في العام 1976، وبعدما بلغت المعارك درجة كبيرة من الخطورة، شُكّلت “جبهة الحرية والانسان” في 31 كانون الثاني من العام ذاته، والتي صار اسمها في ما بعد “الجبهة اللبنانية”، وتضمنت تحالفات عدة بين أحزاب وشخصيات مسيحية، لمواجهة مؤامرة احتلال لبنان.
في ذلك الوقت، سطع نجم الأباتي شربل قسيس الذي كان قد انتُخب حديثاً رئيساً للرهبانية اللبنانية المارونية، عندها تحوّلت جامعة الكسليك إلى ملتقى لكبار السياسيين، ومن هناك تمّ الإعلان عن انطلاقة “الجبهة” التي وُلِدَت في كنف الرهبانية اللبنانية المارونية، حيث عقدت اجتماعات تمهيدية لبلورة فكرتها. في العام 1980 انتخب الرهبان الأباتي بولس نعمان رئيساً عاماً للرهبانية، التي زادت من توغلها في دعم المقاومة اللبنانية.
ضمّت الجبهة أقطاباً كبارَ ومجموعة انتلجنسيا، أبرزهم الرئيسان كميل شمعون وسليمان فرنجية والشيخ بيار الجميّل وشارل مالك وفؤاد افرام البستاني وشاكر أبو سليمان وادوار حنين وجواد بولس وفؤاد الشمالي وسعيد عقل، والأباتيين شربل قسيس وبولس نعمان.
تزامن تأسيس الجبهة اللبنانية مع دخول الجيش السوري إلى لبنان تحت عنوان قوات الردع العربية، وخلافاً لما يعتقده كثيرون، لم تكن “الجبهة” موافقة على انتشار قوات الردع داخل المناطق الشرقية بل الاكتفاء بسحب السلاح الفلسطيني.
اتخذت الجبهة من دير مار جرجس عوكر التابع للرهبانية الأنطونية مقراً لها، وكانت تُصدر بياناتها من هناك، إلا أن اجتماعاتها المفصليّة في الانعطافات الكبيرة كانت تعقدها في دير سيدة البير، الذي شهد على خلوتها الأولى الكبيرة، وتحوّل اسمها في 23 كانون الثاني من العام 1977 من جبهة الحرية والإنسان إلى الجبهة اللبنانية.
لم تسلم “الجبهة” من الضربات القاسية التي تمثلت أولها بانسحاب الرئيس سليمان فرنجية منها على أثر أحداث إهدن في العام 1978، لكنها صمدت، وكانت خير من يمثّل الوجدان المسيحي في تلك المرحلة.
صعد نجم بشير في “الجبهة” في العام 1979، وتحديداً عندما انعقدت خلوة 16 شباط بغية توحيد البندقية، وجرى حوار بين كميل شمعون وبيار وبشير الجميل، أظهر فيها الأخير تطوراً ووعياً للقضية. طال الحوار وبقي مستمراً حتى تمّ الاتفاق على الفصل بين المهمات السياسية والعسكرية، وهو الأمر الذي أمّن الانسجام بين جناحيّ “الجبهة اللبنانية” التي أصبح شعارها، “تعددية سياسية ووحدة عسكرية”. كان سهلاً التفاهم نسبياً على هذه المعادلة لأن الرئيس شمعون كان سيّد اللعبة السياسية بينما كان بشير سيّد اللعبة العسكرية، وتجرّأ كل منهما على استفزاز سوريا والدفع بالمجتمع الدولي إلى الالتزام بلبنان أكثر فأكثر.
أما الرجل الثاني الذي أحاط ببشير في “الجبهة اللبنانية” فكان شارل مالك، الذي ترأس الجمعية العمومية للأمم المتحدة وكان يتمتع بهامة مهيبة، وبثقافة انغلوساكسونية واسعة، فشكّل ضمير بشير ومرجعه في الشؤون الدولية.
احتفظ بشير لشارل مالك بإحترام كبير، إذ فرض نفسه على اجتماعات الجبهة بسعة اطلاعه، فكان يستمع اليه مطوّلاً وبإنتباه شديد. من جهته، كان مالك معجباً جداً ببشير وعلّق عليه آمالاً كبيرة، فسانده ومنحه دفعاً معنوياً كبيراً، إضافة إلى دعم كبير من الرهبانية اللبنانية المارونية متمثلة بالآباتي بولس نعمان الذي رافقه في كثير من المحطات وخصوصاً في اجتماعات الجبهة، وقد أدى دوراً أساسياً في اقناع اعضاء الجبهة بالقبول به كمرشح للرئاسة.
كسب بشير احترام كل أعضاء الجبهة، وكان عندما يشارك في نقاش يلتزم الحقيقة والرصانة. صحيح انه كان الأصغر سناً وكانت ردّات فعله عفوية احياناً، الاّ انها صريحة وغير ملتوية. وكثيراً ما كان يؤثر الصمت عندما يتعلّق النقاش بمواضيع من خارج اختصاصه أو غير مرتبط بالمهمات العسكرية. قوّته انه كان مؤمناً بكل ما يقول، ولا يقول ما لم يكن مؤمناً به.
الخلوة الأكثر أهمية للجبهة في دير سيدة البير، عقدت في 27 أيلول من العام 1980، وكان موضوعها درس استراتيجية للمرحلة المقبلة انطلاقاً من ورقة أعدتها “لجنة الدراسات الاستراتيجية” التي ترأسها انطوان نجم.
حتى ذلك التاريخ، كانت “القوات اللبنانية” قد سارت شوطاً بعيداً في الورشة الداخلية وإعادة تنظيم نفسها وتثبيت وحدة البندقية. وبمقدار ما كان الاطمئنان يعود إلى النفوس والقلوب، كان بعض ممن يتتبع الاحداث ويهتم بالمستقبل، يطرح التساؤلات الآتية: ماذا بعد؟ ما الذي سيحصل؟ وماذا تخبىء الايام؟.
إذاً، خلوة سيدة البير كانت البحث الجدي الرسمي الأول في موضوع تسلّم المقاومة الحكم. ومنذ ذلك التاريخ سار كل شيء ضمن خط هذه الاستراتيجية، إلا أن لقاءات كانت تُعقد من حين لآخر، لتقويم الأوضاع المستجدة، ومنها اجتماع 3 أيلول من العام 1981، الذي تزامن مع المواجهة في زحلة مع السوريين، والانتصار السياسي الكبير للمقاومة اللبنانية التي أخذت بعداً دولياً مرموقاً.
في هذا الاجتماع تكرر النقاش مرة جديدة حول آلية وصول بشير إلى الحكم الذي أصرّ على اعتماد الطريقة الدستورية التقليدية، بعدها انصرف “الباش” إلى تعزيز قدرات “القوات اللبنانية”. كان رجل التفاصيل، الذي يلاحق ويخلق الحوافز ويشجع ويسأل ويوجّه يومياً، فيستمع إلى الجميع ويتلقى شخصياً الشكاوى والاقتراحات ليبتّ بها، ويصوّب الخطأ.