مار مارون رائدُ “السير معاً”

حجم الخط

كتب الاب مارون عودة في “المسيرة” – العدد 1737

مار مارون رائدُ “السير معاً” يأتي عيدُه هذه السنة، والكنيسة الجامعة منهمكة في التحضير والاستعداد لسينودس “السير معاً”. طلب البابا فرنسيس من الكنيسة الخروج من حصونها لملاقاة شعب الله أينما وُجِد وإلى أيّة ديانة انتمى، فنزع عن الكنيسة حصريّة اللغة الواحدة والتعابير المعصومة ليخاطب الجميع بلغة الله الواحدة الجامعة لجميع ألوان البشر “لغة المحبّة”.

أعلن البابا فرنسيس عن الوقت المناسب لشبك الأيادي والانطلاق في مسيرة “السير معاً” نحو قلب كلّ إنسان، كي يعمل الجميع معاً من أجل إعلاء شأن كرامة الإنسان وتفضيلها على الهموم والانشغالات اليوميّة كافة، لأنّ الإنسان يتمتّع بصورة الله ومثاله وله الحقّ بالحريّة الدينيّة وممارسة العبادات وطقوسه الإيمانيّة بحسب ما يملي عليه ضميره ووجدانه، وبحسب ما توارثه عن أجداده.

انطلق مار مارون في هذه المسيرة في القرن الرابع الميلاديّ يوم كان ناسكًا في جبال قورش وأفاميا، ذهب يومها إلى كلّ مدينة وجماعة ينادي بالحريّة الدينيّة ويعلّمهم العيش بكرامة إنسانيّة. يومها نظّم جماعاتٍ رعويّة تعيش بأُخوّة إنسانيّة وتتعاضد في المحن والكوارث. وكي تستمرّ المسيرة أسّس جماعات رهبانيّة لتحمل المشعل، وتنقل تلك المبادئ والتعاليم من منطقة إلى أخرى، وتذهب إلى كلّ جماعة بشريّة مهما كانت ميولها ومشاربها لتقوى على مصاعبها من خلال التكاتف والعيش معًا. علّموهم على الاستقلالية الإنتاجيّة من خلال جعل كلّ فردٍ منهم عضوًا فعّالًا في الجماعة، وألّا يبقى أحدٌ على هامش الجماعة أو تحت رحمة شفقتها. ولديمومة تلك الجماعات واستمراريتها، وحّدوهم على محبّة الله ومحبّة الإنسان. بالتالي أصبحوا أهل سلامٍ وطمأنينة أينما حلّوا، ولم يعرفوا الثبات إلّا على المبادئ، لأنّهم شدّدوا أيديهم على أيدي كلّ فردٍ وجماعةٍ وساروا معًا في سبيل أخوّة إنسانيّة تنطلق من قلب كلّ إنسان لتستقرّ نهائيًّا في قلب الله. تلك المسيرة أفضت إلى تأسيس وطنٍ اسمه لبنان، يعيش فيه كلّ إنسان بحسب حريّته الدينيّة وبكرامة إنسانيّة، حتّى قال فيه البابا القدّيس يوحنا بولس الثاني: “لبنان وطن رسالة”، حيث تلتقي فيه جميع الأديان بأُخوّة إنسانيّة على اسم الله الواحد ومحبّةً بالإنسان.

يحلّ عيد مار مارون هذه السنة، والإنسان في لبنان لم يلتقط أنفاسَه بعدُ جرّاء جائحة كورونا والتدهور الاقتصاديّ، وسقوط معظم سكانه تحت خطّ الفقر والعَوز والجوع. إنّه الوطن الباكي على شهداء مرفأ بيروت والواقف على أطلال دمار عاصمته وبيوتها المهجورة. ولكنّ شعبه لا يستطيع الاستسلام إلى الواقع والبقاء على البكاء والنحيب، بل الانطلاق من جديد إلى العمل والإنتاج الفرديّ، كي يعيد إلى الوطن عافيته الاقتصاديّة والازدهار. بالتوازي مع كلّ تلك الأحداث لا بدّ من التوقّف والتفكير والتحليل لما تقوم به كنيسة مار مارون اليوم على الصعيد المعنويّ وإعادة الثقة بالوطن ومؤسساته أولًا، ومن ثَمّ على الصعيد الاجتماعيّ والاقتصادي والحياتيّ ثانيًا. تواجه الكنيسة المارونيّة اليومَ إحباط اللبنانيّين وفقدان ثقتهم ببعضهم البعض أولًا وبمؤسسات الدولة ثانيًا، عبر إطلاق المبادرة تلو الأخرى لإعادة اللُحمة والإلفة بين مكوّنات الوطن الواحد، من خلال التشديد على التعاضد وشبك الأيدي لمواجهة هذه المحنة الآنيّة والظرفيّة، وإرشادهم إلى عيش المواطنيّة في مجتمعهم، إذ عليهم ممارسة الواجبات تجاه وطنهم بالتوازي مع المطالبة بحقوقهم، مع الحفاظ على حقوق باقي المواطنين. ومن ثمّ الإنفتاح على جميع الأحزاب السياسيّة وملاقاتهم على أول الطريق لتشجيعهم على العيش بأخوّة إنسانيّة، ومن أجل تفضيل مصلحة المواطن وعيشه بكرامة قبل المكاسب السياسيّة الخاصّة.

على الصعيد الاجتماعيّ والاقتصادي، أوجدت الكنيسة من خلال مؤسّساتها التربويّة والاستشفائية والاجتماعية، وخصوصًا من خلال مؤسّسات الرهبانيّات المارونيّة، مساحات تواصل وحوار وعمل، ودمج جميع فئات المجتمع من مختلف الطوائف والمذاهب، كي يتعاون الجميع في العمل الإنتاجيّ ضمن مختلف الحقول من أجل خيرهم الشخصيّ ومصلحة عائلاتهم، وذلك للعمل بأخوّة والابتعاد عن النزاعات والمناكفات. بالتالي هذا هو نهج مار مارون وقد أراد به أن يعملَ الجميعُ سويّةً من أجل وحدة الجماعة وازدهارها. وهذا ما أراده قداسة البابا فرنسيس من خلال السينودس “السير معاً”: أن يتعاون الجميع بقلبٍ واحدٍ ويدٍ واحدةٍ لتعاضد في سبيل خير الإنسان وعيشه بسلام وطمأنينة، والابتعاد عن جميع النزاعات، ويطلب من الكنيسة مخاطبة البشريّة جمعاء كشعب الله الواحد من دون تمييزٍ عرقيٍّ أو دينيّ. وهذا ما تحاول الكنيسة المارونيّة القيام به اليوم، مخاطبة جميع أصحاب الإرادة الصالحة ليكونوا روّادًا في محاربة التمييز الطائفيّ والسياسيّ في لبنان.

يحلّ عيد مار مارون في هذه السنة السينودسيّة، ونحن بحاجة إلى عودة جذريّة إلى نهج مار مارون، حين كان يتنقل بين مدينة وأخرى يحضّ الجميع على التكاتف والثبات على المبادئ الإيمانيّة والقيم الإنسانيّة. يجب علينا أن نصرخ بأعلى صوت: «نعم للحريّة الدينيّة»، وننكبّ جميعًا بمختلف انتماءاتنا ومذاهبنا على إيجاد المخارج المؤاتية للخروج من هذه الأزمة المعيشيّة والاقتصاديّة، ونضع أيدينا مع الكنيسة الجامعة ونسير معًا في مسيرة أُخوّة إنسانيّة لا تتوقّف عند الحواجز الطائفيّة ولا الحزبيّة، وتسير بخطٍ مستقيم لتدخل إلى قلب كلّ إنسان يخفق بالحياة على هذه البقعة من الأرض، فلا تسمح للفقر بأن يدخل البيوت ويشرّد العائلات، ولا أن يسيطر على أولادها ويدفعهم إلى الهروب نحو المجهول الشرير؛ وفي النهاية لنكون جميعًا خلف عباءة الكنيسة المارونيّة لأنّها تسير اليوم كما دائمًا خلف شفيعِها مار مارون رائد “السير معاً”.

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​​​​​​​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل