شارل  مالك… “الكثير المطلوب” من الموارنة

حجم الخط

كتبت “المسيرة” – العدد 1737

ـ أُعطيَ الموارنة بكركي. بكركي مركز روحي فريد في الشرق الأوسط.

أُعطيَ الموارنة بكركي. بكركي مركز روحي فريد في الشرق الأوسط. الكل يتطلعون الى قيادته وتوجيهه. باستطاعة هذا المركز الكبير جمع شمل الموارنة وأكثر من الموارنة. أثره يُلمس إذا تحرك، وقد يُلمس أكثر إذا لم يتحرك، أو إذا تحرك بما لا يتكافأ مع قدر التحدي. أما نجاعة التحرك فتتوقف على العيش على مستوى لحظة التاريخ الحاسمة. لا يكفي مجرد الحفاظ على الرعية والأعراف والتراث، لا يكفي مجرد البقاء والاستمرار. الحاسم اليوم وعيُ الحركات المصيرية الصاخبة في العالم وعيًا مسؤولاً تامًا، وتوظيفُها، أو توظيف ما أمكن منها، في سبيل التراث والبقاء.

أما الحركات المصيرية الصاخبة فتشمل بالطبع ما يوجبه تطور الكنيسة الكاثوليكية منذ المجمع الفاتيكاني الثاني، وأقوال البابا وتوجيهاته، لكنه يتعدى ذلك الى ما هو أوسع منه بكثير. يتعداه الى التطور الواقع والمتطور في الحركة المسكونية المسيحية، وفي الحركة المسكونية بين المسيحية وغيرها من الأديان. يتعداه الى نزعات العصر الفكرية والكيانية، الى الأيديولوجيات الثورية المجتاحة العالم، الى استيعاب مغزى التطور «المتطور» الهائل في الاقتصاد والمجتمع والسياسة والعلوم والتكنولوجيا الذي قلب كل قياس وكل حسبان سابقين رأساً على عقب، والى دقائق ما هو جار وسيجري في سياسات الشرق الأوسط وسياسات العالم، مما قد يحتم إعادة النظر في كل شيء ألفناه وظننّا انه أبدي. باستطاعة بكركي، مادياً ومعنوياً، أن ترعى باسمها قيام مؤسسة تنظر، بشكل محترم عالمياً، في جميع هذه الشؤون، مؤسسة تصبح مع الزمن ثقة يحج إليها أرفع السياسيين والمفكرين في لبنان وفي غير لبنان. وإذا أقدمت بكركي على هذا الأمر، فستجد تشجيعاً وعوناً من قبل هيئات كثيرة في العالم.

بكركي من الأهمية بحيث إذا خرِبَ لبنان وبقيت هي سليمة معافاة قوية، ماسكة بيد من حديد بزمام دعوتها التي أُنيطت بها أزليًا، فباستطاعتها وحدها أن تعيد تعمير لبنان. أما، لا سمح الله، إذا خربت بكركي أو وَهَنت أو حلّ بها سقم ما، فلبنان وحده لا يستطيع إغاثتها كي تستعيد عافيتها وتبني ذاتها من جديد. وإذا كان لبنان خرِبًا فقد لا يستطيع أن يُعمِّر نفسه بنفسه إذا كانت بكركي أيضًا خرِبة. أي مؤسسة أخرى في لبنان يصح فيها هذا القول؟ وإذا قدرنا ماذا يعنيه لبنان تاريخيًا وعالميًا، تجلّى لنا مركز بكركي الفريد، وتِبعَتُها العظمى، في لبنان وفي العالم.

أما أسباب تفرُّد بكركي بهذا المركز العظيم فتعود الى طبيعة المارونية والموارنة، والى تاريخهم وتمركزهم في هذا الجبل، والى مجتمعهم المتلاحم المتراص، والى تنظيمهم المدني والكنسي. كل من هذه العوامل يستدعي بحثاً خاصًا مستفيضًا. بكركي مؤسسة حتم إفرازها تاريخ الموارنة، وطبيعتهم، وخبرتهم الكيانية، ومعاناتهم ومعاناة مسيحيي هذا المشرق الصاخبة المأساوية عبر الأجيال، المعاناة التي لم تستقرّ يومًا، وقد يكون قدرها أن لا تستقر أبدًا.

إذا شاءت العناية أن تمثِّل بكركي دورها المرسوم، وإذا استجابت بكركي لهذه المشيئة، فباستطاعتها أن تكون العامل الحاسم في مصير لبنان وفي مصير أكثر من لبنان. هذا الدور الحاسم يستدعي منتهى الحكمة والحزم والإقدام والتضحية والتواضع. وعلى أية حال، فإن الموارنة أعطوا بكركي، وهي شيء كثير، ولذلك يُطلب منهم ومن بكركي الكثير.

 

– أُعطي الموارنة كثيراً ولذلك يطلب منهم الكثير

يقول المسيح: “إنّ من أُعطي كثيراً يطلب منه الكثير”. لقد أُعطي الموارنة كثيراً ولذلك يطلب منهم الكثير. أُعطوا أولاً، هذا الجبل العظيم، جبل لبنان اسم من أعطر الأسماء في الكتاب المقدس وفي التاريخ. اقترن اسمه بالمجد والكرامة والشموخ والبهاء والجمال والقداسة والصمود والرائحة الزكية، و بـ”أرز الرب” الخالد. وهو اليوم استراتيجياً من أشد الحصون مناعة في هذا الشرق ليس لذاته وفي حد ذاته فحسب، بل في تدبير الشرق الأوسط الدفاعي العام. لم يعط شعب في المنطقة كلها شيئاً بالطبيعة شبيهاً به، وإذا اعتبرنا أهمية هذه المنطقة اليوم في الإستراتيجية العالمية، وموقع الجبل الفريد، الشامخ من البحر مباشرة، صحّ القول، لربما، إنّ شيئاً شبيهاً بهذا الجبل لم يعط لقوم في العالم.

إنه عطية عظيمة. التفريط به، بأي شكل، جريمة لا تغتفر. السؤال هو: هل يستأهل اللبنانيون، هل يستأهل الموارنة، هذه العطية العظيمة؟ هل يقدرونها حق قدرها؟ لبنان معطى للجميع، ولذلك كلنا جميعاً، وبالأخص الموارنة، مؤتمنون على هذا الجبل، مؤتمنون عليه كي يبقى منيعاً بأيديهم وبأيدينا كلنا، وكي يكونوا ويبقوا هم، ونكون ونبقى جميعاً، جديرين بما اقترن اسمه به معنوياً في التاريخ “مجد لبنان أعطي له” شعار يدل على أن مجداً عظيماً أعطي الموارنة، مجداً بقدر ما يبعث على العزة والفخار يستدعي أيضاً منتهى العبرة والتواضع.

 

– أعطي الموارنة بلداً مجتمعه حر، تعددي، والمسيحية فيه حرة.

أعطي الموارنة بلداً مجتمعه حر، تعددي، والمسيحية فيه حرة. هذا شيء كثير، خاصة في الشرق الأوسط، لذلك يطلب منهم الكثير الكثير.

يطلب منهم، وهم مقدروا الحرية الأول وعاشقوها، ألا يعملوا شيئاً، أو يقبلوا شيئاً، أو يقبلوا بشيء، يؤول الى تقليص حرية لبنان، بل أن يعملوا كل شيء لتمتين هذه الحرية وتعميقها وجعلها أكثر أصالة ومسؤولية، بحيث إذا جاء لبنان حر من أحرار العالم الحقيقيين لا يشعر بالاختناق الروحي كما يشعر في غير لبنان، بل بأنه في داره وبيته تماماً. لبنان الحر قيمة لا تقدر في التدبير الإنساني الكياني العام للشرق الأوسط، والموارنة مؤتمنون على هذه القيمة لربما أكثر من سواهم. وبما أن هذه الحرية اليوم تقلصت وزمت في لبنان، وقد تمثلت (assimilated) أجزاء منه في نظم غيره، فعليهم أن يستردوا هذه الأجزاء ويعيدوها الى الرحابة اللبنانية الأصيلة وعلى كل اللبنانيين، الى أية فئة انتموا، أن يعاونوهم في عملية هذا التحرير، بإخلاص وتضحية يماثلان إخلاصهم وتضحيتهم هم.

يطلب منهم، وهم العارفون الأول لخطورة الاحترام المتبادل، أن يشددوا على هذا الاحترام ويمارسوه بالفعل في صلاتهم مع جميع فئات لبنان. ممارسة هذا الاحترام الصادقة ليست أمراً آلياً ذاتياً طبيعياً: انها كمال موهوب من فوق. وهذا “الفوق” يعرفونه جيداً، الذي سمعوه آلاف المرات يقول لهم “أحبب قريبك حبك لنفسك”، بل “أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا الى مبغضيكم”.

يطلب منهم، وهم الجسم المسيحي الحر الأول في لبنان، أن يحرصوا أشد الحرص على المسيحية الحرة، ليس لهم فحسب بل لكل فئة مسيحية أخرى. المسيحيون الآخرون مسيحيون مثلهم تماماً، ومن حقهم ان يكونوا في مسيحيتهم أحراراً مثلهم تماماً. على الموارنة أن يستمروا بإشعارهم بالفعل بأن حريتهم وذاتيهم مقدستان. وعليهم في نفس الوقت أن يحترموهم في مسيحيتهم، أياً كانت، وألا يفكروا بشأنهم فكرة واحدة أو يقولوا عنهم كلمة واحدة، في هذا العصر المسكوني المليء بالرجاء، يشتم منها انهم هم وحدهم (أعني الموارنة) مالكو كمال المسيحية وأن مسيحية غيرهم ناقصة أو زائفة. مع أني لا أؤمن إطلاقاً، في الأمر المسكوني العقائدي، بأية توفيقية رخيصة، بل بحقيقة واحدة علينا أن نتلمسها جميعاً بالرجوع المنفتح الى الوحي المعطى والى التراث الأصلي والأصيل والى إرشاد الروح القدس الحي وتنويره. وفي شأن النشدان المسكوني على الموارنة أن يأخذوا بزمام المبادرة في إنشاء حوار مسكوني رحب مع الآخرين، لا بقصد إدانتهم والتنديد بهم، بل بقصد تلمس إرادة الروح القدس في حقيقة المسيح الأخيرة، وفي كيف يتفق الجميع ويتعاونون ويتحدون في الطاعة والإيمان وفي الرجوع الصحيح الى الأصول.

أن تكون المسيحية حرة بالفعل، لا بالإيهام والادعاء الكاذب، في الشرق الأوسط فقط في لبنان، حرة كما هي حرة في أوروبا وأميركا تماماً، إنّ هذا لأمرٌ في منتهى الخطورة في هذا الزمن. ليتنا ندرك مغزاه، ليتنا ندرك ما هو مطلوب منا بشأنه، ليتنا نعرف ونقدر تعجُّب أرفع النفوس في العالم لمجرد وجوده! مجرد وعيه يوحي بأن لبنان مميّز تمامًا ليس في شؤون تافهة بل في أدق الشؤون وأخطرها. إذا سقطت المسيحية الحرة في لبنان ـ ولبنان آخر معقل لها في المشرق ـ انتهى أمرُها في الشرق الأوسط كله، بل في آسية وإفريقية. هذه مسؤولية لا أجسَم منها ولا أخطر! والموارنة هم المسؤولون الأُوَل عنها أمام العناية الإلهية. هل يعون هذه المسؤولية بالفعل؟ هل يقدرون خطورتها المتناهية؟ هل يفقهون مغزى أنها أوكلت إليهم؟ هل هم مستعدون بالفعل لحملها أمام العناية وأمام التاريخ؟ هل هم قادرون على تحمل أوزار حملها؟ لقد برهنوا حتى الآن انهم قادرون على ذلك. كافحوا في سبيلها وضحوا، ويكافحون الآن ويضحون، ولا شك عندي انهم سيكافحون ويضحون.

المجتمع الحر الحقيقي، الاحترام المتبادل الصادق في مجتمع تعددي، المسيحية الحرة كما هي حرة في أي بلد في أوروبا وأميركا – هذه عطايا ثلاث لا أشرف منها ولا أعظم! كلها أعطيت لنا جميعاً وعلى الأخص للموارنة، أقول “على الأخص للموارنة” لأسباب لا مجال هنا لعرضها. وفي اللحظة التي يعي المسلمون فيها حقاً عظمتها وشرفها وفخارها وقدسيتها يتسابقون مع المسيحيين للحفاظ عليها كأقدس وأثمن وأبهى ما يملكون هم من قيم في هذا البلد، بلدهم، الصغير الكبير. أي قيمة إنسانية أعظم من قيمة الحرية؟ بأي قيمة يكون الإنسان بالفعل إنساناً أكثر منه بالحرية الكيانية؟ سموا هذه القيمة الأعظم، يا ناس، ان قدرتم! ولأن مسلمي لبنان لبنانيون، فالحرية تراثهم الأعز كما هي تراث المسيحيين.

أن يتمكن المسلمون أن يقولوا انهم أحرار تماماً في بلد حر غيرهم فيه أيضاً أحرار، إن هذا اعتزاز من أشرف ما يمكن أن يتباهوا به لو كانوا يدركون. في أي بلد آخر في الشرق الأوسط يستطيع المسلمون أن يقولوا هذا بالفعل والصدق والحق؟ على المسيحيين، وبالأخص على الموارنة، أن يقنعوهم، بوداعة المسيح وبصبر العقل الرصين المسؤول، بهذا الشرف. وهذان الإقناع والاقتناع لا يأتيان إلا في مناخ الحرية الإنسانية الأصيل. وهكذا نرى كيف أن الحرية لا تشتق ولا تستخرج من غير نفسها، ولا تأتي بمثابة نتاج لتوفر عناصر غريبة عنها، بل إنها الأصل والفرع معا، إنها البداية والنهاية. حيث لا حرية من البداية، لا يمكن أن تأتي بالسحر ومن لا شيء في النهاية. فإما أنت حر في صلب كيانك من البداية، وبالتالي كل مظهر للحرية في حياتك يتفجر من حريتك هذه الأصلية، أو أنت عبد في صلب كيانك من البداية، وبالتالي كل مظهر للظلام والعبودية في حياتك ينبع من عبوديتك هذه الأصلية. الحرية نعمة تمنح من فوق، الحرية لا تنال بل توهب، الحرية تقبل بالشكر ولا تدرك بالجهد، الحرية تسري بالعدوى من الأحرار الموجودين.

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​​​​​​​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل