الرئيس حليف الخير… ولكن!

حجم الخط

كتب العميد الركن المتقاعد والوزير السابق فرنسوا جنادري في “المسيرة” – العدد 1736

يقف معظم نشاط كل إنسان على حرفته أو مهنته. وإذا لم يكن ذا حرفة أو مهنة، فإنه ينصرف الى مشاغل معينة: فالصناعي يدير عمله والعالم يقوم بدراساته، والعامل يراقب آلته، والزارع يتعهد أرضه ويؤمن حاجة قطيعه. هؤلاء جميعاً يتطلعون إلى هدف معين واضح المعالم، وتقترن جهودهم بنتائج محسوسة ماديًا. فالعامل ينتج شيئا، والزارع يملأ بالمحاصيل أهراءه، والعالم يكتشف عنصرًا جديدًا. أما عملهم فيقومون به إما لمصلحتهم الشخصية الخاصة، وإما لمصلحة هيئة من الهيئات، وإذا توسّعوا قاموا به لمصلحة جماعة محدودة.

أما الرئيس، فيعمل ولا غاية شخصية له، ولا يخص بانتباهه أي فئة من الفئات، بل يكرّس نشاطه للقريب في وجه عام، أي للآخرين من دون إستثناء. وقد أحسن المفكر الفرنسي مونياه (MOUNNIER) عندما قال في تعريف الرئيس: «هو قبل أي شيء آخر، من يأخذ على عاتقه أمور الآخرين. يأخذ على عاتقه مسؤولياتهم المذبذبة أو الخائرة… هذا هو التابع البارز اللاصق أبدًا بالرئاسة، فالرئيس يفكر ويتبصر للآخرين، ويقوم بمهمته كدليل، ويستخدم إمكاناته كظهير لمصلحة الآخرين، ويؤلف القريب محور مشاغله وغايتها، فمشاغله ما كانت لتكون لولا القريب».

يبدو بعد ما ورد أعلاه أن الرئيس بمفهومه الأصيل والنهائي، يجب أن يحالف مفهوم الخير والأفضل. إن الأمر هو ذلك في مفهوم الرئيس والجدير بهذا الإسم، لكن الوقائع تطالعنا بنقيض هذا التحالف المثالي. والتاريخ يقدم إلينا أمثلة عن أفراد فيهم بعض الميزات الأساسية الثمينة التي تجعل منهم رؤساء عظاماً، لكنهم تطلعوا إلى أهداف تأباها المناقبية وقواعدها الملزمة. ذلك كان منذ القديم شأن طغاة روما وأشور وفارس. ولم يتبدل الأمر في عهود البرابرة عمومًا، وعلى الأخص إبان الغزوات الكبرى، فقد كان هم جنكزخان وتيمورلنك وأتيلا إرضاء الغرائز المنحطة لدى شعوبهم وإشباع شهواتهم.

ولا يخلو عصرنا من حالات من هذا النوع. ألم يقدم إلينا النصف الأول من القرن العشرين أمثلة حية من إلتواء مقاصد فريق من الرؤساء والقادة؟ وفي حياتنا اليومية، ألا تعمل جمعيات شريرة وعصابات أهل الشقاوة برئاسة أفراد متحلّين بالذكاء والإقدام والسلطة وعمومًا بمزايا الرئيس الحقيقي؟

تلك وقائع ثابتة لا مجال لإنكارها. ولكن الأفراد الذين يتبوأون المركز الأول لا يتحلّون إلا ببعض المزايا التي تجعل ممن تتوافر فيه، رئيسا، حقيقيا، فينحرفون عن الغايات السامية التي يجب أن يتطلع إليها الرئيس الجدير بهذا المركز ويعمل لها.

وإذا جاز أن يكون الرئيس إنساناً غير كامل من حيث مؤهلاته، فيكون غير كامل كذلك من حيث فهمه إياها فهمًا محدودًا. والرئيس الحقيقي هو من يقبل بل يطالب بأعباء وظيفته كاملة بما تنطوي عليه من حسنات وبما قد يترتب على ممارستها من محاذير، وهو من يتصورها قابلة للإستمرار مدة كافية، بحيث يُتاح لنتائج نشاطه، حسنة كانت أم سيئة، أن تظهر للعيان، من دون أن يكون في نيته التهرّب مما قد تجرّه هذه النتائج على شخصه أو ممتلكاته.

أما إذا كان الأمر عكس ذلك، أي إذا كانت مهمة الرئيس قصيرة الأمد، وتوارى هو من دون أن يربط مصيره بعواقبها المحتملة، نجدنا، لا أمام رئيس حقيقي بل أمام إنسان قادر على تحريك الجماهير، وسوقها إلى حيث يشاء. وهو كالرئيس يوجّه، لكنه يجرّ الذين يحرّكهم ويمكنه في بعض المناسبات التدليل على تحلّيه ببعض المزايا، بيد أنها في الغالب تكون مزايا باهرة أكثر منها متأصلة، هذا الرئيس يُعرف بمحرّك الجماهير.

ويمكن القول إذاً، إن محرّك الجماهير هو على نقيض الرئيس الحقيقي أكثر مما هو صنوه، لأنه لا يقود بمفهوم الكلمة الأصيل. إنه، على حد قول لويس مولان، «يسعى الى التأثير في النفوس بواسطة صورة أو لفظة أو تعبير، أو بجعل نفسه قدوة…». ويقول الدكتور لوبون، «إن محرّكي الجماهير هم في الغالب رجال عمل لا رجال فكر، ويعتمدون في عملهم أساليب بدائية».

(التأكيد المفتقر إلى براهين، والترداد، والعدوى). أما طاقتهم التي تكون أحياناً غير محدودة، فإنها من النوع الموقوت وتزول بزوال المهيّجين الذين أثاروها».

وهكذا يبدو لنا أن محرّك الجماهير هو غير الرئيس الحقيقي، إلا أن هذا لا يمنع كون معظم الرؤساء، الذين خلّدهم التاريخ، من كبار محرّكي البشر، وهذه الميزة عندهم كانت فرعًا من أصل، أما الأصل فقد كان تحلّيهم بالمزايا الأساسية الثابتة التي يتحلّى بها المبدعون والمنظمون.

ويفرض محرّك الجماهير نفسه ثم يتوارى كما برز من دون أن يترك أثرًا لأن دوره دابر، سریع الزوال، على حد تعبير الدكتور لوبون. وغالبا ما يكون المحرّك نتائج عهود يسودها الإضطراب وعدم الإستقرار. ويكون نشاطه موجّهّا ضد أحد الناس أو أحد الأشياء، أي أن نشاطه من النوع الهدّام. أما نشاط الرئيس الحقيقي فهو في جوهره نشاط خلّاق.

ومهما يكن المحرّك لامعًا، ومهما تبلغ حماسة الجماهير له، ومهما يصدر عنه وبالغاً ما تبلغ درجة شعبيته، فإن طابعه الغالب يظل نوعًا من النكرة وهو نقیض طابع الرئيس الحقيقي.

وإذا جردنا الرئيس في مفهومه الأصيل من هذه الأشكال غير الكاملة، فإن مفهومه يصير واضحًا في أذهاننا وضوحًا كافيًا نستطيع معه أن نحاول التعبير عنه، علمًا أن هذا التعبير من الدقة والصعوبة بحيث يقصر غالبًا عن أداء المعنى كاملاً، ومن النادر أن نقع على تعريف للرئيس يفي بالمراد، وإليكم نماذج من هذه المحاولات الناقصة:

– «الرئيس هو من كانت له موهبة نقل القوة الفاعلة التي تحركه، إلى الجماعات البشرية التي تؤلف سلاحه (المارشال فوش).

– الرئاسة ليست غاية، بل وسيلة لمساعدة الآخرين (المارشال ليوتي).

– «الرئاسة في الأصل قبول المسؤوليات العظمي بتفهم روعي ومن دون وهن، وبالإتفاق التام مع الوجدان الحرة» (الجنرال غورو).

– «من يمسك زمام إدارة المدينة هو في الواقع مندوب المواطنين، ينبغي له أن يعتبر نفسه لا مالكاً إياهم ومولاهم بل، قيّمًا عليهم مسؤولا عن أعماله» (و. لوماري).

– «يؤلف الرؤساء هذا الجزء من المجتمع المكلّف مهمة توجيه الناس جميعًا نحو خيرهم المشترك» (القديس توما) .

– «الرئيس هو الذي يدير وينظم ويقود وينسّق ويراقب (الجنرال فايول).

– «الرئاسة قدرة، توجيه، إرشاد، قدوة، أخلاق، معرفة، وخصوصًا تضحية» (بسمارك).

هذه التعاريف وهي في أكثرها مفاهيم، تنظر إلى الرئيس بمنظار خاص: مناقبي، أو ديني أو عسكري، أو تنظر إليه نظرة تطبيقية بحت. والواقع أن الرئيس هو كل ما ورد أو بعض ما ورد على ألسنة فوش وليوتي ولوماري والقديس توما وفايول، تبعًا لتنشئته ومؤهلاته وسجاياه وجلال قدره وشأنه. ذلك أن لفظة «رئيس» هي لفظة ذات رنات متعددة وأحياناً متنافرة. فهي تعيد إلى الذاكرة تاريخ المجتمع ونشوءه البطيء بشخص من كان إحدى خميرات هذا الحدث وترمز إلى الكفاح والإندفاعات التي كان محرّكها، وتجسد المآتي العادية والمعنوية التي كان رسولها، إنها ينبوع الإخلاص، والإنعطاف، ونكران الذات.

بيد أن لفظة رئيس تعيد إلى الأذهان كذلك، بأشخاص من كانوا غير جديرين بالرئاسة، ذكريات أقل صفاء، وعوداً حالكة السواد، هي لفظة يمكن أن تتضمن كل ما يضمر الإنسان من حب وثقة أو حقد أو غل.

لهذا يمكن القول إن الرئيس الحقيقي قابل لأن يكتشفه الناس ويقدّروه أكثر مما هو قابل للتعريف. ومع هذا نرى من المفيد أن نعبّر عنه بقالب واضح ليسهل فهمه على حقيقته.

ويبدو للقارئ أن التعريف يجب أن يشمل العناصر التي أسلفنا تحليلها في ما سبق، فالإخلاص للهيئة الإجتماعية وسعادتها وتقدّمها، المؤهلات التي يجب توافرها في شخص الرئيس، يجب أن تؤلف المعطيات الأساسية للتعريف.

لهذا نقترح التعريف الآتي:

الرئيس هو من يقبض، في مجتمع ما، على زمام السلطة ويمارس سلطته في عدل وجدارة من أجل خير المجتمع.

 

المقال من العدد الرقم 4 الصادر بتاريخ 23/11/1985

 

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​​​​​​​​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل