كتبت لميا شديد في “المسيرة” – العدد 1737
بعد ثلاثة أشهر على انتهاء ولاية العماد ميشال عون الرئاسية من دون انتخاب خلف له، يبدو أن اللبنانيين اعتادوا الفراغ في موقع رئاسة الجمهورية الذي لم يعد جديدًا على الساحة السياسية، بل أصبح سيناريو يتكرر مع نهاية كل ولاية بسبب النزاعات بين القوى السياسية وسيطرة فريق بالقوة على مجريات الأحداث. منذ الاستقلال وقبل اتفاق الطائف، عرف لبنان 8 رؤساء جمهورية. بعد الطائف تعاقب على سدة الرئاسة 5 رؤساء. إلا أنه على مدى 79 عامًا لم تنتقل السلطة من رئيس إلى آخر بطريقة سلسة، وفي سياق انتخابات رئاسية طبيعية، إلا خلال عهدين فقط من أصل 13 عهدًا، إذ طبعت نهايات معظم العهود صراعات وحروب وشغور، كان معظمها ينتهي بتسويات داخلية أو إقليمية ودولية تؤدي لانتخاب رئيس جديد.
يعيش لبنان اليوم شغورًا رئاسيًا خامسًا، إذ كان الشغور الأول من 18 الى 22 أيلول 1952 بعد عزل الرئيس بشارة الخوري. يومها تشكلت حكومة عسكرية برئاسة اللواء فؤاد شهاب لأيام قليلة وتولّت صلاحيات الرئيس حتى انتخاب كميل شمعون رئيساً. وحل الشغور الثاني مع انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميل في 22 أيلول 1988، وانتهى بانتخاب رينيه معوض عام 1989 ودام عامًا و44 يوماً. والشغور الرئاسي الثالث الذي دام نحو 6 أشهر، حصل مع انتهاء الولاية الممددة للرئيس إميل لحود، في 23 تشرين الثاني 2007 وانتهى في 25 أيار 2008 بانتخاب العماد ميشال سليمان، نتيجة اتفاق بين الزعماء السياسيين اللبنانيين عُقد في الدوحة. وفي المرة الرابعة شهد لبنان الشغور الأطول حيث امتد لعامين وخمسة أشهر، بدأ بانتهاء ولاية سليمان في 25 أيار 2014، وانتهى في 31 تشرين الأول من العام 2016 بانتخاب العماد ميشال عون الذي غادر بعد انتهاء ولايته من دون أن يسلّم خلفاً له. ولبنان اليوم ومعه اللبنانيون ينتظرون حلا للأزمة الرئاسية إنهاءً لشغور من غير الواضح حتى اليوم الى متى سيستمر.
لبنان في ظل الشغور الرئاسي بين أيلول 1988 وتشرين الثاني 1989
غادر الرئيس أمين الجميل القصر الجمهوري في نهاية ولايته في 23 أيلول 1988، من دون أن يسلم الأمانة لرئيس يخلفه، فكان أن شكل، وفقا لصلاحياته الدستورية، حكومة عسكرية برئاسة قائد الجيش حينها العماد ميشال عون على رغم وجود حكومة مدنية برئاسة سليم الحص، لذا قرر يومها الوزراء المسلمون في الحكومة العسكرية: اللواء محمود طي أبو ضرغم والعميد محمد نبيل قريطم والعقيد لطفي جابر، فور تشكيل الحكومة، الاعتذار عن المشاركة فيها، وذلك بسبب ظروف تشكيلها وعدم مشاورتهم قبل التشكيل، إلا أن عون مضى في حكومته ورفض الاعتراف بالحكومة الميثاقية الموجودة. واستمر الشغور حتى 5 تشرين الثاني 1989 مع إقرار الطائف وانتخاب رينيه معوض رئيسًا للجمهورية.
بعد اغتياله في 22 تشرين الثاني انتُخب الياس الهراوي خلفاً له بعد يومين من الاغتيال، أي أن حال الشغور استمرت 408 أيام كون الرئيس معوض اغتيل قبل تسلمه مقاليد الحكم. وعاش لبنان في خلال تلك الفترة فراغاً رئاسياً وانقساماً بين حكومتين واحدة مدنية وأخرى عسكرية، بعدما فشل المجلس النيابي في اختيار مرشح بديل للجميّل، في خضم الحرب الأهلية الطاحنة. وما ميّز فترة الشغور تلك علاوة على الانقسام بين حكومتين، أنها شهدت حربين عبثيتين مدمّرتين، واحدة عُرفت بحرب التحرير خاضها عون بوجه الجيش السوري، والثانية حرب الإلغاء التي شنها بوجه «القوات اللبنانية»، انتهت بذهاب القيادات اللبنانية إلى الطائف الذي أتى بحسب ما كانت عليه موازين القوى يومذاك.
الشغور الرئاسي الثالث ( 2007 ـ 2008 )
شهد لبنان بين تشرين الثاني 2007 وأيار 2008 شغورًا رئاسيًا بعد انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، والسبب مرة جديدة كان عدم التوافق على خليفة للرئيس المنتهية ولايته. ففي 24 تشرين الثاني من العام 2007 انتهت ولاية الرئيس إميل لحود الممددة من العام 2004 من دون انتخاب خلف له إلا بعد نحو ستة أشهر، وهي كانت التجربة «الشغورية» الأولى في سدة رئاسة الجمهورية بعد الطائف، والتي انتهت بعد اجتياح مقاتلي «حزب الله» العاصمة بيروت وعدد من المناطق في 7 أيار من العام 2008 وحصول اشتباكات دامية ذهب ضحيتها أكثر من 230 قتيلا في بيروت والجبل، تبعها اتفاق الدوحة الذي أدى إلى انتخاب قائد الجيش آنذاك العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، في 25 أيار 2008.
الشغور الأطول حتى الآن بين 2014 ـ 2016
أما الشغور الرئاسي الأطول في تاريخ الرئاسة اللبنانية فكان بين 24 أيار 2014 و31 تشرين الأول 2016، وبلغت مدته 29 شهرًا بدأت مع انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان، ولم تنتهِ إلا بعد انتخاب العماد ميشال عون رئيسًا للجمهورية. فبعد خروج الرئيس ميشال سليمان من قصر بعبدا نجحت التناقضات الدولية والإقليمية معطوفة على الصراع السياسي على الساحة الداخلية في إبقاء كرسي الرئاسة الأولى شاغرًا. وكان يومها «حزب الله» متمسكاً بإيصال عون إلى الرئاسة تنفيذاً لأجندة تخدم استراتيجية الحزب، وقد أظهرت تطورات السنوات الست من عهده كم كانت تكلفتها عالية على لبنان واللبنانيين.
وخلال هذه الفترة واجه لبنان عددًا من الأزمات السياسية والاقتصادية وسلسلة من الفراغات على مستوى المؤسسات تعطلت فيها عجلة العمل الحكومي بفعل تحوّل مجلس الوزراء الى ما يشبه مجلس رئاسي يقتصر عمله على تصريف الأعمال، حيث باتت كل القرارات تتطلب موافقة جميع الوزراء. هذا بالإضافة الى تمسّك بعض المكوّنات السياسية باعتبار أن مجلس النواب تحوّل إلى مجرد هيئة ناخبة حتى يتم انتخاب رئيس للجمهورية، ما أدى إلى تعطيل العمل التشريعي في البلاد. وأثرت تلك المجريات سلبًا على انتظام الحياة السياسية، وعطلت عددًا كبيرًا من المشاريع التي زادت الضغوط على اقتصاد متداعٍ دفعته إلى مزيد من التراجع. وبغياب رئيس للجمهورية تعطلت كل المؤسسات وغابت تعيينات القادة الأمنيين في البلاد، إضافة إلى تعيين قائد الجيش واعتماد السفراء وتمثيل لبنان خارجيًا. كما أثّر الشغور على الوضعين الأمني والسياسي، إضافة إلى الوضع الاقتصادي لأنه كشف للمستثمرين أن المؤسسات اللبنانية ليست ثابتة وهي معرضة للضغوط، وهذا أكّد كم أن غياب الرئيس يؤثر على كل الجمهورية.
الشغور الرئاسي الحالي
بدأ الشغور الرئاسي الحالي مع انتهاء ولاية العماد ميشال عون في 31 تشرين الاّول 2022، ولا أحد يعرف إن كانت هذه الحالة ستمتد لأشهر أم لسنوات، نظرًا لتعقّد الوضع السياسي ورفض القوى السيادية الاستسلام لسياسة إخضاع البلد وابتزاز المكوّنات السياسية وإفقار الناس.
وحلّ الشغور الرئاسي الحالي وسط أزمة مالية واقتصادية ومعيشية وسياسية غير مسبوقة في تاريخ لبنان الحديث، بدأت تتوالى فصولا منذ خريف العام 2017، على رغم أنه مرَّ سابقاً في مراحل من الشغور الرئاسي والأزمات الحكومية، إلا أنها لم تكن بهذا الحجم من المساوئ والمخاطر على اللبنانيين بل على مستقبل النظام السياسي برمّته.
لقد احتاط الدستور اللبناني لاحتمال شغور موقع رئاسة الجمهورية لعدة أسباب (إستقالة – إقالة ـ وفاة ـ إغتيال ـ عدم انتخاب خلف للرئيس المنتهية ولايته، كما حصل في حالات الشغور الأربع) ونصت المادة 62 من الدستور: «في حال خلو سدة الرئاسة لأي علة كانت تُناط صلاحيات رئيس الجمهورية وكالة بمجلس الوزراء مجتمعا». وقبل ‘تفاف الطائف كان من صلاحيات رئيس الجمهورية اختيار رئيس مجلس الوزراء والوزراء وفقا لنص المادة 53 من الدستور «رئيس الجمهورية يُعيّن الوزراء ويُسمّي منهم رئيسًا ويقيلهم …..». ووفقا لنص هذه المادة شكل الرئيس أمين الجميل الحكومة العسكرية عند انتهاء ولايته لعدم حصول فراغ. وبعد اتفاق الطائف تم تعديل هذه المادة وانتزعت هذه الصلاحية من الرئيس وأصبح النص: «يُسمّي رئيس الجمهورية رئيس الحكومة المكلّف بالتشاور مع رئيس مجلس النواب استنادا الى استشارات نيابية ملزمة يطلعه رسميًا على نتائجها». وبالتالي لم يكن بإمكان الرئيس ميشال عون تشكيل الحكومة التي تحل مكانه بعد انتهاء ولايته، بل كان ملزما بتشكيل حكومة بالاتفاق مع الرئيس المكلّف يومها نجيب ميقاتي. ونتيجة عدم الاتفاق بين الرئيسين انتهت ولاية ميشال عون من دون حكومة كاملة الصلاحيات، بل بحكومة باتت مستقيلة مع بدء ولاية مجلس النواب الجديد الذي أفرزته الانتخابات النيابية في أيار 2022. وبالتالي فالشغور الحالي غير مسبوق في ظروفه السياسية والحكومية، أي لا رئيس وحكومة تصرّف إعمال، بينما في حالات الشغور السابقة كانت هناك حكومة كاملة الصلاحيات تجتمع وتصدر المراسيم والقرارات في القضايا المطروحة .
تراكم العقد والمخاطر
أما من الناحية الاقتصادية والأمنية، فالظروف الحالية خطيرة مقارنة مع الشغور الأقرب زمنيًا والأطول مدّة الذي حصل بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان. فالوضع متراجع على كافة المستويات وقدرة التحمّل باتت ضعيفة وحالة الشغور تزيد الأمور السياسية تعقيدًا والوضع الاقتصادي صعوبة، وتحوّل حياة اللبنانيين الى جحيم قاتل. فالفراغ الحاصل اليوم يثير العديد من المخاوف المشروعة على استقرار لبنان وعلى استمرارية عمل مؤسساته السياسية. فتاريخيًا، لطالما ترافق الفراغ الرئاسي مع انقسام سياسي حاد وشلل لمؤسسات الدولة وتعميق الخلافات في ظل شغور المنصب الأعلى في الدولة. كما يتبيّن أن الفراغ الرئاسي قد ترافق مع أحداث أمنية خطيرة ذهب ضحيتها العشرات من المواطنين وزادت من الشرخ بين اللبنانيين. ومع تعمّق الإنقسام السياسي الداخلي والإقليمي، يُخشى من أن يؤدي الفراغ الرئاسي الى تدهور الأوضاع السياسية والأمنية أكثر في لبنان، ما قد يزيد من ترهّل النظام السياسي الذي يُخشى معه أن تذهب الأمور إلى المجهول.
وفي خلاصة فترات الشغور الرئاسي الذي عاشه لبنان منذ نهاية ولاية أمين الجميل يكون قد مرَّ على لبنان 1475 يومًا والكرسي الأولى فارغ، أي نحو أربع سنوات و15 يومًا ستُضاف إليها فترة الشغور الحالية التي لا يمكن تحديدها إلا بعد انتهائها بانتخاب رئيس جديد للجمهورية. ولا تُقاس هذه الفترة بطولها الزمني بقدر ما تُقاس بتداعياتها السلبية الكارثية على الصعد كافة، من السياسية إلى الأمنية والاقتصادية والمعيشية، وصولا إلى الديموغرافية، حيث بات الجميع مشاريع هجرة، منهم من يوظفون خبراتهم وعلمهم في بلاد الله الواسعة، ومنهم من يموتون في البحر. وثمة حلول كثيرة وبسيطة قادرة على تجنيب اللبنانيين هذا الأسى، لكن أصحاب مشاريع تتخطّى الحدود لم يجدوا حدودًا بعد لخروجهم على الدستور والتخلّي عن معاول الهدم قبل أن يسقط الهيكل على رؤوس الجميع!
الفراغ على المستويين التنفيذي والدستوري
في لبنان، يوقع رئيس الجمهورية كل المراسيم التي تصدر عن الحكومة، إلى جانب توقيع رئيس الحكومة والوزير المختص ووزير المالية. كذلك يوقّع رئيس الجمهوريّة القوانين التي تصدر عن مجلس النواب. وفي حال شغور موقع الرئاسة نص الدستور اللبناني في المادة 62 منه على: «في حال خلو سدة الرئاسة لأي علّة كانت تُناط صلاحيات رئيس الجمهورية وكالة بمجلس الوزراء».
أما دستوريا، فلا يجب أن يؤدي الشغور في الرئاسة الأولى إلى تعطيل أي من المؤسسات اللبنانيّة. فنص المادة المذكور، يحيل كل السلطات إلى مجلس الوزراء. لكن على مجلس الوزراء بكامل أعضائه أن يوقع نيابة عن رئيس الجمهوريّة. بالتالي، فإن استمرارية عمل المؤسسات التي يكفلها الدستور، تحتاج إلى إجماع سياسي، وهو ما يعني تجميد كل الأمور الخلافية من أقلها أهمية إلى أكثرها.
اليوم، بات المشهد مشوّشاً في ظل غياب نية انتخاب رئيس جديد للجمهورية والتعطيل الذي يرافق كل جلسة رئاسية، مما ينذر بالمزيد من الفوضى والانهيار في الحياة السياسية والاقتصادية، في وقت لم يعد يحتمل اللبنانيون المزيد من الأزمات والتعطيل. هذا فضلا عن أن فراغ الحكم يقطع الطريق أمام تلقي لبنان القروض والمساعدات الدولية التي تُقدّر بمليارات الدولارات، بالإضافة الى ما نشهده من شلل في إدارة شؤون الدولة وفي عمل مؤسساتها.
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]