كتبت لميا شديد في “المسيرة” – العدد 1736
في 31 كانون الأول من كل عام يودع العالم سنة مضت ويودع معها كل ما شهدته من أحداث وأزمات سياسية ومعيشية واجتماعية واقتصادية وغيرها من المحطات.
وفي لبنان يحتفل اللبنانيون في نهاية هذا الشهر برحيل عام مثقل بالأوجاع والمعاناة، ليستقبلوا عاماً آخر لا يختلف عنه من حيث المشهد العام المتوقّع أن يبقى هو نفسه نتيجة الأزمات المتراكمة التي لا ترحل برحيل سنة انتهت بل تتواصل تداعياتها، خصوصًا أن الحلول باتت صعبة والأزمات مترابطة، إذ إن معالجة أي منها من المفترض أن تنعكس على باقي الأزمات، بينما استمرارها يعني بقاءها على حالها طويلا. وقد تكون الأزمة السياسية هي الأكثر ترابطًا مع الأزمات الأخرى والأكثر تأثيرًا على كافة المحطات. ومن دون إيجاد أي حل لها سيبقى لبنان معلّقًا على صليب أزماته المختلفة.
الشغور الرئاسي.. سجال سياسي ودستوري
لعل أبرز ما شهده العام 2022 من محطات هو الشغور الرئاسي الذي شكّل الشغل الشاغل للبنانيين على مدى شهرين من العام 2022 ليطل برأسه مستقبلًا العام 2023 من دون معرفة مدى امتداده في ظل الإنقسام الحاد بين الكتل النيابية.
عند منتصف ليلة 31 تشرين الأول ـ 1 تشرين الثاني 2022 انتهت رسميا ولاية الرئيس ميشال عون التي استمرّت ست سنوات من دون أن يسلم إدارة البلاد لرئيس جديد بعد فشل مجلس النواب في انتخاب رئيس جديد للبلاد، في ظل غياب التوافق السياسي. وهي ليست المرّة الأولى التي يسلّم فيها رئيس جمهورية لبنان البلاد للفراغ، حتى أن عون تسلّم الرئاسة من الفراغ الذي استمرّ سنتين ونصف السنة تقريباً، بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان عام 2014، بالإضافة الى أن لبنان وقع 5 مرات في الفراغ منذ استقلاله عام 1943، لتتسلّم الحكومات صلاحيات الرئيس.
ومع حلول الشغور في موقع رئاسة الجمهورية بدأ الصراع السياسي والسجال الدستوري على جواز إنتقال صلاحيات رئيس الجمهورية في ظلّ الفراغ الرئاسي وحكومة مستقيلة، مع رفض فريق عون السياسي انتقالها إلى حكومة تصريف الأعمال التي يرأسها نجيب ميقاتي، فكان أن وقّع عون مرسوم قبول إستقالة الحكومة قبيل مغادرته قصر بعبدا، ليصبح الفراغ السياسي مزدوجا: فراغ رئاسي وفراغ حكومي.
هذا الأمر أضاف المزيد من التعقيد إلى المشهد اللبناني، فالدستور اللبناني ينص في مادته الـ62 على أنه في حال خلو منصب رئيس الجمهورية لأي علة فإن صلاحياته الرئاسية تنتقل بالوكالة إلى مجلس الوزراء. ولكن الدستور لم يتوقع أن تكون الحكومة القائمة حكومة تسيير أعمال هي في حكم المستقيلة منذ انتخاب مجلس نواب جديد، وهي أيضاً لم تنل ثقة المجلس الحالي، بينما رئيسها نفسه نال الثقة والتكليف لتشكيل حكومة جديدة. ولكن هذه الحكومة الجديدة لم ترَ النور وليست بوارد أن تتشكل إلا بعد انتخاب رئيس جديد للجمهورية، لأنه لا بد أن يوقع الرئيس مرسوم تشكيل الحكومة الجديدة.
ومن هنا يبدو أن ما أقدم عليه عون من قبول إستقالة الحكومة يُعدّ سابقة لم تحدث من قبل، إذ قرر أن يُسقط الحكومة في الساعات الأخيرة من عهده، بحيث لا تتمكن من ممارسة صلاحيات الرئيس المحالة إليها بحكم خلو المنصب بعد رحيله. ولكن في الوقت نفسه هناك من يرى أن قبول الإستقالة ذاك ليس له أي أثر دستوري، لأن هذا المرسوم لا يصدر عادةً إلا مصاحباً لمرسوم تشكيل حكومة جديدة، وبالتالي فليس لهذه الخطوة أية مفاعيل دستورية وتصبح هي والعدم سواء.
ولأن الدستور لم يحدد هوية أو طبيعة الحكومة التي تتسلّم صلاحيات رئيس الجمهورية عند خلو المنصب، فهناك من يرى أن مجلس الوزراء القائم، وإن كان لتسيير الأعمال فقط، له حكمًا أن يمارس صلاحيات الرئيس عند الضرورة. وفي المقابل هناك من يرى أن سكوت الدستور عن ذكر حالة تزامن مجلس وزراء تسيير أعمال وخلو منصب الرئاسة يجعل من الحالة الراهنة بمثابة «فوضى دستورية» تلقي بلبنان إلى المجهول.
انعكس هذا الجدل الدستوري من خلال وصول خطابين إلى مجلس النواب في 30 تشرين الأول من العام 2022، أحدهما من الرئيس عون المنتهية ولايته والثاني من الرئيس نجيب ميقاتي رئيس حكومة تصريف الأعمال، إذ طالب عون في رسالته إلى مجلس النواب بعقد جلسة سريعة للبرلمان لنزع التكليف من ميقاتي الذي كان رئيسًا مكلّفا وتسمية رئيس آخر، نظراً لما اعتبره تقاعس ميقاتي عن تشكيل الحكومة خلال فترة ما قبل شغور منصب الرئاسة، حيث حمّل عون ميقاتي كامل المسؤولية في عرقلة تشكيل الحكومة بسبب عدم «رغبته» في تشكيلها وعدم «حماسه» للإستمرار على رأسها. كما رفض عون أن يُسمح لهذه الحكومة منقوصة الصلاحيات والتي لم تحصل على ثقة البرلمان بممارسة صلاحيات رئيس الجمهورية حال شغور المنصب.
وكان عون يهدف من هذا الخطاب أن يتم تشكيل حكومة أخرى برئيس حكومة آخر في آخر 48 ساعة من عهده، وهو أمر كان واضحًا أنه شبه مستحيل، خصوصًا مع تجاهل رئيس مجلس النواب لهذا المطلب وعدم دعوته لانعقاد المجلس لهذا الغرض.
في المقابل، لم يتأخر ميقاتي في إرسال خطاب إلى مجلس النواب يرد فيه على مزاعم عون، إذ تعهّد بأن الحكومة التي يرأسها ستتابع مهامها في تصريف الأعمال وفق ما يقتضيه الدستور ولوائح تنظيم عمل مجلس الوزراء، معتبراً أن توقيع عون لمرسوم إستقالة الحكومة لا يحمل أي صفة دستورية وهو إعلاني وليس إنشائيا لكون الحكومة مستقيلة بالفعل منذ انتخاب مجلس نواب جديد ولا تقوم إلا بتصريف الأعمال. ورفض ميقاتي محاولات شل المؤسسات والتحلّل من المسؤوليات الدستورية وما يعتري ذلك من خطر إسقاط النظام أو وضع البلاد على طريق المجهول.
وفي ما بعد أعلن ميقاتي أنه سيدعو مجلس الوزراء للإنعقاد متى وجد ضرورة لذلك لاتخاذ قرارات هامة تمس حياة اللبنانيين، سواء في شأن الاقتصاد أو الصحة أو التربية والتعليم، ولن يستسلم لشل حركة البلاد. وهنا بدأت الإشكالية حيث لوّح فريق عون بأنه في حالة دعوة مجلس الوزراء للإنعقاد فإن الوزراء التابعين للتيار الوطني الحر، وربما أيضًا يؤازرهم وزراء «حزب الله»، سيمتنعون عن تلبية الدعوة أو ربما يستقيلون مما يسقط الحكومة بالكلية ويفقدها الشرعية والميثاقية.
لكن حسابات حقل باسيل جاءت مغايرة لحسابات بيدر ميقاتي، حيث إن وزراء «حزب الله» لبّوا الدعوة لعقد جلسة لمجلس الوزراء، ما دفع «التيار الوطني الحر لشن هجوم على «حزب الله» وصولاً الى التلويح بأن «إتفاق مار مخايل» يهتز بسبب مشاركة وزراء «حزب الله» في الجلسة، وصولا الى ما أعلنه باسيل عن أن «تفاهم مار مخايل» بات على المحك بانتظار الأيام المقبلة وما ستحمله على مستوى إنهيار التفاهم أو إعادة إنقاذه. لكن ما لبث أن عاد إلى مهادنة الحزب بعد فشل محاولاته في دفع بكركي باتجاه الدعوة للقاء مسيحي، أو في حوارات ثنائية مع الأحزاب المسيحية كان يعتقد أنه يمكن استخدامها لتحسين رصيديه السياسي والرئاسي.
ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل
ومن المحطات البارزة التي شهدها العام 2022 كان توقيع لبنان إتفاقًا لترسيم حدوده البحرية مع إسرائيل، بعد وساطة أميركية دامت عامين. وقد وُصف هذا الإتفاق بـ»التاريخي»، باعتبار أنه سيسمح للدولتين بالتنقيب عن الغاز والنفط في المنطقة المتنازع عليها التابعة لمياههما الإقليمية. ففي الأسبوع الأخير من عهده أعلن عون موافقة لبنان على إتفاق ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، بعد مباحثات مع الوسيط الأميركي عاموس هوكستين،حيث عُقدت 5 جولات من المحادثات اختُتمت في أيار 2022 وذلك ضمن إتفاق إطار بين لبنان وإسرائيل.
إستحقاق الانتخابات النيابية
من الإستحقاقات البارزة التي شهدتها الساحة السياسية في لبنان خلال العام 2022، الإنتخابات النيابية التي أُجريت في شهر أيار. وهي الأولى بعد الإنهيار الكبير الذي أصاب لبنان وبعد ثورة 17 تشرين التي خاض مرشحون بإسمها الإستحقاق في كل المناطق وتمكن 13 مرشحا منهم من دخول المجلس النيابي الجديد. أما أهم ما سجلته نتائج هذه الانتخابات، فكان إنتزاع الأكثرية النيابية من «حزب الله» وحلفائه، على الرغم من أن الحزب وحركة «أمل» حافظا على كامل المقاعد المخصصة للطائفة الشيعية (27 مقعدًا) مقابل خسارة مرشحين في مناطق حساسة ومهمة كان يأمل الحزب والتيار الوطني الحر بأن يشكلوا رافعة لهما داخل المجلس النيابي، والقوة التي تغنوا بها على مدى 4 سنوات تعرضت لنكسة قوية ما أفقدهم التأثير في أي إستحقاق.
في المقابل، تمكّن حزب «القوات اللبنانية» من زيادة عدد نوابه مع حلفائه الى 19 نائبًا، متجاوزًا التيار الوطني الحر المتحالف مع «حزب الله»، ومشكّلًا أكبر تكتل نيابي في مجلس الـ2022 وأعلى نسبة من تصويت المسيحيين، وذلك بقوته الذاتية من دون تحالفات غير مبدئية مع أحد.
هذه النتائج حتى الآن لم تحقق أي تقدم على مستوى الإستحقاق الرئاسي بسبب تشتت الفريق المعارض لـ»حزب الله» وحلفائه وعدم تمكنه من إيصال مرشح سيادي إصلاحي وإنقاذي، على الرغم من كل محاولات السياديين وتنازلات حزب «القوات اللبنانية: عن ترشيح الدكتور سمير جعجع رئيس أكبر تكتل نيابي. وحتى الآن لا يزال النائب ميشال معوض هو المرشح الوحيد والمعلن من قبل أحزاب المعارضة وبعض المستقلين والتغييريين بانتظار إنضمام النواب الذين يلتقون معهم على المبادئ نفسها للإلتفاف حول معوض.
أما من جهة فريق «حزب الله» وحركة «أمل» والتيار الوطني الحر، فلا مرشح حتى الآن، خصوصا في ظل الخلاف المستفحل بين التيار الوطني الحر وتيار «المردة»، على الرغم من جهود «حزب الله» لتوحيد الصفوف حول الوزير والنائب السابق سليمان فرنجية.
عودة العلاقات مع دول الخليج
في السياسة الخارجية، حصل تطور إيجابي على مستوى العلاقات بين لبنان والمملكة العربية السعودية ودول عربية أخرى بعد الأزمة التي تسببت بها تصريحات أدلى بها وزير الاعلام السابق جورج قرداحي في شهر آب من العام 2021، وكذلك بعد تصرفات وهجومات «حزب الله» وأعوانه على السعودية واكتشاف خلايا إرهابية للحزب في هذه الدول أو تهريب المخدرات إليها. وفي نيسان من العام 2022 أعلنت السعودية والكويت واليمن عودة سفرائها إلى لبنان لتعود معها العلاقات بين لبنان وأشقائه الى سابق عهدها. قد توّجت السعودية نهاية العام باستقبال الرئيس ميقاتي ووفد حكومي، ما حمل الكثير من الدلالات.
وفي الخلاصة يمكن القول إن أزمات العام 2022 السياسية ستُكمل مسيرها خلال العام الجديد، وقد تُضاف إليها أزمات جديدة، في حال لم تسلك المعالجات طريقها نحو التطبيق، فيما تتسمّر عيون اللبنانيين ومعهم العالم لما ستؤول إليه جلسات مجلس النواب المخصصة لانتخابات رئيس للجمهورية.
فهل ينجح مجلس النواب من دون ضغط وتدخل دولي في انتخاب رئيس، أم أن الأمور قد تذهب باتجاه مؤتمر جديد ينقذ لبنان من براثن الإنهيار الذي أنهى مقوّمات الدولة وأفرغ لبنان من كفاءاته وطاقاته وشبابه الذين هاجروا بحثاً عن عيش رغيد وحياة هانئة ومستقبل حُرموا منه قسرًا في وطنهم؟؟
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]