كتب شارل جبور في “المسيرة” – العدد 1737
المارونية السياسية تجربة فريدة
اللبنانية السياسية تجسّدها قولا وفعلا
سميّت عن طريق الخطأ، ربما، بالمارونية السياسية، أو من أجل التصويب على النموذج الحديث الذي قدمته والتجربة الفريدة التي ساهمت في هندستها وصياغتها وصناعتها من خلال تطييفها سعيا لضربها من قبل المتضررين في مجتمع تعددي مثل لبنان، أو غير المدركين لأهمية هذه التجربة، فيما المارونية السياسية تجسِّد قولا وفعلا اللبنانية السياسية.
فالمارونية السياسية هي الترجمة العملية لمعنى اللبنانية السياسية، وهدف المارونية السياسية الوصول إلى اللبنانية السياسية، لأن الجوهر والأساس يكمن في النتيجة التي آلت إليها مساهمة الموارنة في انتزاع الكيان بحدوده الجغرافية وتحويله إلى دولة متطورة بنمط عيش شعبها واقتصادها وحرياتها ودستورها وقوانينها وأجسامها الاستشفائية والتعليمية والسياحية…
وكل سعي الموارنة كان من أجل قيام دولة تزاوج بين الدول العصرية في الغرب التي تتحصّن بالقوانين وتشجِّع المبادرات الفردية وتقدِّس الحرية، وبين الحفاظ على التراث الشرقي عن طريق التكامل بين مدنية الدولة وطائفية النظام وتعددية المجتمع، وقد شكلت هذه التجربة نموذجا تشاركيا بين المسيحية والإسلام غير موجود في أي دولة في العالم.
وقد سميّت بالمارونية السياسية نتيجة هذه المساهمة الخلاقة من النخبة المارونية في إنشاء دولة لا مثيل لها في الشرق الأوسط، ولكن هذه التسمية حوِّرّت من الفئة المتضرِّرة من دولة ناجحة وحديثة وحيادية، فتمّ استهدافها من خلال تصويرها على غير حقيقتها بأنها فئوية وجعلت من لبنان وطنا للموارنة، وهذا خطأ وخطيئة بحقّ الموارنة ولبنان.
وفلسفة المارونية السياسية قائمة على فكرة صناعة وطن لجميع اللبنانيين، مسيحيين ومسلمين، يرفع لواء الحرية ويشكل تجربة إنسانية وحضارية لا أولوية لها سوى حقوق الفرد والجماعات تحت سقف دولة قانون متطورة في كل المجالات والقطاعات.
فهدف الموارنة لم يكن إقامة دولة للموارنة او للمسيحيين، إنما إقامة دولة لجميع اللبنانيين، دولة المساواة والحرية والعدالة، وقوّتهم كانت متأتية من تاريخهم الطويل وعلاقاتهم مع الفاتيكان والغرب، ونقلهم ما أتقنوه واختبروه وعايشوه في أسفارهم وتنقلاتهم إلى درجة يستحيل معها تصوّر لبنان بالشكل الذي عرفه اللبنانيون بين عامي 1943 و1975 لولا دورهم الرائد في كل الجوانب الدولتية والحياتية.
والحرب التي خيضت ضدّ المارونية السياسية لم تكن ضدّ الموارنة كطائفة، إنما كانت ضد اللبنانية السياسية كنتاج لعملهم ونضالهم وكفاحهم، لأن هناك من رأى انه لا يمكن التخلُّص من اللبنانية سوى من خلال استهداف المارونية كقوة سياسية ومالية واقتصادية وثقافية شكلت العمود الفقري لهذا النموذج اللبناني.
فلا يمكن إسقاط حياد لبنان وتفكيك الدولة وتحويل الوطن إلى ساحة واستبدال المشروع اللبناني بالمشاريع الإقليمية سوى عن طريق استهداف الموارنة وإضعافهم، لأن مشروعهم هو الدولة ولا مشروع للموارنة خارج إطار الدولة التي يُعلو فيها الإنسان ولا يُعلى عليه، والحرب التي بدأت منتصف سبعينات القرن الماضي ضدهم ما زالت مستمرة من أجل منعهم من إعادة الاعتبار لنموذج سويسرا الشرق.
إن قوة الموارنة تشكّل قوة للبنان السيادة والحياد والحرية والعدالة والمساواة، وضعفهم يشكّل إضعافا لدورهم في الدفاع عن تجربة فريدة وفي صيانة لبنان التعددي بكل أبعاده الإنسانية والحضارية، وهذا ما يفسِّر طليعيتهم في المواجهة دفاعا عن القيم والثوابت والمسلمات المؤتمنين عليها، كما يفسِّر الاستهداف الدائم والمبرمج لدورهم ورسالتهم.
فإخضاع الموارنة وتدجينهم وتطويعهم ودفعهم إلى التسليم بالأمر الواقع يمثِّل أقصر الطرق إلى إبقاء لبنان ساحة ودولة فاشلة ومعبرا للمشاريع الخارجية وصندوق بريد للدول الإقليمية، وعلى جميع اللبنانيين التواقين إلى الاستقرار والازدهار والسلام الداخلي ان يدركوا أنه بقدر ما يقوى الدور الماروني يقوى الدور اللبناني، وبقدر ما يضعف بقدر ما يستمر لبنان في مستنقع الأزمات والفشل والعزلة وعدم الاستقرار.
وما تقدّم هو حقيقة دامغة وثابتة، وتكفي المقارنة بين لبنان الاستقلال، ولبنان إبان الحرب وما بعدها لتبيان الفارق بين الأمس واليوم، وليس صحيحا ان هدف الموارنة ان يكونوا طائفة مميزة، لأن تميُّزهم مصلحة للبنان ولكل مواطن لبناني يريد العيش في مساحة آمنة ومستقرة ومزدهرة، فطائفتهم هي لبنان، وتميُّزهم هو للبنان، ومقارنتهم بتجارب أخرى في سياق استنساخ غيرهم لتجربة الطائفة المميزة هو تحامل على تجربتهم ومقارنة في غير محلها.
فلا يمكن إحياء التجربة اللبنانية بنسخة البدايات إلا بواسطة قوة محرِّكة لا همّ لديها سوى لبنان والإنسان اللبناني في زمن لا قيمة فيه لعقائد وأيديولوجيات لا تقيم وزنا لحياة المواطن ورفاهيته، وقد أثبتت المارونية بالأفعال لا بالأقوال قدرتها على صياغة نموذج حضاري لجميع اللبنانيين، والأخطاء التي ارتكبت أو الحرص على مواقع وسلطة ونفوذ كانت نتيجة مخاوف من تغيير معالم البلد وهويته ونمط عيش أهله، وقد صدقت هواجسهم بدليل الواقع المأساوي ليس للموارنة أو المسيحيين بل لجميع اللبنانيين.
فالمارونية السياسية هي مشروع حضاري لمواطن يعيش في كنف دولة ودستور وقضاء وقانون وعدالة، ومن الخطيئة محاسبة هذه التجربة على أخطاء ارتكبت في معرض الدفاع عن هذا المشروع والمخاوف من تقويضه ونسفه وتبديله وإسقاطه، لأن الهدف هو لبنان العيش المشترك والاقتصاد الحر والحرية المقدِّسة وكرامة الإنسان.
ويستحيل ان يستعيد لبنان تألُّقه وازدهاره وعافيته واستقراره في ظل مشاريع أقلمته وتعطيل دولته، والتجربة أكبر دليل وبرهان، حيث ارتبط صعود لبنان بدولة وحياد وهبوطه بخطف الدولة وربطه بمحاور خارجية، وهذه حقائق تاريخية ومعيوشة تتصِّل بالفكرة المؤسسة للكيان اللبناني وفلسفته، إذ بقدر ما يبتعد عنها يسقُط في دوامة العنف وعدم الاستقرار، وبقدر ما يقترب منها يسمو باتجاه الدولة الرائدة التي تحترم تعدديتها وتصون عيشها المشترك وتحصِّن الاستقرار.
ويستحيل أيضا فصل المارونية السياسية عن اللبنانية السياسية، ولن يستعيد لبنان تجربته الرائدة ومقوماته وقوته بنموذجه وحضارته وحداثته ما لم تستعِد الفئة المؤسسة دورها في الحفاظ على الثوابت والخط اللبناني المؤسِّس الذي ترجم بانطلاقته وسياسته الداخلية المرتكزة على أولوية الإنسان، وسياسته الخارجية المستندة إلى الحياد وعلاقاته المتوازنة مع الشرق والغرب على قاعدة الاحترام المتبادل.
فلا طائفة مميزة في لبنان والميزة الوحيدة هي للبنان والشعب اللبناني، ولا هدف للمارونية السياسية سوى اللبنانية السياسية بكل أبعادها الحضارية والإنسانية.
شارل جبور – رئيس جهاز الإعلام والتواصل في «القوات اللبنانية»
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]