“الحزب” في مهّب الاختلال

حجم الخط

بحسب الفلسفات الهندو صينية القديمة التي تبنّاها لاحقاً اعظم علماء النفس المعاصرين، يتكوّن كل كائن بشري من طاقةٍ ذكورية وطاقةٍ انثوية؛ الذكورية هي الطاقة المتماهية مع الأبعاد المادية والأرضية، وتتمحور بشكلٍ أساسي حول القوة، والتركيز، والسيطرة والمنطق والانجاز والتنظيم وسواها، فيما الانثوية هي الطاقة المتماهية مع الوجود والخلق، وتتمحور بشكلٍ أساسي، حول الابداع، والمشاعر، واعتناق المبادئ الإنسانية السامية، منها: السلام، والمحبة، والتفاهم، والتواصل، والانفتاح، والتفهم، والمساعدة الاجتماعية والانسانية، والمساواة وسواها.

في العادة، يتمتع الذكور بطاقةٍ ذكورية اعلى من الطاقة الانثوية، والإناث بطاقة انثوية اعلى من الطاقة الذكورية، وكلما كان الفارق بين الطاقتين داخل كل انسان، ضئيلاً، كلما كان توازنه النفسي والعاطفي والعملي مؤمناً، وكلما كان سائراً بالاتجاه الصحيح في الحياة، امّا العكس فيؤدي الى الاختلال والانهيار، او الخروج من عالم الواقع الى الخيال، او الطوباويات.

هذا على مستوى الكائن الفرد، اما على المستوى السياسي، فيمكن اعتبار الطاقة الذكورية على انها القوة العسكرية والأمنية، والقدرة التنظيمية الحزبية والسياسية، والقوة التمويلية.

اما الطاقة الانثوية فيمكن اعتبارها على انها منظومة الخدمات الاجتماعية والصحية، والجوانب الحضارية والثقافية والحقوقية والادبية والاعلامية والإيمانية وغيرها.

مع التحوّلات الكبرى التي شهدتها البشرية بالتوالي، طرأ تحوّلٌ في مفهوم القوة، بحيث لم تعد محصورة بالشق العسكري والأمني فحسب، إنما امتدت لتشمل الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية والثقافية والاعلامية والحقوقية، وتالياً فإن القوة الحقيقية لم تعد، كما كانت عليه منذ عشرات ومئات السنوات، محصورة بالطاقة الذكورية فحسب، باعتبارها ترمز الى السيطرة والقوة، وإنما بمدى توازنها مع الطاقة الانثوية التي ترمز الى الجوانب الاجتماعية والمعيشية، وإلا كانت مقومّات القوة والسيطرة ومرتكزاتهما الأساسية في زمننا الحاضر، غير حقيقية، وغير فعلية، وقابلة للانهيار عند اي تحدٍ مفصلي.

وبالعودة الى الداخل اللبناني، نجد ان حزب الله يعاني من اختلالٍ طاقي كبير لجهة ارتفاع طاقته الذكورية مقارنةً بطاقته الانثوية المتدنية، بحيث يتجلّى ذلك بشكلٍ واضح وأولّي وبسيط، من خلال غياب المرأة عن اي دورٍ تنظيمي او قيادي في الحزب، وسعيه الدائم للسيطرة وتحقيق الانجازات السلطوية ولو على حساب الديموقراطية، وتخلّفه عن مجاراة الثقافة الحقوقية والانسانية العالمية، خصوصاً لناحية احترام ثقافة الآخر والحريات العامة والخاصة، وتحقيق المساواة الكاملة جندرياً، لا بل عرقلته لأي اقتراح تشريعي في لبنان لمنح المرأة حقوقاً إضافية ووقوفه سداً منيعاً بوجه تطوير منظومة الحريات في لبنان، وتقدّم اولوياته العسكرية والامنية والتنظيمية والعقائدية، على ما عداها بفارقٍ كبير.

هذا الاختلال البنيوي حاول حزب الله ضبطه من خلال اربع مرتكزاتٍ “انثوية” اساسية:

· تفعيل الجوانب الإيمانية ورفع شعارات المظلومية التاريخية.

· تطوير منظومة خدماتية لبيئته اللصيقة، مستمدّةً من الأموال الايرانية وشبكات المخدرات وتبييض الأموال عالمياً.

· امتصاص الطاقة الانثوية للدولة اللبنانية، خدماتياً وثقافياً واعلامياً ومؤسساتياً وعلاقاتٍ خارجية، لمصلحة بيئته الأوسع من جهة، وتأميناً لتوازنه هو بالذات، من جهة ثانية.

· الاستفادة من التيار العوني بوصفه، كما كان عليه في حالته الأولّية، تيارٍ ذو طاقةٍ انثوية عالية في الشكل، ولكن مُشوهّة وغير مبنية على اسس فعلية في المضمون، انطلاقاً من قناع السلمية والانفتاح والاعتدال واللاعنفية الذي ارتداه، والمتزامن مع تراجعٍ بالأصل في طاقته الذكورية، لناحية افتقاره للهيكلية التنظيمية، والعقل التحليلي، والمشروع الستراتيجي. وهو ما منح حزب الله، في الشكل، الغطاء الحضاري والثقافي والسياسي، وجعله يبدو، اقلّه ظاهرياً، اكثر اعتدالاً وانفتاحاً وتوافقية، وهي من ابرز سمات الطاقة الانثوية.

مع العقوبات والعزلة العربية والدولية الصارمة على ايران، وتقهقر اوضاعها المادية والمعيشية، ومع تشديد الرقابة الدولية على شبكات المخدرات وتبييض الأموال، تراجعت مداخيل حزب الله المادية، وتالياً، تراجعت منظومته الخدماتية والصحية الضيقة، واختلّ المرتكز الثاني من مرتكزاته الأنثوية.

ومع استنفاد موارد الدولة اللبنانية، التي يمتّص التيار العوني وحزب الله طاقاتها، خدماتياً ومالياً، فقد الحزب المرتكز الثالث من مرتكزاته “الانثوية”، لا بل ازداد الضغط الشعبي على مرتكزه الثاني، بما ادّى ويؤدي للتسريع في استنزافه اكثر فأكثر.

ومع انكشاف حقيقة التيار العوني شعبياً ومسيحياً وادارياً واصلاحياً ومدنياً، وتعرض رئيسه لعقوباتٍ دولية اسوةً بحزب الله، فقد الحزب المرتكز الرابع، وبات وقوعه في الاختلال الكامل قاب قوسين او ادنى.

هذا المصير المحتوم يحاول حزب الله تأخيره قدر الامكان، من خلال:

· تشريع الحدود البرية والبحرية والجوية للتهريب، وتعويم السوق بالبضائع المهربة والمخدرات، والتلاعب بسعر صرف العملة، بغية تأمين الموارد المالية لمنظومته العسكرية والأمنية المتضخمة، وتوفير الخدمات لبيئتها، ولو على حساب لقمة عيش بيئته الحاضنة الاوسع وصحة شبابها، وهو ما يتسبب بافقار مئات الالاف من الشيعة، وتحولّهم الى عبء اجتماعي ضاغط عليه، او عبء شعبي وسياسي وانحرافي خطير، بما يُعيد الحزب الى نقطة الصفر، وكأن شيئاً لم يكن.

· التطبيع المائي المعلن مع “الكيان الصهيوني”، تطميناً  “للشيطان الأكبر” و”الأمبريالية العالمية”، لسد جوع بيئته من جهة، واعادة تعويم التركيبة الخدماتية للدولة اللبنانية لكي يتابع امتصاصها اكثر فأكثر، بغية استرداد بعضٍ من توازنه الطاقي المفقود، ولو على حساب مشروعيته الجهادية والايمانية، بما يُكسبه مرتكزاً “انثوياً” في الخدمات، ولكن يُخسِره مرتكزه الأول في “الانثوية”. وهذا ما يعود ويُرجِعه الى نقطة الصفر، وكأن شيئاً لم يكن.

· التمسك بموقع الرئاسة، ولكن من خلال مرشحٍ يؤمن لحزب الله التطبيع مع ابناء الطائفة السنيّة وربط نزاعٍ معهم، بعدما عمد الى اغتيال زعيمها التاريخي، واضعافها سياسياً وتنظيمياً واستراتيجياً، وتالياً إخراجها من الحيّز السلطوي “الذكوري”، وتحويلها الى الطاقة الانثوية بالكامل، خصوصاً ان ابناء الطائفة السنيّة في لبنان هم بالأساس، توافقيون، ميثاقيون، معتدلون، لا عنفيون، يفتقدون الى القدرات الحزبية والسياسية التنظيمية، والعصب القتالي، والمشروع الاستراتيجي.

يعتقد حزب الله ان بمقدروه استغلال تبعثر الطائفة السنية وتناقضاتها سياسياً، والتلطي خلف توازن قوى سني نيابي يدور في فلكه بالأساس، لتزوير ارادة الطائفة السنية الفعلية، ووضعها كمجرد غطاء في واجهة انتخاب رئيسٍ من 8 آذار، من اجل الاستمرار بالامساك في الدولة والمحافظة على وحدوية مؤسساتها المقبوض عليها، وفرض امر واقعٍ دستوري على الدول العربية والخليجية، يُحتّم عليها رويداً رويداً، التعامل مع هذا الواقع، بوصفه يؤمن المصالح السياسية للطائفة السنية، واستطراداً اعادة ضخ الأموال للبنان لتعويم التركيبة الخدماتية للدولة، حتى يعود حزب الله لامتصاصها، وتصحيح الاختلال فيه من جديد، في دوّامةٍ من الاحتيال على الحقيقة التي لا تنتهي.

تصطدم هذه الخطة بالموقف الصلب للمملكة العربية السعودية الرافض للتعامل مع اي سلطة لبنانية يقبض عليها حزب الله من جهة، وبالميثاقية المسيحية من جهة ثانية، وبمبدأ التوازن الطاقي الذي يُحتّم على حزب الله التخلّي عن سماتٍ “ذكورية”، لا مراكمة سماتٍ اضافية، عبر الاندفاع لتحقيق اهدافٍ سلطوية والقبض على السلطة اكثر فأكثر. وهذا ما يؤدي الى وضع التركيبة “الدولتية” المتلاشية التي يحاول حزب الله انعاشها بالغصب على محكّ التفكك البنيوي الكامل، وفض المسيحيين العقد التأسيسي مع شركائهم في الوطن، بما يعود ويرتد سلباً على حزب الله، ويُرجعه الى نقطة الصفر من جديد.

الاختلال الطاقي الكبير الذي يعاني منه حزب الله، خصوصاً انه يطرح نفسه امام بيئته، كمنطومة عقائدية وثقافية وحياتية شاملة، على غرار ما كانت عليه المنظومة الشرقية السابقة، هذا الاختلال اذاً، يُحتّم عليه:

امّا رفع منسوب طاقته الانثوية، من خلال اعادة تفعيل الجوانب الخدماتية فيه، وفي التركيبة السلطوية التي يقبض عليها في لبنان، وهذا لم يعد متوفراً للأسباب اعلاه؛ وامّا إجراء إصلاحات بنيوية في طبيعته وفكره العقائدي باتجاه مزيدٍ من “الأنثوية” والسلمية والتوافقية والانفتاح، وتولي المرأة فيه ادواراً قيادية، لملاقاة الثقافة الانسانية والحقوقية العالمية، والتحولاّت الكبرى التي يشهدها العالم، على غرار ما يفعله الأمير محمد بن سلمان في السعودية اليوم، وهذا غير متاح له كونه يُخّل بمرتكزات عقيدته الأساسية، ويُفقده مشروعيته الجهادية ومبرر وجوده بالأساس؛ وإمّا خفض منسوب طاقته الذكورية حتى تتساوى مع طاقته الانثوية المنخفضة، من خلال تخليّه عن السلاح ومنطق القوة وكف يده عن المواقع الأساسية في السلطة، وهذا هو الثمن الأقل كلفة عليه حتى يُبعِد عنه كأس الانهيار لمنظومته الشمولية، اقلّه مرحلياً.

فهل يعي حقيقة ازمته الوجودية اليوم، فيُقدم على تنازلاتٍ من طبيعة معينّة للحفاظ على “امتيازاتٍ” من طبيعة مُعينّة ثانية، فيُبطىء خطى انهياره؟ ام يستمر بالمعاندة والمكابرة، والاصرار على امتلاك كل شيء، مُسرّعاً الخطى نحو اللحاق بمن سبقه من انظمةٍ ومنظوماتٍ شرقية شمولية بائدة؟

المصدر:
فريق موقع القوات اللبنانية

خبر عاجل