25 كانون الثاني 2008 نعرف الحكاية الدموية، اكتشف الضابط وسام عيد، بطل فرع المعلومات، كل خيوط جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فجعلوا له هدية ثمينة، سيارة مفخخة اغتالته ورفيقيه. اكتشف جريمة اغتيال الحريري الإرهابية، وبسبب عبقريته في فك رموز أسرار الاتصالات، توصلت المحكمة الدولية الى تحديد هوية القتلة، وعلى هذا الأساس أصدرت حكمها على سليم عياش وسواه. طبعاً لم يُسلّم حزب الله القتلة، اذ حتى اللحظة لم يعترف أساساً بالمحكمة الدولية، لكن في المقابل استشهد وسام عيد، ولا توجد ولو اقصوصة ورق واحدة في أدراج تلك العدلية المحاصرة، لمعرفة قتلته ومحاكمتهم.
نعرف قتلته جيداً، فهم مكشوفي الأيدي والوجوه المُدمّمة بالإرهاب والوحشية، ولكن تنقصنا براعة وسام عيد لنذهب بهم الى المحكمة… ولكن كيف نفعل إذا كان القضاء منقسماً على ذاته، وها هو يتصارع في أبشع جرائم العصر على الإطلاق، تفجير مرفأ بيروت الإرهابي. وبدل أن يلتف القضاء على نفسه ليشكّل قوة ضاربة في وجه المرتكبين والاحتلال والفاسدين من عملائه، ينقضّ القضاء على ذاته، ويعلن القاضي بيطار متمرداً، فمن سيحصّل حق وسام عيد بعد؟ ومن سيحصّل أساساً حق شهداء ثورة الأرز عموماً؟!
نحن قوافل قوافل نستشهد لأجل عيون الأرز. وجوه أبطالنا صارت كوجه مار شربل، تجاعيدها غصون الأرز ويد الإرهابي هي ذاتها، تمتد من جحرها وتصفق منتشية “بالنصر”، أيادٍ تحب البدلات الملطّخة بالموت، وتنبذ ثقافة الحياة فكيف لا تصفق؟
“إما يُعرقَلون وإما يُغتالون، والمجرم واحد”، كتب سمير جعجع في ذكرى اغتيال وسام عيد، المجرم واحد منذ عشرات السنين، ويديه تبصم بصماتها الفاقعة على مسيرة الأحرار الشرفاء الأبطال. رجالنا، رجالنا أبطال الزمان، لمّا اختاروا المقاومة لأجل لبنان، جعلوا منّا مجرمين زعران، ولمّا استشهدنا قالوا عنّا “سكرانين بالبارات”، ونحن منذ زمن نسكر من خمرة المسيح ونشرب نبيذ بلادنا ونذهب بملء الحب والحياة، للدفاع عن ثقافة الحياة، عن لبنان مضرّج بالكرامة والازدهار والزهر وعبق الحياة كلها، خسرنا حياة أبطال، وربحنا حياة ووجود وطن.
مات وسام عيد؟ مات أبطالنا؟! بلغة الجسد هم فعلوها، بقسوة، بحزن بالغ، بوحشية تفوق الوصف، لكن في المقابل، وبلغة النضال والكرامة، ما مات أحد من هؤلاء، “راحوا، وبعدن في قوات، يعني بعدن ما راحوا” تقول الأغنية، بقيت بدلاتهم الزيتية معلقة على أهداب لبنان، وبدلة وسام عيد لا تزال معلّقة في ضمير أمّة حتى اللحظة تخلّت عن ضميرها وعن أبنائها الأبطال لأجل دعسات الغريب، ابن البلد وسواه! بدلة وسام عيد معلّقة على تاريخ أشهر ضابط في فرع المعلومات، كان أول من اكتشف قتلة الحريري وبفضله أصدرت المحكمة الدولية أحكامها، وبدلات أبطالنا لم تزل معلّقة في خزانة الأيام، مهما بدت لنا الأيام متوحشة مغمّسة بالاحتلال الإيراني والفاسدين والعملاء من حوله، لكن، وبسبب مسيرتنا تلك، بسبب دماء أبطالنا، صمدت تلك الجوهرة النادرة، لؤلؤة المسيح التي اسمها لبنان.
قتلوا وسام عيد فعاش التحقيق، استشهد أبطالنا فبقي لبنان، وحتى اللحظة هو صامد، كُتب علينا أن نواجه، أن نكون دائماً أم الصبيّ والبنت وجدّهم ووالدهم وكل العيلة والسليلة، لأننا اخترنا أن نفعل، اخترنا الدرب الصعب المستحيل أحياناً، وها نحن نقاوم، باللحم الحي، بالمواجهة الشرسة، بكل السبل الممكنة كي لا يموت من جديد وسام عيد، وكي لا يدفن التحقيق في تفجير بيروت، وكي لا تندثر أشلاء الشهداء من جديد تحت أقدام البرابرة، وكي لا نصبح أصناماً في قصور من ذل وعار… نقاوم.