تواصل المصارف إضرابها العام والتوقف عن العمل، إلى أجل غير مسمَّى، تنفيذاً للقرار الذي اتخذته جمعية المصارف، بالإجماع، الاثنين الماضي. علماً أن القرار تضمَّن التأكيد على استمرار المصارف بتأمين الخدمات الأساسية لزبائنها عبر ماكينات الصرف الآلي “ATM”.
قرار جمعية المصارف أتى على خلفية بعض القرارات والاستدعاءات القضائية الأخيرة بحق بعضها، آخرها “فرنسبك”، وتأثيرها على انتظام العمل المصرفي وحقوق المودعين. علماً أنه أبقى الأمور عالقة في مربّع “الغموض والضبابية” لناحية المستقبل.
رئيس مؤسسة “جوستيسيا” المحامي الدكتور بول مرقص، يوضح، في حديث إلى موقع القوات اللبنانية الإلكتروني، “طبيعة القرارات التي تصدرها المحاكم اللبنانية بحق بعض المصارف، وعدد منها صدر عن غرف الاستئناف المدنية في بيروت. فضلاً عن أن قضاء العجلة أصدر أحياناً قرارات اعتبر فيها أن الشيك ليس وسيلة إيفاء مبرئة للذمّة في ظلّ الأزمة الراهنة، إذ ليس بالإمكان قبض قيمته، أو تمكين حامله من فتح حساب مصرفيّ جديد لدى المصارف به، وهو الأمر المتعذِّر حالياً”.
ويلفت، إلى أن “هذا ما جعل المحاكم تعتبر أن الشيك لم يعد يحقِّق الغاية التي أُنشئ من أجلها، وهناك تنامٍ متزايد في الأحكام التي تذهب إلى هذا النحو. الأمر الذي يثير حفيظة المصارف على اعتبار أنها غالباً ما تقفل حسابات أو تسدِّد ديونها بواسطة شيكات، كي تُبرئ ذمّتها من الوديعة التي تُمسكها لمصلحة العميل”، مشيراً إلى أن القرارات القضائية التي عارضت هذا الشكل من الإيفاء، “كانت أحد الأسباب التي من أجلها أخذت المصارف هذا الموقف التصعيديّ”.
لكن مرقص يشدد، على أن “الإشكالية الأساس التي أثارت حفيظة المصارف، تتعلَّق بالملاحقة التي طاولتها من قبل النائبة العام الاستئنافية في جبل لبنان القاضية غادة عون. فالمصارف تعتبر أنه لا يمكنها العودة بمفعول رجعيّ وكشف الحسابات المصرفية، لأن قانون رفع السرّية المصرفية الأخير لم يأتِ صراحةً على ذكر المفعول الرجعيّ، ما قد يعرِّضها للملاحقة القانونية من قبل أي متضرِّر”.
وينوِّه، إلى أنه “لا تزال هناك الكثير من الدعاوى العالقة أمام القضاء والتي تتناول مدى صحّة وقانونية اعتبار الدين قد سقط نتيجة الإيفاء الحاصل بموجب شيكات مصرفية”، مشدداً على أنه “لا بدّ من أجل الخروج من هذه المعضلة القانونية، وإعادة للشيك مكانته كوسيلة إبراء تامّة وكاملة لذمّة المدين، أن يتمّ العمل أولاً على إعادة الاعتبار إلى القطاع المصرفي، لما لهذا من انعكاسات إيجابية على الاقتصاد الوطني والمالية العامة”.
من جهته، يؤكد كبير الاقتصاديين في مجموعة بنك بيبلوس، نسيب غبريل، عبر موقع “القوات”، أن “المصارف ليست هاوية إضرابات وإغلاق، وهي المتضرِّر الأول من الإضراب والإقفال. لكن هذا القرار نوع من إطلاق صرخة بأنه لا يمكن الاستمرار بهذا الجمود والفراغ على الصعيد الإصلاحيّ”.
ويلفت، إلى أن “بيان جمعية المصارف يوضح الأسباب، والمهمّ فيه إلحاحه مرة من جديد على بدء العملية الإصلاحية وإقرار مشاريع القوانين المتعلّقة بالقطاع المصرفي، من الـ(كابيتال كونترول) وإعادة هيكلة المصارف وإعادة التوازن إلى القطاع المالي، وعدم ربطها ببعضها. في حين هناك جهات تصرّ على إقرار مشاريع القوانين هذه في مجلس النواب، في الوقت ذاته”، مشيراً إلى أن “رأي جمعية المصارف واضح، لجهة عدم ضرورة ربط هذه القوانين ببعضها”.
وعن الفترة التي سيستغرقها الإضراب وإلى متى ستستمر المصارف بإقفال أبوابها والاكتفاء فقط بتسيير عمليات الـ”ATM”، وهل من تفاؤل على هذا الصعيد بعد الاجتماع الأخير بين رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي ووفد جمعية المصارف؟ يوضح غبريل، أن “المصارف هي الجهة الأولى المستعجلة لإنهاء الإضراب”.
ويضيف، “لا يجب أن نتوقَّع أن اجتماعاً واحداً سيحلّ المشكلة كلّها، وطالما لم يصدر بيان عن جمعية المصارف هذا يعني أن لا حلَّ ملموساً لغاية اليوم. لكن المباحثات مستمرة بانتظار ما يمكن أن يستجد في الأيام المقبلة”، متسائلاً، “هل المطلوب، على ضوء بعض القرارات القضائية التي تؤخذ، إجبار المصارف على التعامل فقط بـ(الكاش)؟ مؤكداً أن “هذا ما تتجنَّبه المصارف”.
ويشدد غبريل، على أن “هناك مشكلة في عدم وجود إرادة سياسية بإصلاحات جدّية تؤدي إلى إعادة الثقة وتدفُّق رؤوس الأموال إلى لبنان”. ويوضح أن “الحلّ ليس تقنياً فقط، علماً أن ثمة إجراءات تقنية معيّنة مطلوبة وضرورية، لكن جذور الأزمة ليست تقنيّة على عكس ما يقال منذ ثلاث سنوات ونيِّف”، مؤكداً أن “أيّ برنامج إصلاحيّ، يجب أن يكون عنوانه العريض استعادة الثقة، التي لا تتحقَّق من خلال إجراءات تقنيّة فقط، بل من خلال الحوكمة والإدارة الرشيدة”.
ويوضح، أن “المقصود فصل السلطات، واحترام استقلالية القضاء، وتطبيق القوانين، واحترام المهل الدستورية ليس فقط لناحية الانتخابات الرئاسية وغيرها بل لناحية إقرار الموازنات العامة من ضمن المهل الدستورية على سبيل المثال، ومكافحة التهرُّب الضريبي والجمركي، ومكافحة التهريب عبر الحدود بالاتجاهين”.
ويؤكد غبريل، أن “هذه هي الأسس التي تعيد الثقة، ومن بعدها تأتي الإجراءات التقنيّة وتتمّ بشكل سهل. لكن التركيز فقط على تلك الإجراءات وتصوير أنها الحلٌّ السحريّ المنشود، لن يعيد الثقة، لأنه بذلك يتمّ تحوير جذور الأزمة والحلول المطلوبة لها إلى مسائل تقنيّة، هي ضرورية لكن غير كافية”.
أي عملية نسخ من دون ذكر المصدر تعرض صاحبها للملاحقة القانونية