونَ عن الحقيقة، ذَوو الوهمِ، والبعيدونَ عن عنصرِ المسؤوليّةِ والوجوب، سياسيّو المصلحة، جاءَ كلامُهم شَطحاتٍ فانتيزيّةً اعتادوا على اعتبارِها أجراماً ثاقبةً تسبحُ في فَلَكِهم غيرِ المحدود، لكنّهم لا يعرفون أنّها عندما بلغَت جَوَّ الحقيقةِ احترقَت وتساقطَت كأنّها لم تكنْ. لذلك، لن يُسلِّمَهم النّاسُ صكَّ براءةٍ وطنيّة، ولن يدوِّنوا لهم أسباباً تخفيفيّة، أو يرسموا لوجودِهم إطاراً له ظروفُه التبريريّة، لأنّ همجيّتَهم نحرَت حريّةَ الشّعب، وصادرَت حقوقَ الناس، وزَجَّتِ البلادَ في دائرةِ النار، ودمّرَت مُحَيّا الهويّة، فأصبحَ الإنسانُ أنقاضاً، والوطنُ مخطوفاً، والحقُّ منهوباً، والكرامةُ جيفة.
أمامَ قناعتِنا بأنّ التاريخَ لن ينسى أنّ حضورَ هؤلاءِ المهجَّنين لم يكن، في زمانِ لبنان، سوى لوثةٍ رديئة، مُخجِلَة، ننصحُهم بأن يعودوا الى مَثواهم، صامِتين، حتى لا يتمنّى الكلامُ أن يتحوَّلَ جِداراً يهدمُ نفسَه فوقَهم علَّ ذلك يُسكتهم الى الأبد.