!-- Catfish -->

القضاء على القضاء

قيل : إنّ الممتلئَ من روح الوطنيّة، هو على عكس الممتلئ من روح التَبَعيّة…

هذا، بالذّات، ما يَطفو على سطح الوقائع التراجيديّة التي يشهدها لبنان في هذه الآونة السّوداء التي يبقى عنوانها: القضاء على القضاء.

يتضمّن مدلول القضاء، أساساً، معنى الفرادة في الضّمير، وكرامة الحقّ، والدّعوة الى العدل، وهذه مقوّمات هويّة القضاء، والتي يستأثر بها في صميم خصوصيّته التي تشكّل عنصراً فعّالاً في بنية النّظام. وهذا التَمَيّز القيَميّ، من منظور المجتمع، عائدٌ الى الحاجة الماسّة للناس الى تأصيل حقوقهم، ما يرسّخ علاقةً أقنوميّةً مع حياتهم نفسها. ولمّا كان القضاء يمثّل أبوَّةَ العدالة ومركزيّتَها، يصوغ حيثيّاتها كسلوك مركزيّة الأَب في علاقته مع أبنائه، لا يمكن له، في أي من الأحوال، أن يتجاوزَ شريعةَ هويّته، ويفرغَ ذاتَه من حالها، ساعتَذاك، لا يبقى فائدةٌ لوجوده، ولا معنًى لتسميته سلطة.

إنّ النّاسَ يحترمونَ القضاءَ لأنّه قدرة، وهذه تمَتّن في نفوسهم الطمأنينةَ، وما يسَمّى الإنقاذ من الظّلم. في المقابل، إنّ ماهيّةَ شريعة الغاب حيث لا قيَمَ عليا وفي مقدّمها المساواة في الحقّ عَدلاً، تفرض، حتماً، سيطرةَ القويّ وتسلّطَه القَمعيَّ، ما يتخطّى، عادةً، الديكتاتوريّةَ الى الإستعباد. من هنا، كان نشوء الدولة فعلاً واعياً لرقيّ الإنسان من غريزيّة التَحَكّم بالقوّة، ومن شكل الوجود ” القايينيّ “، الى حضور سام لا يمكن بلوغه إلّا بمبدإ التّساوي، والتّشارك، والحياة الجماعيّة القائمة على الرَّفاه والحريّة، واعتبار الشّخص الإنسانيّ قيمةً فريدةً بحَدّ ذاتها، له، ما لسواه، من حقوق مصانة بالعدالة، ما يثبت ما قالَه أحد السوسيولوجيّين المحدَثين : إذا كانت العدالة موجودةً، فأنا موجود.

أمّا ما شهدناه في تتالي الأحداث، عندَنا، من بعض ” روّاد ” القضاء، ذَوي التوجّهات المشبوهة، فتهديدٌ سافرٌ للنّظام العَدليّ في البلاد، ما يضع النّاسَ في واقع متناقض، بمعنى التَّعايش بين التَّوق الى القضاء، والتَّوق الى الهروب منه. فبدلاً من أن نشعرَ بأنّ القضاءَ قوّةٌ تساندنا، وتساعدنا على الثَّبات في حقّنا، وتقودنا الى اللّقاء به، نَرانا نقاربه سَلباً، ونتخلّى عنه وكأنّه مَصدرٌ للعيوب، والظّلم، والطَّعن بالثّقة.

ويبقى أن نسأل: هل القضاء، اليوم، يعمل على إضعاف الإيمان بالعدالة ؟ أو أنّه يتراجع، وبصفاقة متناهية، عمّا وعدَ به من إحاق الحقّ ؟ إنّنا نرى، وبوضوح تامّ، أنّ العلاقةَ بين القضاء والعدالة، هي علاقةٌ إلْحاديّة، والأَدهى أنّ القضاةَ، أو بعضَهم، يشدّدون على الوصايا التي حفظوها، غَيباً وبدون فَهم، ويتجاهلونَها في التَّطبيق، وهم، بذلك، يدَّعون خدمةَ الحقيقة، ويغدرون بها كلّما سنحَت لهم سانحة، وكأنّهم لا يعلَمون أنّ القضاءَ ليس كلاماً، بل عَمَل. وهكذا، فإنهم مكَبَّلون بعبوديّة الخطأ، لا يَعَونَ دورَهم في نشر العَدل، والدّفاع عن الحقّ، وهذا الدَّور، في حقيقته، رسالةٌ تحوّل الفوضى الى توازن واستقرار هما امتيازٌ واجبٌ لحياة الناس.

إنّ النّاسَ يختبرونَ في القضاء، اليوم، إحتقاراً لهم، وخَطفاً موَثَّقاً لحقوقهم، واقتناعاً بأنّ أَمنَهم خرافة. أمّا العجز الذي يتلطّى، خلفَه، بعضٌ من جهابذة الأَقواس، فمردّه الى تقاعسهم عن قيامهم بواجباتهم، تحتَ ألف حجّة سفسطائيّة واهية، فإمّا أن يكون القاضي صانعَ ذاته، يكرّس نفسَه ليؤدّيَ فعلاً متماسكاً بين الضّمير والواجب، وإمّا أن يكونَ مجرَّدَ موظَّف يختزل حيثيّتَه بنرجسيّة اللَّقَب، وما يدرّه… وهذا، بالذّات، يقتضي، بالضرورة، تغييراً جذريّاً في مفهوم العمل القضائيّ في لبنان، بمعنى الإنتقال من المعرفة النظريّة بالقوانين، فقط، الى تطبيق منفعتها للناس.

إنّ القاضي ليسَ عدوّاً للناس، في الأساس، لأنه المَرجع الصّالح الوحيد الذي يبرهن، في حكمه، على حقيقة فعل ما، بالبراءة أو الإدانة، استناداً الى النّافذ من القوانين، أو الإجتهادات التي تستَخلَص من روحيّة تلك. والناس، في الأساس، ليسوا جماعةً ناقمةً تفرض قانونَ الثّأر من القاضي، وكأنّهم، ضدَّه، في جهاد مقدَّس. إنّ معيارَ احترام القاضي هو صدقه في قيامه بواجبه القانونيّ، على قاعدة يقظة ضميره، بارّاً في حقّ الناس بالعدالة، أمّا ما نعاينه في بعض القضاء، عندَنا، وخاصةً في ما يتعلَّق بجريمة المرفأ، فهو الذَّنْب الكبير الذي لا تنفع، معه، توبةٌ أو اعترافٌ، أو اعتذار، لأنه تركَ جرحاً كان تأثيره أَشَدَّ وطأةً من الجريمة نفسها، ولم يَعدْ سهلاً، أو مقبولاً، لدى أهل الضّحايا، وعموم الشَّعب، أن يدركوا أنّ إقالةَ العابثينَ من القضاة، بإبعادهم عن الملَفّ، هي كَفّارةٌ عن ذنوبهم.

المصدر:
فريق موقع القوات اللبنانية

خبر عاجل