تعددت صفحات النضال وبقي المضمون واحداً، القضية والمقاومة والشهادة. لكل مقاوم حكاية ومواجهة مع الموت ولكل رفيق طريقه وطريقته. هم أبطال، كانوا في وسط المواجهة، وضعوا حياتهم على كفهم وقدموها عربوناً للوفاء وإصراراً على البقاء. من قلب النار قاوموا، وبحروف من وجع ودم، وقعّوا أعظم الحكايات، ففاح بخور صمودهم على مذبح الوطن.
شاءت المناسبة أن ألتقي الرفيقة ريتا جعجع ويكون لنا حديث عابر عن زمن التحاقها بمعهد بشير الجميل بصفة تلميذ ضابط وارتأيت أنه لا يجب أن يبقى هذا الحديث عابراً أو مختصراً، فهذا تاريخ من تاريخنا وفي وجداننا يجب توثيقه بكل ما أوتينا من تصميم وفي توقيت مناسب في زمن تكثر فيه الشكوك ويعتمر النفوس القلق ولا يرى كثيرون منا الضوء في آخر النفق. لذا أردت، ومن خلال سلسلة مناضلات القوات التذكير بأن حفنة مؤمنة قليلة قادرة على حماية هذا الوطن وشعبه في وجه الطغاة، حدث هذا الأمر بأشكال عدة على مَرِّ تاريخنا ومُرّه ويحدث حاضراً، وسنبقى لنشهد ونواجه التحديات المستقبلية.
نشأت ريتا جعجع في بلدة في بلدة من بلدات خطوط التماس التي كانت تشكّل متراساً أمامياً للدفاع عن المناطق المحررة، وكان قدر سكان هذه المناطق الصمود في أحيائهم ومنازلهم سنداً وحافزاً للمقاتلين على الجبهات الذين كانوا بدورهم يقومون بجولاتهم في تلك الأحياء لتأمين صمود تلك المجتمعات لناحية تأمين المأكل والمشرب وكل ما يلزم للمواطنين الذين كانوا يبيتون معظم أوقاتهم في الملاجئ. مشهد هؤلاء المقاتلين الشجعان الذين كانوا يتجولون تحت القصف وفي حمأة المعارك كان عاملاً مطمئناً للمواطنين الذين كانوا يعيشون على توقيت المعارك فيستغلون هدوء الهدنة للذهاب إلى أعمالهم ومدارسهم وتأمين مستلزماتهم ثم العودة إلى الملاجئ عند عودة التوتر لتصبح الطرقات لا سالكة ولا آمنة وغير صالحة إلا لشجاعة المقاومة اللبنانية، المقارنة بين المشهدين، روتين الحياة اليومية بين المدرسة والملجأ “وما يطلع الضو عند الفجر بل لما يوقف القصف ونطلع من الملجأ”، وبين مقاتل يطرق باب الملجأ حاملاً معه ربطات الخبز والطمأنينة في زمن الحرب “أمان أكتر من هلأ” جعلت ريتا جعجع تلقائياً تختار نهج المقاومة والحماية لا الاحتماء، وعند أول فرصة التحقت بدورة ضباط مشاة في معهد بشير الجميل لتصبح على قيد تلك الحفنة الشجاعة التي قررت أنها لن تتنازل عن وطنها مهما كلّف الأمر من تضحيات.
سعت ريتا جعجع لنيل حصتها من المقاومة وبدأت القضية تنسج شخصيتها على مبدأ العطاء ومنطق حماية مجتمعها، وكانت قلة قليلة من الفتيات منخرطة في العمل الحربي مع اقتصار دورهن على مهام إدارية بعيداً عن جبهات القتال، فكان دور المرأة جبهة جديدة خاضتها ريتا قبل الالتحاق بمعهد بشير الجميل وحمل السلاح والخضوع للتدريب العسكري المختلط من دون تمييز جندري والمناورات بالذخيرة الحيّة، فتنتقل من مرحلة مشاهدة وسماع خبريات القتال والبطولات والشهداء والجرحى لتصبح جزءاً من الخبرية، وذلك بعد الاستماع إلى محاضرة ألقتها إحدى القواتيات ببذتها العسكرية في مدرستها عن دور المرأة وبأن الشعر الطويل لا يمنعها من أداء هذا الدور والتمرّس في القتال.
وتذكر ريتا حادثة تركت في نفسها أثراً بليغاً عن مقاتل شاب كان في سهرة زفاف أحد أصدقائه مرتدياً بذته العسكرية وعنفوانه، ليغادر السهرة إلى الجبهة ويعود شهيداً في اليوم التالي، أحداث وصور دفعت ريتا إلى معهد بشير الجميل لتستحق بعد اختبار صعب وقاسٍ اجتازته رتبة مقاوِمة!
بعد موافقة اللجنة الفاحصة أصبحت ريتا جعجع واحدة من ست فتيات تمّ قبولهن في الدورة لتبدأ مرحلة جديدة لم تكن تزيدها صعوباتها إلا إصراراً على خوض التحدي وانضمام الجهد الفردي إلى العمل الجماعي وأساس النجاح هو “كل واحد يحمل سلاحو ويعمل شغلو”. وتقول ريتا إن السلاح أصبح جزءاً منها، كأنه يدها الثالثة ومهمته حماية مجتمعها وسلطته الدفاع عن وطنها لا السلبطة على شعبها، وعمل الجماعة يعني ألا تتخلّى عن رفيقك المصاب، في المناورة كما في المعركة “ممنوع تترك رفيقك وراك”. الالتزام ثم الالتزام ثم الالتزام.
يبدأ يوم ريتا ورفاقها بتأدية التحية أمام النصب التذكاري للشهداء في باحة المعهد ليستمر بمعدّل عشرين ساعة في اليوم لكل دقيقة منها قيمتها ونظامها وهذه القيمة للوقت مستمرة في نمط حياتها ويومياتها حتى اليوم، وإلى جانب الشق العسكري كان للإيمان حيزاً أساسياً في فعاليات التدريب، كتلاوة صلاة المقاوم والأبانا والسلام قبل تناول وجبة الطعام إلى جانب المشاركة في قداس يوم الأحد.
تتذكر ريتا جعجع تلك المرحلة بفخر وشغف، في التدريب على القتال وحمل السلاح تعلمت قيمة الحياة لا الموت، العطاء لا الأخذ، وتبدي ارتياحها للأجيال الجديدة التي تنضم للقوات واستمرار النهج المقاوم في النفوس الأرقى من الحاجات الذاتية في دلالة على أن التضحيات لن تذهب سدى مهما بدت الأيام صعبة والأفق مسدود.
أين أنتِ اليوم؟ تجيب ريتا، حيث يجب أن أكون سأكون، وأي موقع يحتاجني فيه حزب القوات اللبنانية يجدني من دون تردد ومن دون قيد أو شرط.
تختم ريتا جعجع بعبرة من كلام تسمعه غالباً “آه إنتي قوات؟ مش مبيّن عليكي” وتعود ريتا إلى حملات تشويه القوات بوصف القواتيين بالزعران وترسيخ صورة معاكسة لحقيقتهم تجاه الرأي العام بسبب الفراغ الذهني والإفلاس السياسي لدى خصومها وخصوصاً منذ “حرب الإلغاء” التي شنّها ميشال عون والاغتيال الجسدي والمعنوي الذي مارسه وتتذكر كلام للحكيم خلال لقاء عقده قائد القوات سمير جعجع لمجموعتها في غدراس حيث كانت تخدم قبل حل الحزب وقوله إن الطرف الآخر يستخدم البروباغندا لتبرير تقصيره في الدفاع عن الوطن “اليوم يقولون ما خلونا” بينما نحن في القوات نعمل في غالب الأحيان بصمت ونفعل أكثر مما نتكلّم لأننا أصحاب قضية ونقوم بما هو صالح ولصالح وطننا وشعبنا من دون انتظار مقابل ومن دون الالتفات إلى المكاسب أو المخاطر. معظمنا هنا ترك مدرسته وجامعته وعمله وعائلته من أجل حريتنا وأمن مجتمعنا، هكذا كنا وهكذا سنبقى وهكذا ستكون الأجيال التي تأتي من بعدنا، وإذا كنا نريد اتباع أساليب الآخرين فلا حاجة لوجودنا وعندها لا يبقى لبنان.