عدالة ماثلة أمام الفساد… من يهدم أعمدة “الهيكل”؟

حجم الخط

كتب شربل زغيب في “المسيرة” – العدد 1737

يؤسفنا، ونحن في القرن الواحد والعشرين، أن نستذكر مقولة إبن خلدون «فساد القضاء يفضي الى نهاية الدولة». وكان الأحب علينا أن نقول عن بلادنا ما قاله تشرشل، والقذائف تنهال على بلاده، «إن بريطانيا بخير طالما القضاء بخير».

يحضُرنا هذين القولين، لا حنيناً وحباً بأقوال عظماء الأدب والسياسة، إنما لوضع الإصبع على الجرح، وتأكيداً على أن القضاء هو «حجر الزاوية» والمعادلة الكبرى في بناء دولة عصريّة وعصيّة على كل فساد يحاول أن يتسلل اليها وينخر مفاصلها.

فأين لبنان من هذه المعادلة؟ وأين هو «حجر الزاوية»؟ والهيكل الذي عمره ستة آلاف سنة حضارة، فهل نُقض ونحن نبكي اليوم على أطلاله؟

لا شكّ أن لبنان اليوم يعاني من عدة مشاكل تعيق وتعترض استقلالية سلطته القضائية Le pouvoir judiciaire. والسلطة لكي تكون «سلطةً» بكل ما للكلمة من معنى ووزن، يقتضي أن تتمتع باستقلالية في جوهرها، وقوّتُها نابعة من ذاتيّتها، وقرار حرّ غير مرتبط بأحد.

فكيف بالحريّ يجب أن تكون «السلطة القضائية» وهي الحصن المنيع والضمانة الكبرى لفرض سيادة القانون وانتظام عمل المؤسسات وحفظ الحقوق وحماية الحريّات؟

مشهدية العدالة ماثلة أمام الفساد السياسي مخفورة من دون قيد، تُحاكَم، منتظرة صدور الحكم بحقّها. واقع نشهد عليه في لبنان اليوم.

فبعد أن كبّل محور الممانعة القضاء اللبناني في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ومنع التحقيق المحلي القيام بعمله من خلال ممارسة أعمال التهديد والقتل، يتدخل المحور مجدّداً باعتماد نفس الأساليب في «كارثة» جريمة تفجير مرفأ بيروت، وذلك عبر ممارسة أعمال ميليشياوية تمثّلت «بغزو عين الرمانة» وبتهديد المحقق العدلي القاضي طارق البيطار داخل قصر العدل في بيروت بعبارة «واصلة معنا منك للمنخار، رح نمشي معك للآخر بالمسار القانوني وإذا ما مشي الحال رح نقبعك»، وبوصف التحقيق «بالمريب»، واستخدام النفوذ السياسي والعسكري وعدم الحضور أمام القاضي العدلي للاستماع الى المتهمين، وتقديمهم الدعاوى الكيدية لكف يدّ القاضي بيطار عن متابعة التحقيق.

إن قضية تفجير مرفأ بيروت أثبتت عدم ارتباط القضاء اللبناني بمفهوم استقلالية السلطة القضائية، نتيجة تبعية «البعض» وارتهانه لزعيم سياسي وظّفه خدمةً لمصالحه الخاصّة وليس خدمةً للقضاء والعدالة. ومما لا شك فيه بأن هذا «التخبط» الذي أحدثه التدخل السياسي قد طال أعلى الهرم القضائي وهو مجلس القضاء الأعلى. فماذا يحصل داخل المجلس؟

بتاريخ 6 أيلول من العام 2022 اجتمع المجلس واتفق بالإجماع على نقطتين:

-التشكيلات القضائية التي لا زالت عالقة لتاريخ اليوم بسبب الانقسام الطائفي والسياسي.

-إنتداب قاضٍ عدلي رديف «ومحايد» للبتّ بإخلاءات سبيل الموقوفين في قضية المرفأ.

إن اقتراح تعيين قاضٍ عدلي «رديف» يثير عدّة تساؤلات من الناحية القانونية، وهي سابقة غير معهودة بتعيين محقّقين عدليّين بقضية واحدة. فبحسب الفقرة الثانية من المادة/357/ من قانون أصول المحاكمات الجزائية يعيّن في المرسوم قاضياً إضافياً ليحل محل الأصيل، وليس رديفاً، وذلك في حالة وفاة القاضي الأصيل أو تنحيته أو رده أو انتهاء خدمته.

إستند بعض الحقوقيين، بهذا الخصوص، الى اجتهاد قضى بتعيين القاضي جهاد الوادي «محققاً عدلياً رديفاً» للمحقق العدلي القاضي الياس عيد بجريمة اغتيال الرئيس الحريري، الأمر الذي لا يمكن الركون إليه في  قضية «تفجير المرفأ» لتعيين قاضٍ رديف الى جانب القاضي الأصيل الرئيس طارق البيطار.

إن تعيين القاضي العدلي جهاد الوادي، في الاجتهاد المنوّه عنه، لم يشكل سابقة قضائية، إذ تمّ تعيينه بسبب اضطرار سفر القاضي الأصيل الياس عيد الى الخارج وكانت مهمّته إدارية بحتة، وبذلك يكون الاجتهاد سليماً وواقعاً في محلّه القانوني الصحيح.

إلاّ أن القاضي الرديف المزمع تعيينه الى جانب القاضي الأصيل للبتّ بطلبات تخلية سبيل بعض الموقوفين، لا يستقيم قانوناً، كونه يستلزم الولوج الى أساس التحقيق والإطلاع على كافة التقارير والمحاضر ويدخل في صلب العمل القضائي البحت.

على رغم وضوح النصّ القانوني حيث لا مجال للإجتهاد، إجتمع مجلس القضاء الأعلى لزوم تعيين القاضي الرديف حيث تم اقتراح إسم واحد من دون سواه كقاضٍ رديف وهي القاضية سمرندا نصّار، الأمر الذي أشعل الخلاف بين أعضاء المجلس خاصّة أنه وبحسب ما أُشيع، فإن القاضية نصّار غير حياديّة ومقرّبة جدّاً من التيار الوطني الحرّ الحليف الأساس لمحور الممانعة، وهذا يشكّل خرقاً فادحاً لمبدأ إستقلالية القضاء وفصل السلطات الذي نصّ عليه الدستور اللبناني.

إضافةً الى كل تلك التجاوزات القانونية، أتى توقيف وليم نون، شقيق أحد ضحايا إنفجار مرفأ بيروت، من جهاز مديرية أمن الدولة على خلفية أعمال الشغب التي طالت قصر العدل في بيروت، ليدفع بالخلاف قدماً من خلال سابقة قام بها مجلس القضاء الأعلى عبر إصدار بيانين متناقضين في أقل من ساعة واحدة فقط.

البيان الأول أتى متضامناً مع السلطة القضائية والقاضي زاهر حمادة الذي أصدر إشارة التوقيف بحق وليم نون، فيما البيان الثاني جاء تصحيحاً للأول كون رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود رفض البيان الأول لعدم اشتماله قضية إنفجار مرفأ بيروت ورافضاً للتدخلات السياسية التي تطيح بهذا الملف.

الى جانب موقف الرئيس عبود، يأتي مؤخراً، بعد عام ونيّف، قرار القاضي البيطار بإخلاء سبيل خمسة موقوفين، والإدعاء على ثمانية أشخاص جدد بينهم المدير العام للأمن العام اللّواء عباس إبراهيم والمدير العام لأمن الدولة اللّواء طوني صليبا، الذي سبق وادعى عليهما واصطدم بقرار وزير الداخلية السابق ومجلس الدفاع الأعلى اللذين تمسكا بأحكام المادة /61/ من قانون نظام الموظفين التي تنصّ على أنه لا يمكن ملاحقة الموظّف جزائياً إلا بناء على موافقة الإدارة التي ينتمي إليها.

إلا أن القرار «البطولي» الصادر عن القاضي البيطار لم يسلم من الإنتقاد والمواجهة، خاصّة من الجهات التي كان الأجدى بها تمنيعه وتحصينه، كمحاولة منها لدكّ أركان القرار وزعزعته.

ليأتي الردّ بحجم القرار، بأن أي رفض من أي جهاز أمني أو قضائي لتنفيذ تبليغاته هو تمرّد على القانون…!!

فهل يبقى الرئيس البيطار على قراره بصدّ التدخلات السياسية ومنعها من التسلّل الى ملف «جريمة العصر» إحقاقاً للحقّ وردّاً، ولو معنوياً، لاعتبار الضحايا الأبرياء؟! فنشهد في المرحلة الإستثنائية الراهنة رجلاً إستثنائيًا بحجم الشرف والكرامة يتجرأ، ولو لمرّة واحدة في تاريخ لبنان، على محاسبة كبار المسؤولين، غير آبهٍ «بحصانات سياسية» من هنا ومن هناك، تخفي في حقيقتها هرباً وتهرّباً من المحاكمة والمساءلة.

إن تاريخ لبنان الحديث حافل، للأسف الشديد، بالأمثلة عن التدخلات السياسية في العمل القضائي والتي أطاحت وهدرت حقوق أجيالٍ وأجيال. فأين أصبحت التحقيقات بقضية السابع من أيار؟ وأين أصبحت التحقيقات الخاصّة بشهداء ثورة الأرز؟ اللائحة طويلة بالملفات التي بقيت فارغة ولم تصل تحقيقاتها لأي نتيجة.

إن القضاء العادل هو ركيزة بناء دولة القانون، والقضاء الفاسد هو المساهم الأول في تشريع الباطل، ولا قضاء عادلاً من دون قاضٍ مستقل نزيه يحكم بالعدل والضمير ويحفظ قسمه في أية قضيّة يحكم بها.

فعلينا الإختيار، إمّا التجربة القضائية اللبنانيّة التي أثبتت فشلها بإلقاء القبض على من يحاول زعزعة أعمدة «الهيكل»، أوالتجربة الإيطالية الناجحة التي كان بطلها القاضي المشهور «دي بييترو» الملقّب «بالإنتحاري» والذي عمد الى طرد اللّصوص وتجار السياسة ومحاسبتهم ومحاكمتهم بدءاً من أعلى الهرم الى أسفله.

يجيء يوم ونرى عدالتنا منتصرة، ومنتصرة معها بيروت أم الحق والحريّات!

شربل زغيب  – باحث قانوني

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​​​​​​​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل