تمّ وضع الدّستور اللبناني في 23 أيّار 1926 ولم يتمّ تعديله تعديلاً جوهريًّا إلا بعد اتفاق «الطائف» في وثيقة الوفاق الوطني اللبناني التي وضعت بين الأطراف المتنازعة في لبنان وذلك بوساطة سورية – سعودية في 30 أيلول 1989 في مدينة «الطائف» وأقرّه لبنان بقانون بتاريخ 22 تشرين الأول 1989 منهياً الحرب الأهلية اللبنانية. 12 تعديلاً شهدها الدستور اللبناني منذ 23 أيار 1926، خمسة منها تتعلّق بالرئاسة. وتعديل «الطائف» هو الوحيد الذي طال طبيعة وشكل النّظام وصيغة الحكم في الدّولة اللبنانيّة.
ولا بدّ من الاشارة هنا إلى أنّ التحديث البنيويّ الذي تمّ في «الطائف» لم يطبّق منه سوى ما خدم مرحلة الاحتلال السوري وبعدها مرحلة تحالف المافيا مع الميليشيا. يبقى أنّ الأهمّ في هذا الاتّفاق هو القضاء على فزّاعة الديموغرافيا التي غالباً ما تستخدم في المجتمعات المركبة على القاعدة التعددية لتغليب فئة على أخرى فيها. ولعلّ هذه المسألة التي كرّست المناصفة المسيحيّة – الاسلاميّة قد أسقطت في تلك المرحلة، المشاريع السياسيّة المختلفة التي سادت اقتراحاتها مرحلة الحرب الأهليّة وما قبلها من التقسيم إلى الفدراليّة والوحدة العربيّة. حيث تمّ تثبيت الصيغة اللامركزيّة للحكم التي لم تطبّق حتّى اليوم إضافة إلى المبدأ الأهمّ وهو نهائيّة الكيان.
ما من نظام أو دولة في العالم لم تخضع للتطوير أو التحديث. لكنّ هذه المسألة بحاجة أولاً للمصارحة والمكاشفة بين مكوّنات الدّولة. وذلك لتبديد هاجس الخوف من الآخر المختلف في الأنظمة التعدّديّة. مع التأكيد أنّ هذه الإشكاليّة لا توجد في الدّول المتجانسة، بل هي فقط في الدّول المركبة على قاعدة الهجانة كلبنان. التحديث في لبنان بات أمراً واقعاً. لكنّه لا يعني بالضرورة ضرب الصيغة التي أرست الكيانيّة اللبنانيّة، أي المناصفة. وهذا إيماننا وليست قناعتنا فحسب.
لا نؤمن بالأوطان العنصريّة التي بشّر فيها الفيلسوف اليهودي صمويل هنتنغتون في كتابه «صراع الحضارات» عام 1996 لتعليل نظريّة الوطن العنصري الذي لا يضمّ إلا القوميّة اليهوديّة التي يتحدّر منها. بل إيماننا هو بنظريّة «لبنان الرسالة» التي أطلقها البابا القديس يوحنّا بولس الثاني من لبنان في أيّار 1997، أي بعد سنة من نظريّة هنتنغتون. وبذلك دحض البابا القديس القول بالفعل الموجود. وهذا ما يثبت اليوم تمسّك الفاتيكان بهذه الصيغة بالذات، الصيغة «اليوحنّويّة».
من هذا المنطلق، يأتي التمسّك بالصيغة اللبنانيّة ولكن مع ضرورة تحديث النّظام السياسي وتطويره على قاعدة التمسّك به لا دحضه كما يتمّ تفسير كلّ مَن يطالب بهذا التحديث. وفي هذا السياق أتى تفسير كلام رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع عن «خيارات أخرى» داعياً إلى «إعادة النظر سياسياً بتركيبة الدولة، التي تسمح لـ»حزب الله» بالتلاعب بها، لمنعه من الاستمرار بذلك وإيجاد طريقة كي لا يبقى «متسلبطاً» على بقيّة اللبنانيين، والله يوفقو مطرح ما هو بس ما بقى فينا نكمّل هيك».
ولم يتأخّر ردّ «منظمة حزب الله» لتعلن تمسّكها باتّفاق «الطائف». وهذا الموقف ليس بجديد إذ عند كلّ استحقاق تذكّر هذه المنظمة بتمسّكها بهذا الاتّفاق لكن ما لا يتنبّه إليه اللبنانيّون هو تمسّكها بهذا الاتّفاق كما ورثت تطبيقه عن الاحتلال السوري. وإلا ما الذي منع فريق الممانعة الذي يتحكّم بالبلاد منذ أكثر من 15 سنة من إقرار الاصلاحات السياسيّة المنصوص عليها في هذا الاتّفاق؟ هل لو تمّ إقرار اللامركزيّة وتطويرها كنّا نعيش اليوم هذه الأزمات التي تراكمت فوق رؤوسنا جميعًا؟
تحرير النظام وحفظ الصيغة
هذا النهج التعطيلي الذي أرساه هذا الفريق الحاكم عطّل مفاعيل التّحديث كلّها لأنّها إن تمّت فهي حتماً ستقطع يده المتحكّمة، لأنّها ستحرّر النّظام وتحفظ هذه الصيغة. المستفيد الأوّل اليوم من «الطائف» المعطَّل تنفيذه هو هذا الفريق الحاكم المعطِّل الذي يديره تحالف المافيا والميليشيا. وبالطبع لن يقبل بمناقشة أيّ طرح ولا حتّى بتطبيق «الطائف»، بغضّ النّظر عن الشوائب التي بيّنتها التجارب التي سمحت بممارسة بعض ما نصّ عليه هذا الاتّفاق.
ما يجب التأكيد عليه هو الصيغة «اليوحنّويّة» لا صيغة هنتنغتون التي يعمل فريق الممانعة على صقلها تمهيداً لفرضها واقعاً متحيّناً الزمان المناسب، لأنّ مبدأ التقيّة هو الذي يحكم قاعدة عمله السياسي. وهو حاليّاً يطبّق الفدراليّة والتقسيم بأبهى تجلّياتهما مستخدماً قوّة سلاحه غير الشرعي، وتحت إشراف وإدارة المافيا التي يحميها. لذلك كلّه، لا يقبل أيّ تحديث سياسي حتّى لو كان تحت سقف «الطائف» الحقيقي. من هنا، يُفهَمُ تمسّكَهُ بهذا «الطائف» بالذات. أمّا تهديده بالأكثريّة والأقليّة عند كلّ استحقاق فلم يعد ينفع، لا ديموغرافيّاً لأنّ الصيغة وضعت له حدّاً بالمناصفة، ولا سياسيّاً لأنّ اللبنانيّين قالوا كلمتهم في 15 أيّار 2022. لذلك يلجأ إلى طرح «حوار التقيّة « حتّى إنْ آنَ آنُ أوانَ فرضِ مشروعه، بلحظة دوليّة ما، لن يتردّدَ ثانية واحدة في ذلك.
بات من الملحّ راهناً، كي لا نقل من «الوجوديّ»، كفّ يد التعطيل عن مسار المؤسّسات في هذه المرحلة بالذات. فلا أحد من اللبنانيّين، على اختلاف انتمائه، مستعدّ بعد اليوم للعيش بذلّ لينعم هؤلاء المافياويّون بجنّات الحكم تحت حماية سلاح المنظّمَة – الميليشيا. نهائيّة الكيان ووحدته ثابِتَتَان غير قابِلَتَينِ للنقاش. أمّا التركيبة التي تمنع الممانعين من تسيير عجلة وانتظام الحكم والنّظام فستناقش حتماً بعد وصول الرئيس الإنقاذي.