كتب جو حمورة في “المسيرة” – العدد 1737
لم ترقَ الحركة المعادية للنظام الإيراني إلى مصاف «الثورة» بعد. هي حركة ذات طابع ثوري، تدعو إلى تغيير الواقع القائم وحديدية النظام السائد، والأهم تخفيف القيود المتعلقة بالحريات العامة في المجتمع الإيراني، وتحديداً تلك القيود الدينية. في المقابل، لا يزال النظام الإيراني، بكل ما يمثله من إيديولوجيا، دين، قيم، وعسكر… مستحكماً بالسلطة وزمام المبادرة والقدرة على الفِعل، ويمارس «هوايته» الأحب ضد شعبه: الإعدامات.
كان مقتل الشابة «مهسا أميني» الشرارة الأولى التي أفضت إلى الاحتجاجات الشعبية ضد النظام الإيراني. فمنذ 16 أيلول 2022 وإلى اليوم، لا تزال الإضطرابات ترافق يوميات الشارع الإيراني، والتي أدت إلى مقتل المئات، بينهم عشرات من عناصر قوات الأمن، وتوقيف الآلاف على خلفيات الاحتجاجات.
ليست المرة الأولى التي تقوم فيها إحتجاجات واسعة النطاق في تاريخ إيران الحديث، فقد سبقتها «الثورة الخضراء» عام 2009 وحركات إحتجاجية أخرى عام 2017 و 2019. التشابه بين الحركات الأربعة واضح وهو مرتبط بهوية الناس المُحتجة، ,المطالب وحتى الأساليب. إن الناس أنفسهم هم من يقودون الاحتجاجات، وهم، عملياً، جماهير شبابية متعلمة متأثرة بالثقافة الغربية القائمة على الفردانية ومبادئ الحريات الشخصية والعامة، وهي «طبقة» إن جاز التعبير، تسعى للتخفيف من سطوة النظام الإيراني على الفضاء العام، وعلى أساليب العيش وأنماطه من اللباس إلى القوانين إلى التربية إلى مسائل الدين وغيرها من الأمور. أما أساليب الإحتجاجات فهي نفسها كذلك، مظاهرات في شوارع المدن حيث كثافة الأعداد البشرية والروابط الطلابية، ومواجهات متفرقة مع قوى الأمن وميليشيات النظام الإيراني، وهو أسلوب لم يفلح إلى الآن بتحقيق أي تقدم ملموس في تغيير شكل النظام الإيراني وأساليب الحكم.
أما رد النظام الإيراني وأدواته فمتشابه في معظم الإحتجاجات. قمع دموي وبطش منظّم، تليه محاكمات وأحكام بحق الناشطين تتوزع ما بين السجن لبضع سنوات إلى حدود الإعدام. والإعدام هو سلاح النظام الإيراني المفضل، هذا في وقت ألغت معظم الدولة المتحضرة أحكام الإعدام وأسلوبه، باعتباره منافياً للحقوق الطبيعية للإنسان، ويناقض معظم الاتفاقات الدولية والقوانين الدولية العامة، ويُنظر إليه كممارسة تعود للأزمة الغابرة.
بالمقارنة مع الإحتجاجات السابقة، لم تكترث الإدارة الأميركية كثيراً بكل الحركة الاحتجاجية الحالية في إيران، ولم تصدر بيانات «تدخلية» بتاتاً، بل اكتفت ببعض البيانات المنددة بعد شهر ونيف من إندلاعها. إدارة جو بايدن متساهلة جداً مع النظام الإيراني، ولا يبدو أنها تكترث كثيراً لما تعانيه الناس في ظل نظام ديكتاتوري يأخذ من الدين مرجعاً للحكم ومشروعية للتحكم بحياة الناس. أما المنظمات الدولية، فأفردت بعض البيانات والتقارير الشاجبة بسبب اعتقال 39 صحافياً في إيران بين 16 أيلول و30 تشرين الثاني، وقتل مئات المتظاهرين بدم بارد في الشوارع على يد الأمن الإيراني، وتنفيذ أحكام إعدام بعشرات الإيرانيين معظمهم من الشباب.
من شبه المؤكد أن الحركة الإحتجاجية الحالية في إيران لن تستطيع تغيير النظام الإيراني أو شكل الحكم فيه بسهولة، إنما هي استطاعت، إلى الآن، فرض بعض الحقوق الفردية للنساء بحكم الأمر الواقع لا بحكم القانون، وتحديداً في مسألة اللباس. باتت بعض النساء من سكان المدن تستطيع الظهور العلني من دون ارتداء حجابهنّ، هذا طبعاً إن امتلكن بعض الشجاعة وتجرأن على المخاطرة بحياتهنّ.
بعض الكتّاب الغربيون يرون في الحركة الإحتجاجية الإيرانية حركة نسوية فقط، انتفضت على سطوة السلطة الثيوقراطية الإيرانية، ورفعت شعار حرية المرأة في الفضاء العام، ثم ينتهي «التحليل الغربي» إلى أن الحركة الإحتجاجية لن تصل إلى نتيجة سريعاً، لأنها فاقدة لمشروع سياسي أو برنامج عملي يؤدي إلى انضمام كل أطياف المجتمع إليها، لتتحوّل إلى ثورة حقيقية تقوّض النظام الإيراني.
الغرب، عموماً، يهوى التحاليل المبسطة عند البحث في الدوافع ويعمّق أبحاثه في النتائج النهائية والخلاصات. من يعش في الشرق يعرف تماماً أن أي حركة نسوية لا تستطيع أن تغيّر الكثير في الأنظمة السلطوية المتحجّرة كالنظام الإيراني، ويعرف، تماماً، أن قوة المؤسسات الدينية والعسكرية لا تكترث كثيراً لكل مسألة الحريات الفردية أو العامة، وما يهمها هو استتباب الأمن والنظام ودوام سلطاتها ونفوذها. لذلك، فإن أي تغيير حقيقي لن يكون عبر المظاهرات والمطالب العامة، إنما عبر العنف. من يدرس شؤون المرأة الإيرانية يعرف أن قسماً كبيراً منهنّ يؤيد النظام الإيراني، وهنّ يعطين النظام شرعية شعبية، بعدما صبغ نفسه بهوية الممثل للإرادة الإلهية على الأرض، وذلك بحكم تقديم نفسه كممثل شرعي لله، بحسب نظرية ولاية الفقيه الدينية.
من يتابع المشهد في إيران، يعرف أن المجتمع والبلاد يعيشان، حتى عمق أعماقهما، حالة اقتصادية واجتماعية متردية، وشيوع للحقوق المهدورة تجاه المرأة والأقليات بوجه خاص، وأشكال كثيفة من التعسّف وقمع للمعارضين، وتقويض كل أشكال الحريات العامة والخاصة. يُضاف إلى كل ذلك، طبعاً، ثقل الأثر الاقتصادي على الداخل الإيراني بسبب دعم طهران للقوى الموالية لها والملحقة بها في العديد من الدول، من اليمن إلى العراق وأفغانستان والبحرين إلى سوريا ولبنان وغيرها من الدول الشرق أوسطية والقوقازية والأفريقية.
إن قياس حدود التغيير ومداه في إيران اليوم، قد يُفضي إلى نتيجة سلبية لحركة احتجاجية لم تستطع تثبيت نفسها والانطلاق سريعاً وبشكل واسع إلى نشاط ثوري أو مشروع سياسي مهم يقوّض النظام الإيراني. إلا أن قياس الحركة في المستقبل، حتى وإن أخذت أشكالاً جديدة، فسيكون مختلفاً، إذ إن الاقتصاد الإيراني في تراجع مستمر، ما يعني أن بذور نشأة حركة احتجاجية أنضج ستتأمن، كما أن تثبيت المرأة لحقها في حرية لباسها سيُضعف من شرعية النظام وما يدعو إليه في المجال الديني بنظر شعبه. الحركة الاحتجاجية الإيرانية القادمة لا الحالية، هي ما تجب متابعته والنظر إليها، حيث ستكون أكثر نضوجاً، تأثيراً، وربما دموية.
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]