في خضّم الجشع، والطمع، والأنانية، والكراهية، والحروب، وحب السلطة، والشرور على أنواعها، التي تعصف بالبشرية، جاء الزلزال الذي ضرب تركيا وشمال سوريا، بمثابة صحوة ضميرٍ أعادت كل إنسان في الشرق الأوسط الى ربّه والى ذاته، فتوحدّت الصلوات والابتهالات ومشاعر التضامن على كامل رقعة هذا الشرق، بصرف النظر عن كل العداوات، والاختلافات، والصراعات السياسية والعقائدية والطائفية.
ما يشعر به الإنسان في الشرق من تضامنٍ طبيعي لا واعٍ مع أخيه الإنسان، لأي قوميةٍ أو دينٍ أو دولةٍ انتمى، هو جوهر فلسفة الأديان السماوية بحد ذاته، والتي جاءت سياساتٌ من هنا أو هناك، لتحرفه عن وجهته الحقيقية، خدمةً لمصالح سلطناتٍ ودول وإمبراطوريات.
فعند حصول كوارث من هذا النوع، يعي الإنسان اللاواعي حقيقته في هذا الوجود، ويُدرك كم ان المصالح والأنانيات الذاتية أبعدته، وتبعده، عن الخط البياني لمسيرته الأرضية الحقيقية التي يُفترض به أن يصل بنهايتها للاتحاد بالخير الأسمى، الذي هو الله، لا أن تُنسيه الماديات والأنانيات والأطماع والشرور معالم هذا الخط، فيبتعد أكثر فأكثر عن الرسالة التي جاء لأجلها الى هذه الدنيا، ولا يتذكر الله إلا عند وقوع كارثة، أو عند وقوعه في محنة.
لن نقول إن هذه الكوارث الطبيعية هي انتقام الله من البشرية عن الخطايا الكثيرة التي يقترفها الإنسان بحق أخيه الإنسان، وبحق الطبيعة، وحتى بحق الحيوان أيضاً، على غرار طوفان نوح أو سدوم وعمورة، بل جّل ما يمكننا قوله إن موازين الخير تُعيد تصحيح نفسها بنفسها بعد رجحان كفّة الشرّ، والأنانية، والجشع، والسياسات الواقعية الجامدة البعيدة عن العاطفة والأخلاقيات والضمير الإنساني.
إذاً يكفي، أن تنسى شعوب الشرق الأوسط كل الأحقاد والضغائن والكراهيات والموروثات التاريخية التي فرقّتها عن بعضها البعض منذ مئات وآلاف السنوات، وتستبدلها بالرحمة والمحبة ومشاعر التضامن والآخاء، ولو لـ 48 ساعة فحسب، حتى يتقدّم الخير خطوةً الى الأمام في صراعه الأبدي الأزلي مع الشّر.
فكيف بالحري اذا استوطن التسامح والتضامن الإنساني في هذه الربوع لأكثر من هذه الفترة، فكم وكم من الشرور والفتن والعداوات التي كان الإنسان في الشرق وفرّها على نفسه وعلى أخيه الإنسان، وكم وكم من النقاط التي كان الخير سجلّها بفضل ذلك على الشّر.
اكثر ما لفت نظري في هذا الصدد هو مشاعر التضامن التي ابداها الشعب الأرمني تجاه الضحايا الأتراك، متعالياً على كل جراحاته التاريخية وآلامه ومآسيه الماضية، على الرغم من العداء التاريخي الذي ما زال يجمعه بالدولة التركية بشكلٍ عام.
كما استوقفني أيضاً موقف المملكة العربية السعودية الشهم إزاء هذه الكارثة، مع استعدادها لتقديم يد العون للحكومة التركية، على الرغم من الخصومة السياسية والاستراتيجية بين الدولتين.
فأمام وحدة القضية الإنسانية تُسقط كل الحواجز والاعتبارات والخصومات، ويصّح القول: إنسان واحدة، قضية واحدة، في كل زمانٍ ومكان.