كتبت نجاح بو منصف في “المسيرة” – العدد 1736
ما وُلد رأس السنة في يوم وليلة.. ولا كان تاريخاً إلهياً منزلاً، فما وراءه حضارات وشعوب وتقاليد وطقوس، والكثير الكثير من الصراعات والأحداث المشوّقة.. يعود عمرها الى أكثر من 4 آلاف عام، تمددت منذ ما قبل المسيح والى ما بعده، وصار تاريخ ميلاده مفصلها، باعتراف ورضى العالم.. كل العالم.
نعم هي قصة تضرب عميقاً في التاريخ، ومما ترويه أنه على مر العصور والثقافات، اختلفت مواعيد الإحتفالات ببداية العام، واعتماد الأول من كانون الثاني رأسا للسنة ظاهرة هي الأحدث نسبيًا. نعم صدقوا هي الأحدث، فأولى الإحتفالات التي عرفها العالم ببدء السنة، ستأخذنا الى العام 2000 ما قبل الميلاد، حيث عادة ما كان اليوم الأول من السنة مرتبطاً بحدث فلكي أو زراعي، كيف؟
بابل.. وأقدم الإحتفالات
يسترسل التاريخ بحكاياته عن أقدم الإحتفالات بحلول العام الجديد، كان ذلك في مدينة بابل القديمة، في العراق.. آنذاك، وهناك، كان إحتفال تلك المدينة يتوافق مع ظهور أول قمر جديد بعد الإعتدال الربيعي في أواخر شهر آذار، وكان الإحتفال عبارة عن مهرجان ديني ضخم أسماه سكان بابل «أكيتو» Akitu، وهو مصطلح بابلي يعني موسم حصاد الشعير، وكان يمتد على 11 يوماً، محمّلاً بكثير من الطقوس الدينية.
ففي اليوم الأول يستيقظ الكاهن في المعبد قبل نحو ساعتين من منتصف الليل ويغتسل بماء الفرات المقدس، ثم يتلو ترنيمة للإله ماردوخ، إله الزراعة الأكبر، ويسأله أن يزيد العطاء والخير في مواسم الحصاد في العام الجديد. ويلي ذلك عرض مسرحي تكريماً لآلهة الخصب الأخرى، ومسيرات يتخللها الرقص والموسيقى والتنزه في الحدائق والحقول، تنتهي عند مبنى يُسمّى «دار العام الجديد»، ويكثر الناس من تناول الطعام والشراب كعربون على تقديم الشكر لماردوخ لما أفاضه عليهم من خيرات الأرض في العام المنصرم.
من الفينيقيين الى المصريين والفرس
لكن بالنسبة للفينيقيين، اختلف الأمر، إذ كان بدء العام يحلّ مع الإعتدال الخريفي، وليحلّ عند اليونانيين الأوائل مع بداية الإنقلاب الشتوي، فيما ارتبط حلول العام الجديد في مصر القديمة بالفيضان السنوي لنهر النيل. فكان الناس في مثل هذه الأوقات يخرجون إلى الحقول في مواكب يرفعون فيها الزهور والرياحين (أصل عيد شم النسيم). وتستمر إحتفالاتهم الراقصة والتنعّم بالأكل والشرب خمسة أيام يقتطعونها من أيام السنة ولا يحتسبونها في التاريخ.
ولما دخل الفرس مصر نقلوا هذه العادات إلى بلادهم وأطلقوا على هذه الإحتفالات إسم «عيد النوروز»، ومعناه بالفارسية «اليوم الجديد».
أما التقويم الروماني، فكان مصممًا بحيث تكون بداية العام في الأول من آذار، وكان يتكوّن من 10 شهور و304 أيام، لتبدأ السنة الجديدة يوم الإعتدال الربيعي، وهو تقويم أطلقه مؤسس روما رومولوس في القرن الثامن قبل الميلاد، واللافت أن تأثيره ما زال ساريًا على أسماء الشهور التي نستخدمها حتى أيامنا، وهي الشهور التي كانت من السابع إلى العاشر في العام الروماني القديم، من أيلول وحتى كانون الأول، وأخذت أسماؤها من الأرقام اللاتينية، septem مشيرًا إلى رقم سبعة، وocto لرقم 8 وnovem لرقم 9 وdecem لرقم 10، ليقوم الملك الروماني اللاحق، نوما بومبيليوس، بإضافة شهرين الى هذا التقويم هما شهر كانون الثاني وشباط، وبذلك اصبحت السنة 12 شهرًا.
لكن قبيل العام 45 قبل الميلاد، واجه التقويم الروماني مشاكل سببها سوء تصرف أولئك الذين أشرفوا عليه، إذ كان الأباطرة يتلاعبون بالأشهر والسنوات لإطالة مدة حكمهم المحدودة، ما استدعى اعتماد تقويم جديد، كان بطله الإمبراطور الروماني يوليوس قيصر.
متى وكيف بدأ الإحتفال برأس السنة الميلادية؟
تقول الحكاية، إن التاريخ الجديد لرأس السنة المحدد في 1 كانون الثاني دخل فعلاً حيّز التنفيذ بعد أن قرر يوليوس قيصر إخضاع التقويم الروماني التقليدي إلى تغييرات جادة، معتمدًا التقويم الشمسيّ بدلًا من القمريّ.
كان ذلك في العام 46 قبل الميلاد، وبالتشاور مع علماء الفلك والرياضيات، أراد الإمبراطور الروماني حل المشكلة باعتماد تقويم جديد، دُعي بالتقويم اليولياني Julian calendar ، وقام بتحديد 1 كانون الثاني كأول يوم في السنة، بناءً على نصيحة عالم الفلك السكندري سوسيوجين Sociogenes.
وقد أُطلق على هذا اليوم إسم «يناير» تكريماً ليانوس، إله البداية عند الرومانيين، ليحتفل الرومانيون بذلك اليوم مقدمين القرابين لهذا الإله، ومزيّنين منازلهم بغصون الغار، وبحضور الحفلات الغنائية وتبادل الهدايا.
وبذلك أرسي التقويم اليولياني ليعتمد لأكثر من 1500 عام في معظم الإمبراطوريات الأوروبية والدول التابعة لها، لكن مع إنتشار المسيحية في أرجاء الإمبراطورية الرومانية، تم اعتبار الإحتفال بالعام الجديد عودة للوثنية، وليصبح الإحتفال بيوم رأس السنة الجديدة في 1 كانون الثاني خارج نطاق الممارسة في العديد من الدول الأوروبية والمسيحية، حيث استبدل الملوك الجدد الأول من كانون الثاني، كأول يوم من العام، بأيام تحمل أهمية دينية أكبر مرتبطة بحدث ولادة المسيح، وبذلك اعتمدت معظم دول أوروبا إما 25 كانون الأول (ذكرى ميلاد يسوع)، وإما عيد البشارة في يوم 25 آذار، بداية للعام الجديد.
ومع ذلك، وفي عام 1582، أعادت الكنيسة الرومانية الكاثوليكية على يد البابا غريغوري الثالث عشر الإعتبار إلى الأول من كانون الثاني رأسًا للسنة الجديدة، بناءً على تقويم جديد أطلقه وعُرف بـ»التقويم الغريغوري» نسبة إليه، وهو التقويم المعتمد حتى أيامنا هذه، والذي قسّم السنة إلى 365 يومًا على مدى إثني عشر شهراً، ومحدداً الأول من كانون الثاني رأس السنة الميلادية، متزامناً مع عيد ختانة الطفل يسوع بعد 8 أيام من ولادته.
وقد جاء معدلًا للتقويم اليولياني بعد أن لوحظ أن الإعتدال الربيعي الحقيقي يقع في الحادي عشر من شهر آذار بدلًا من الحادي والعشرين منه، وبدأ العمل بهذا التقويم عام 1582م، ويُسمّى أحيانًا بالتقويم الغربي تمييزًا له عن التقويم اليولياني الشرقي الذي ما زال معتمدًا حتى الآن من قبل بعض المذاهب المسيحية الشرقية الأرثوذكسية، وحاليًا يسبق التقويم الغريغوري التقويم اليولياني بثلاثة عشر يومًا.
الإنتقال إلى التقويم الغريغوري
رحبت الدول الأوروبية الكاثوليكية بالتقويم الغريغوري الجديد، وتم اعتماده فورًا من قبل إسبانيا وإيطاليا وبولندا والبرتغال ودوقية سافوي. وفي فرنسا، تبنّاه الملك هنري الثالث في 9 كانون الأول من العام 1582.
لكن الإنتقال من التقويم اليولياني الى الغريغوري ما كان ليتم بسهولة في نفس الوقت في كل مكان في العالم، الأمر الذي أحدث الكثير من الإرباك، إذ قاومت الطوائف البروتستانتية والأرثوذكسية الشرقية هذا التغيير، لتستمر بذلك بعض البلدان والمستعمرات باعتماد التقويم اليولياني لعقود.
وكان رفض تبنّي التقويم الغريغوري الجديد، قائماً أساساً على المعارضة السياسية والدينية للبابوية. ولم تعتمد بريطانيا والدول البروتستانتية التقويم الغريغوري حتى العام 1752. ووفقاً لعالم الفلك جوهانس كيبلر، فإن «بريطانيا تفضل الإختلاف مع الشمس، بدلاً من الإتفاق مع البابا».
والرفض البريطاني المؤقت، انسحب أيضاً على روسيا التي عادت لترضخ للتقويم الجديد عام 1918، وقد اعتبرت الثورة البولشفية التحوّل إلى التقويم الغريغوري نوعاً من التغيير، في أعقاب ثورة تشرين الأول في العام1917. لكن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية رفضت بشكل قطعي هذا التقويم الذي فرضته الحكومة الثورية، واستمرت باتباع التقويم القديم.
وعلى الرغم من أن العديد من الثقافات تحتفل ببداية العام الجديد في تواريخ مختلفة على مدار العام، إلا أن التقويم الغريغوري، والذي أصبح رديفاً للتقويم الميلادي، دخل حيّز التنفيذ واسعاً، وأصبح يوم رأس السنة الجديدة في الأول من كانون الثاني، كما أشهر السنة الميلادية، معتمدين في جميع أنحاء العالم.
وعزّز ذلك، إعتراف معظم الأديان بالميلاد التاريخي ليسوع الناصري. وبما أن التقويم الغريغوري أصبح مقبولاً على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم ، فإن الأول من كانون الثاني رأسًا للسنة أصبح كذلك.
إلا أن بعض الإمبراطوريات القديمة، أبقت على تقويمها الخاص إلى جانب التقويم الميلادي، لا سيّما في المعاملات الخارجية. على سبيل المثال في الدول العربية والإسلامية، حيث تُطبع الروزنامات السنوية بالتقويم الميلادي إلى جانب التقويم الهجري. وهكذا، صار الأول من كانون الثاني التقويم المستخدم لدى الأغلبية الساحقة من دول العالم، وعُرف بالتقويم الميلادي، لأن مرجعية التأريخ به هي ولادة السيّد المسيح، محدداً الأزمان والتواريخ بـ(ق.م) أي قبل ميلاد يسوع المسيح، أو بـ (ب.م) أي بعد الميلاد، موحّداً به رأس وختام أزمان العالم قاطبة.
رأس السنة الهجرية
يبدأ العام الجديد بحسب التقويم الهجري في اليوم الأول من شهر محرم من كل عام، حيث يحتفل به المسلمون بذكرى هجرة النبي محمد من مكة المكرمة إلى يثرب التي عُرفت بعد دخوله إليها بـ»المدينة المنورة».
ويعتمد هذا التقويم المرجع القمري في احتساب أيام الشهور، مما يجعل السنة الهجرية أقصر من نظيرتها الميلادية بنحو 11 إلى 12 يوماً، وبدأ العمل بهذا التقويم في العام 622 للميلاد.
تم إعتماد التقويم الهجري في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، حيث تُحسب السنوات الهجرية من بداية العام الأول للهجرة.
رأس السنة الفارسية
ما زال الكثيرون يحتفلون بعيد «نوروز» حتى أيامنا، وهو أيضًا من أقدم الإحتفالات بالعام الجديد في العالم، وُيقال إنه يرجع إلى 15 ألف عام، وبتتبع التاريخ نجد أن مظاهر الإحتفال متكررة بذات الشكل وفي نفس الموعد منذ 2550 عامًا، ولكن المسجل أنه منذ 550 عامًا قبل الميلاد، احتفل به قورش أول ملوك الفرس.
ويقع في 20-21 آذار من كل عام، وهو بداية حلول فصل الربيع لدى هذه الشعوب. يجري الإحتفال به، بنفخ أبواق كبيرة، وبإشعال النيران في سفوح الجبال والمدن. وكانت تستمر الإحتفالات ثلاث عشرة ليلة متواصلة مليئة بالطقوس الدينية.
التقويم الصيني
يبدأ في كانون الثاني بأوقات مختلفة وينتهي عادة في 8 شباط، ويطابق الإحتفال بالتقويم القمري. ويُطلق على الإحتفال إسم «مهرجان الربيع» ويستمر لمدة شهر كامل، وتطوف خلاله مواكب المدن الصينية تحمل ألواناً من التنين والفوانيس، ويطلق الصينيون إسم أحد الحيوانات على كل سنة من تقويمهم الخاص الذي يُعتبر تقويماً قمرياً.
تعود أصول السنة الصينية إلى أسطورة تتحدث عن وحش يُدعى نيان «العام»، كان يقوم بمهاجمة القرويين ويتم طرده بالأصوات الصاخبة وارتداء اللون الأحمر.
تستقبل الصين العام الجديد بالألعاب النارية، وارتداء الملابس الحمراء، وزيارة الأهل والأقراب، ويتم تبادل الهدايا التي تكون عادة نقودًا في مغلفات حمراء، وتشمل الإحتفالات مهرجان الفوانيس، ومواكب التنين الذي يُعدّ رمزًا صينيًا للحظ السعيد.
رأس السنة القبطية
يُعتبر تقويماً نجمياً، يبدأ في 12 أيلول من كل عام، حيث قسّم المصريون القدماء السنة إلى 13 شهراً وكل شهر 30 يوماً، والشهر الأخير هو الشهر القصير ويتكون من 5 أو 6 أيام فقط. وتُعدّ بداية السنة القبطية هي بداية السنة الزراعية في مصر، إذ يتبع الفلاح المصري منذ القدم التقويم القبطي في الزراعة الذي يبدأ بشهر «توت».
العام الكوري الجديد
«سيؤلال»، ويُحيى لمدة 3 أيام تعطل فيها كل الأعمال، ويكون الناس في موسم إحتفال دائم، ينتهي أيضاً في 8 شباط من كل عام.
العام البالينيزي الجديد – إندونيسيا
يطابق اليوم الأول في تقويم ساكا القمري عندهم، ويُعرف باسم «ناييبي» ويقع في 9 آذار من كل عام.
رأس السنة الاشورية
يرى الآشوريون أن احتفالهم برأس السنة هو الأصلي، لارتباطه بالإعتدال الربيعي وامتلاء سنابل القمح وانطلاق دورة حياة جديدة. ويقولون إن احتفالهم هذا سبق إحتفال الفراعنة برأس السنة بقرابة 500 عام.
إثيوبيا
وإلى الجنوب من مسار نهر النيل، وتحديداً في إثيوبيا، يبدأ يوم رأس السنة الجديدة في أيلول عندما تنتهي فترة الأمطار الطويلة في البلاد.
تُعد إثيوبيا الدولة الوحيدة في العالم التي لها تقويم خاص بها يختلف عن التقويم الميلادي في عدد الشهور والأيام. يتخذ الأمر بعداً دينياً مسيحياً آخر، لكون الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية تعتقد أن المسيح ولد في غير اليوم الذي تعتقد الكنيسة الكاثوليكية الرومانية أنه ولد فيه.
رأس السنة في شبه القارة الهندية
وهي متنوّعة حسب اختلاف الثقافات، فهناك العام الجديد في تيليغو وكانادا بجنوب الهند ويقع في 8 نيسان من كل عام. وكذلك أول العام الزينهاليزي في 14 نيسان من كل عام، فيما يحتفل التاميل بنفس التاريخ ولكن بطقوس مختلفة.
رأس السنة اليهودية
يقع في 2 تشرين الأول وحتى الرابع منه، ويدعى «روش هاشناه». ويوزعون إبانه العسل والتفاح وأطعمة أخرى.
رأس العام الأبورغيني
يحتفل به شعب أستراليا الأصلي، ويقع في 30 تشرين الأول من كل عام، وكان يشهد إحتفالات تقيمها قبائل المورادور، التي انقرضت تقريبا اليوم.
رأس السنة الأمازيغية
اختلف المؤرخون على أصل الإحتفال برأس السنة الأمازيغية، فمنهم من يرى أن إختيار تاريخ 12 كانون الثاني يرمز للإحتفال بالأرض، مما جعلها معروفة باسم «السنة الفلاحية». ويربطها فريق ثانٍ بالإحتفال بذكرى اليوم الذي انتصر فيه الملك الأمازيغي «شيشناق» على الفرعون المصري رمسيس الثاني. وتُعتبر الجزائر أول دولة في شمال أفريقيا تُقرّ رأس السنة الأمازيغية عطلة رسمية، وذلك منذ العام 2018.
وفي المغرب العربي وشمال أفريقيا، تُقام إحتفالات شعبية واسعة تتعلق برأس السنة الأمازيغية، ويجري تبادل التهاني بمقدم السنة الجديدة بعبارات من بينها «أسكاس أمباركي».
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]