من أجل الحرية والأرض… الموارنة يموتون واقفين

حجم الخط

كتب الأب ميشال الحايك في “المسيرة” – العدد 1737

من أجل الحرية وحتى لا يبقى الشرق نائماً، يموتون واقفين! تغيّرت الظروف السياسية والوطنية والإقتصادية بين مطلع الثمانينات، عندما ألقى المونسنيور ميشال حايك هذه المحاضرة، واليوم. غير أن التحدّيات والمخاطر التي تهدد المارونية لا تزال هي نفسها ويأتي على رأسها خطر انحلالها من الداخل وفقدانها لمكوّناتها وضياع مبرّرات وجودها. لا تخلو ترجمة هذا النص من الفرنسية الى العربية من مخاطرة خيانة أفكار المؤلف نظرًا الى عمق تفكيره وافتقار اللغة العربية لبعض المصطلحات المستعملة.

قال الأب ميشال حايك:

«من البديهي أن كلمة أرض في العنوان تعني لبنان ولكن بدل «الكنيسة المارونية» أفضّل إستعمال «المارونية» حتى لا أستبعد أي وجه من وجوه الحياة والفكر عند الموارنة، هذه الوجوه متعددة ومتنوّعة، وسأتطرق الى أكثرها تأثيراً على تشكيل صورة «المارونية» في خلال القرون الخمسة عشر من تاريخها.

في البدايات ظهرت «المارونية» كطريق قداسة اختطّها المتوحّد مارون وتبعته مجموعة من تلاميذه.

في القرن الخامس، في زمن الإشكالات حول طبيعة المسيح، فرضت نفسها كمدرسة لاهوتية سيطرت على مجمع خلقيدونية وعلى مجمل سوريا الثانية (حسب تقسيم الولايات الرومانية).

في مستهل القرن الثامن ومع تشكيل بطريركية تحوّلت الى مؤسسة كنسية مستقلة، خلال القرون الوسطى، كانت «المارونية» مسيحية بالمعنى الوسيط (Medievale).

بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر، في زمن الإمارة، كانت تجربة خصبة للدولة العصرية.

في زمن المتصرفية (1864-1914) كانت نظرية وحركة سياسية سورية – عربية، أما في ظل الإنتداب الفرنسي والإستقلال، فبدت متماهية مع القومية اللبنانية.

لا يمكن إذن حصر «المارونية» بكنيسة، ولا تبدو أيضًا محصورة بأرض لأنه بالبعد الكوني (universalisme) لإيمانها الكاثوليكي وبانتشارها الجغرافي في القارات كلها، وبتنوّع تعبيراتها الثقافية، تتخطى حدود أي إقليم قومي، المارونية بكل أوجهها تحمل في جوهرها معنى كونيًا. غير أن هذه الثروات كانت لتتبدد من دون شك والشخصية المارونية كانت لتتفكك لولا بقاء نقطة ارتكاز في مكان ما يؤمّن الوحدة ويحافظ على الإلتحام. هذا المركز هو لبنان.

يمكن القول إن انتقال الكرسي البطريركي الى يانوح، في أعالي الجبال المحيطة بجبيل العام 939 م كان بمثابة زواج غير قابل للإنحلال لعلاقة الحبّ التي تربط الماروني والأرض اللبنانية. من هذا الزواج ولد شعب وبلد. لأنه من غير الماروني لكانت الأرض عاقرًا وخاوية ولأنه من غير الأرض، كان الماروني تائهًا من باب الى باب حتى فقدان مكان يقف عليه.

لن أحدثكم عن الشغف الكبير الذي يربط الماروني بالأرض، وفي هذا المجال أكتفي بالقول إنه منذ ألف عام شعلة الحب مّتقدة دائمًا، إن عمليات الأبعاد الجسدية التي فرضها العنف لم تنجح إلا في زيادة الحنين وبتقوية الوفاء.

أولاً: التشابه إذا كان التناغم بينهما كاملاً فلأن التشابه بينهما كاملاً، سأكلمكم في شكل خاص على التشابه الخفي بين التاريخ القديم لهذه الأرض والتاريخ الحديث لهذا الشعب، بين جغرافية الأرض وشخصية الماروني: المصيران كانا مقدّرين للتلاقي والإتحاد التام.

أ‌- مشروع الكونية Projet d’universalisme ما يمّيز تاريخ هذه الأرض، منذ البدايات هو الكونية، هنا، على هذا الشاطئ القارات الثلاث تلاقت: أفريقيا الملتهبة، آسيا الغامضة وأوروبا المصّنعة.

هنا، أكثر من أي مكان آخر، الأعراق تلاقت في مهرجان، بقي منه المجموعات التي تعيش فيه، كمعالم أثرية حيّة. هنا، على هذه الأرض، تمت عبادة أكبر عدد من الألهة، آلهة اليونان وروما التي أضيفت الى أكثر من خمسة آلاف شخصية إلهية اخترعتها الشعوب الساميّة.

ولهذا ليس مستغربًا وبنتيجة حاجة ملحة، أن يكون اللبنانيون الأوائل اخترعوا الأبجدية، أولى أدوات السلام لتأمين التواصل بين المجموعات المتنوّعة.

حَمْل دعوة لبنان الكونية، كان قدر الموارنة.

وهكذا حاولوا منذ البداية، أن يكونوا أوفياء من الزاوية العقائدية والإجتماعية: الوفاء لسوريا التي شكلوا جزءًا منها، الوفاء لبيزنطية التي طبعتهم بثقافتها والوفاء لروما التي يعتبرونها المرجعية العليا للإيمان.

على رغم كل التضحيات، لم ينجحوا في عملية المصالحة الإنسانية والمسيحية، ولكنهم على الأقل حاولوا عند قدومهم الى لبنان أن يصالحوا الأرض مع ماضيها بكامله الذي ينتمون إليه بشكل كامل. كما بحثوا عن شركاء وإقامة عهود مع المجموعات كلها، مسيحية كانت أم غير مسيحية بشرط أن تكون مستعدة لتقبّل التعددية.

لبنان المعاصر ولد من العهود التي تعيد الى الأرض اللبنانية وجهها الأزلي، غير أنهم بدأوا يخسرون رهانهم الأخير، فبعدما خسروا رهاناتهم القديمة على بيزنطية، الفرنسيين والعثمانيين والغربيين والعرب يبقى لهم على الأقل عزاء بأنهم كانوا دائمًا أوفياء لأنفسهم وللأرض.

إلا أن فشلهم على مستوى التعددية السياسية عوّضوا عنه بالنجاح على المستوى الثقافي. نجاحهم الأفضل هو في هذا المجال وفي كل زمن.

مار مارون نفسه كان يتكلم لغتين وفي أي حال رهبان بيت مارون كانوا يتقنون لغتين: كانوا يحتفلون بالليتورجيا باللغة السريانية، لغة إبن الله المتأنس، وكانوا يوقعون الرسائل الرسمية الى البابا أو الى الإمبراطور باليونانية (…) والإلمام بحقول علمية متنوّعة الذي لا نعرف عنه إلا بعض الومضات في القرون الوسطى، بدأ يصبح أكثر وضوحاً مع إنشاء المدرسة المارونية في روما العام 1584 ومدرسة عين ورقة العام 1789.

العلماء المتخرّجون من هذين الصرحين قاموا بعملية نقل ثقافة هائلة لا نظير لها بالإمكانات المتواضعة التي كانت متوافرة، هؤلاء هم الذين كانوا أول من أطلع الغرب على ثروات الشرق وكانوا طلائع النهضة في الشرق.

هكذا نجح الموارنة، قرناً بعد قرن، في بناء الجسور بين الشرق والغرب وفي الحفاظ على التبادل الإنساني على الرغم من المخاوف والصعوبات.

لم يبقوا غريبين عن أي من الثقافات الكبرى لا اليونانية أو السريانية أو اللاتينية أو العربية أو الإيطالية أو الإنكليزية أو الإسبانية أو البرتغالية.

مؤتمرنا هو تظهير لنوع من هذه العنصرة، موهبة اللغات هي من مواهب الروح القدس، والإمتياز الذي أعطاه الخالق للأرض اللبنانية هو أنه وضعها في نقطة التقاء الحضارات والقارات. ومنذ ذلك، كل من يرفض إحدى هذه الثقافات التي من أجلها اخترعت جبيل الأبجدية، يبدو وكأنه ساقط من هويته اللبنانية.

من هذا المنظار الكوني، عبارتا ماروني ولبناني يمكن أن تحل كل واحدة مكان الثانية.

ب-التماثل بين الجغرافيا والإنسان Conformat geohumain. إن الأبحاث المعاصرة في مجال علم النفس توضح المكوّنات البسيكولوجية للشعوب إنطلاقاً من المعطيات الطوبوغرافية.

الأرض المسطحة غالباً ما يقابلها نفسية مسطحة ووعي واضح وأفكار سهلة ومتجانسة. أما الأرض المكوّنة من وديان ومغاور فيقابلها في شخصية الإنسان، لاوعي وبقايا الأنا التي تتشكل من وجود مستتر، في حين أن الجبل يقابله في علم النفس الكائن المثالي (le surmoi) الذي يريد أن يتماثل معه كل إنسان، ويحلم أن يحققه.

طوبوغرافياً، لبنان مكوّن من جبال ووديان، هي جبال معكوسة. وهكذا إنه يمثل العمق والقمة جغرافياً وروحياً أيضًا بالنسبة الى المشرق.

في كل الأزمنة مارس جاذبية قوية على البلدان المحيطة به التي وجدت فيه أوهامها المخيفة وأحلامها المتبلورة. ففي مغاوره الحيّة سرقت نبتة الحياة (إشارة الى أسطورة جلجامش) ومن على قمم حرمون وصنين يستعد الحبيب في نشيد الأناشيد للظهور الى هنا تأتي لتختبئ وتعيش تفتّحها بسكينة، الأرواح العميقة الكبيرة التي تمثل المجموعات الثقافية والدينية الحاملة شتى أنواع القلق والتوق الى المطلق في هذا المشرق الذي يكمّ ويخنق ويكبت.

من بين كل هذه المجموعات، العنصر الأكثر تمردًا هو الماروني القاطن منذ القدم الجبال والوديان الذي لم يخضع لإملاءات الإمبراطوريات، وإن كان دائماً خائفاً منها. إنه يختزن أوهام الباطن وأحلام الكائن المثالي. من هنا هذا الإختلاط لديه بين الحماسة والإحباط، بين الحرمان والإسراف.

ويمكن ملاحظة بصماتها على تاريخه، وعلى مجمل إنجازاته السياسية الاجتماعية، الجمالية ومن خلال بعض رموزه مثل جبران وشربل: الأول مطبوع من النظرة العميقة لقاديشا ويتوق الى الذوبان في الحلولية الكونية، والآخر، شربل، يتابع على القمم مسيرته نحو اللانهاية.

فيهما ترتسم صورة الطبيعة التي أنجبتهما ومنها أنتجوا كل الحب الجنوني والعنف والإفراط. هذا الإفراط نفسه الذي دفع مار مارون الى التعرّض وحيدًا على هضبة من هضاب قوروش (تركيا اليوم) الى مزاج الطبيعة، هو ما دفع شربل الى الصومعة على قمة عنايا، وهو ما دفع الشبان الى تعريض أنفسهم للقتل على الحواجز على هضبة الأشرفية، وهو ما دفع المهاجر الى المغامرة في أصقاع العالم.

طبعاً الأسلوب والظروف يختلفان، غير أنه في كل الأحوال الرجل نفسه الذي يذهب الى نهاية حدود ذاته. الشعب الماروني لا يعرف نفسه إلا من خلال هذا الإفراط، إنه لا يجد مقياسه الحقيقي إلا في الأوضاع الأكثر حدّة، إلا في الذروة، إذ إن أبناء الجبل ورثوا من الجبل قسوته وحدّته (…)

ج- القاعدة والإستثناء:

هناك تشابه أخير بين الماروني والأرض، فهما يشكلان إستثناء للقاعدة، ولكن إستثناء يكسرها. فالقاعدة نظام يتكرر (…) في حين أن الإستثناء هو مجال الإبداع، والمخيّلة والثورة والتجديد والحرية.

في شرق ذا سطح جغرافي رتيب، أحادي الهوية، وثقافة دينية موحّدة وسياسة الرأس الواحد، ليشكل لبنان إستثناء على مختلف الصعد: طوبوغرافياً، إنه البلد الوحيد الذي لا تصل إليه الصحراء والكثبان الرملية، ثقافياً ودينياً وسياسياً هو متنوّع. باختصار، إنه متعدد في كل النواحي وهذه استثنائيته. الموارنة الذين إختاروه كوطن يشكلون مثله ومنذ البدايات، إستثناء.

عقائدياً، لقد كان الماروني الكاثوليكي الوحيد مدة قرون (…) سياسيًا، إنه الوحيد الذي طالب بوطن في حين أن المحيطين به طالبوا دومًا بإمبراطورية بيزنطية، أموية، عباسية، أو عثمانية.

ثقافيًا، يتابع بحثه الدائم عن الحرية الشخصية ضد كل ما هو مطلق (…) هذا المفهوم المزدوج للوطن والحرية أدخله الماروني الى الشرق الذي لم يعرف في خلال خمسة آلاف عام إلا تعاقب الطغيان والفوضى. بكونهم عاشوا على ضفاف العاصي، النهر الوحيد الذي تجري مياهه نحو الشمال، ذهب الموارنة باتجاه معاكس للشرق باتباعهم مجرى العاصي منبع التمرّد.

بمجرد إنشاء بطريركية مستقلة، اقترف الموارنة تمردًا بجرأة غير معقولة، ليس فقط لأنهم اتخذوا بطريركاً من دون اللجوء الى إذن الإمبراطور البيزنطي أو الخليفة الأموي، بل لأنهم رفضوا طلب فرمان تعيين من أي كان.

وهذا الرفض تمسكوا به منذ خلافة الأمويين وحتى السلطنة العثمانية. هذا التصرّف المخالف للقوانين الذي تجدد في خلال 12 قرناً يحدد كفاية طبعهم ومشروعهم وقدرهم.

هذا القدر، كقدر الأرض، كان نزاعًا «أبديًا» للحصول، أو في بعض الأوقات للحفاظ، أو لفرض أو إلزام الآخرين الإقتناع بالحق في الإختلاف. طبعاً، الماروني كان مضطرًا، أو قبل أن يكون مضطرًا، كلبنان، لأن يُطلق عليه إسم آخر غير إسمه. وهكذا قال أو قيل عنه إنه بيزنطي أو فرنسي أو تركي أو سوري أو عربي إلخ…

ولكن النعوت التي أُلصقت باسمه، بإرادته أو بالقوة، لا يمكنها أن تحدد شخصيته الفريدة وغير القابلة للإنتقاص. لم يستطع الماروني أن يتعرف الى نفسه تمامًا إلا من خلال نعت لبناني الذي أصبح مساويًا لاسمه. أصبح يدعى «لبناني» في حين أن أطفاله سيحملون طويلاً، ليس إسم العائلة، بل إسم الأرض والقرية التي أتى منها: بشراني، إهدني، عاقوري، حصروني، إلخ… كما لو كانت الأرض هي شجرة العائلة بالنسبة للموارنة. وبذلك يختلفون بشكل كامل عن الشعوب المحيطة بهم التي ترى الأرض كمرعى لمواشيها، وهي إما يملكها الإمبراطور وإما الخليفة. الموارنة منذ البداية أقاموا علاقات حميمة وقوية مع الأرض، وجلولها ومسالكها وجدرانها. الأرض اختلطت بدمائهم وعرق جبينهم تماماً كما أن مياه قاديشا تشكّلت من دموع التائبين ودماء الشهداء (…)

في خلال قرون، تعلّق الماروني بأرضه فعمل وزرع وبنى كما تذكر الليتورجيا. فكل عمله كان له طعم أسراري ونكهة ليتورجية: الكرمة والقمح لخبز وخمر الإفخارستيا، شجرة الزيتون لصنع الزيوت المقدسة وشجرة التوت لنسج مناديل المذبح وأثواب العرس.

كل شيء لديه كان علامة بالعالم الآخر. منذ ألف عام أرض لبنان كانت المحور الذي يدور حوله قدر الموارنة مع أن الكثيرين منهم لم يبصروا النور فيه ولم يعيشوا فيه (…) ومع ذلك، أينما وجد الماروني بقي موجهًا نحو المركز من خلال الغريزة المزدوجة التي يتحدث عنها علم النفس المعاصر غريزة الموت (libido de la mort) التي يعيده في الواقع أم في الحلم الى حيث أبصر النور كي يموت ويمزج رفاته بالتراب الذي منه شكل وغريزة الحياة التي تدفعه للعودة الى أهله الى أحشاء الأم لكي يستمد الحياة من ينبوعها (…).

إن نهاية الموارنة ستكون بداية نهاية المسيحية المشرقية، ونهاية المسيحية المشرقية تعني الحكم بالموت على كل الإتنيات والمجموعات الثقافية التي تشكل الفرص الفضلى للشرق لكي يستطيع الخروج من القرون الوسطى الجديدة التي يمكن أن يسقط فيها.

باختصار، إن مشروع الإنهاء الجسدي للموارنة أو حتى الإنهاء السياسي والفكري يشكل إعتداء على كل الشرق وبالتحديد على العروبة الإسلامية.

السوء الذي يضربهم حالياً يدور كطائر أسود في سماء الشرق ويبحث عن فرائس جديدة.

المأساة اللبنانية في السبعينات تبدو وكأنها إعادة عامة للكارثة التي ستضرب المنطقة في الثمانينات.

في خلال القرون الثلاثة المنصرمة، اختبر الموارنة في لبنان من أجل كل الشرق كل أشكال الحياة، اليوم يختبرون الموت لكي يظهروا للجميع طريقة الموت التي سيموتونها.

د- الأسطورة والتاريخ بعد قرون من النضال والتضحيات هل سنشهد في النهاية ساعة موت المارونية؟

لكي أجيب على هذا السؤال الخطير، سأستعين بأسطورة أعيد تشكيل عناصرها غير المتجانسة:

بالقرب من بلدة إهمج، قضاء جبيل، هناك نتوء إسمه قرن حفرون. حفرون ونفرون كانا أنصاف آلهة توأمين ولدا على هذه القمة الضيّقة والجرداء. حفرون، كما يشير إسمه، هو الذي يحفر الصخر ويعمل من دون نتيجة ووجد يومًا ميتاً من الجوع والبرد والفقر على صخرته.

أخوه نفرون، كما يشير إسمه، هاجر الى بعيد، نفر، لكي يبحث عن الثروة في مكان آخر، أخذه البحر الى المجهول وضاع طريق العودة أمامه.

كل تاريخ الموارنة في علاقتهم مع أرضهم موجود في هذه الأسطورة. على أرض الآلهة يوجد حفرون، الموارنة المتعلقين بجبالهم التي يحفرونها ويزرعونها متحدّين تقلّب الطبيعة وعدائية البشر. وهناك أيضاً نفرون، الموارنة المهاجرون الذين يغامرون وراء البحار.

كل مسألة المارونية تقوم على إبطال الأسطورة بالتاريخ، على تكذيبها بالواقع، وعلى كسر القدر حتى لا يموت حفرون، الموارنة في لبنان من الفقر في جبالهم ولكي لا يفقد نفرون، الموارنة في المهجر ذاكرة الأرض في مجاهل العالم. حتى الآن مقاومة حفرون واسترجاع نفرون لذاكرته نجحا في تجنّب الأخطار.

ولكن أبعد من الميتولوجيا هناك الإيمان. هنا الماروني لا يتماثل مع طائر الفينيق ولا مع أدونيس، بل مع المسيح الذي بيع وسلّم وصلب ونزل الى الجحيم من حيث يصعد دائمًا الى سماء الشرق كشهود للمسيح في هذا الشرق الذي شاهد آلامه، الموارنة يحملون في جسدهم علامات موت المسيح التي هي أيضًا علامات قيامته.

سيتابعون مسيرة درب الصليب حتى يموت الشرق عن نفسه، عن مغالطاته التاريخية، عن أوهامه عن قدريته، وحتى تقوم من بين الأموات سحنة رجل جديد على أرض جديدة. لفشل ونجاح الموارنة إذن معنى أبعد من إطار جماعتهم وحدودها الجغرافية. من خلال قدرهم، سيتحطم أو يتحقق قدر الإنسان في هذا الشرق. إما يكون الشرق حرًا أو لا يكون.

من خلال الحرية جسّدوا القضية وحملوا مشعلها منذ أكثر من ألف عام، في حين أن الشعوب المحيطة بهم انحنت.

من أجل الحرية، أمس واليوم، فضّلوا أن يموتوا واقفين حتى لا يبقى الشرق نائمًا عند أقدام الأباطرة والخلفاء الذين يا للأسف لا ينتهون.

هـ – مساحة الحرية على رغم كون لبنان نقطة الإرتكاز أو نقطة البيكار للإنتشار الماروني، فإن ذلك لا يعني أن المارونية تنحصر بين النهر الكبير ورأس الناقورة، وطبعًا بين نهر الموت وجسر المدفون. نحن الموارنة المهاجرون الآتون (الى المؤتمر الماروني) من كل بلدان العالم، نشهد أن مساحة الموارنة هي أرض البشر. وهذا ينسحب أيضًا على المستوى الروحي: القديسون الذين أنجبهم الموارنة هم رسل الى العالم، من مارون الى شربل، هناك تأكيد على أولوية بطولة الروح.

وكذلك ينسحب على المستوى الثقافي. فالمفكرون تيوفيليوس من الرها الى السمعاني، الى الحاقلاني الى جبران هم منارات اتقدّت في بغداد وروما وباريس وبوسطن وأناروا طرق تلاقي الحضارات والثقافات.

وسياسيًا، لم يرغب الموارنة الإنغلاق في بيت قومي خاص، بل إن ورثاء أنطاكية وسائر المشرق مدوا يدهم دومًا الى البيزنطيين والعرب والفرنسيين، وفي وقت لاحق الى الطوائف غير المسيحية، الدروز والشيعة والسنّة لبناء مساحة البطريركية الأصلية إما في شكل سوريا الكبرى أو الهلال الخصيب أو للبعض أيضًا على امتداد يضم شبه الجزيرة العربية. لتحقيق مشاريعهم الطموحة، أحيوا اللغة وجدّدوا المجتمع وأعملوا أدوات الحداثة. فاستنبطوا نظريات القومية العربية والوطن العربي وهكذا اخترعوا، من أجل خدمة الإيديولوجيا العربية، الأسلحة التي يقاتلون بها الآن.

لقد فشلوا في تحقيق مشروع الشرق الحر، والمتعدد والعلماني والمؤمن، ولكنهم على الأقل تمكنوا من أن يُنشئوا في لبنان مختصرًا عن الشرق.

في الواقع لبنان استقبل ويستقبل كل إتنيات الشرق: اللاجئون من المجازر، الأرمن، اليونانيون، الآشوريون، السريان، الأكراد والفلسطينيون، وجميع هؤلاء يتمكنون من تأكيد شخصيتهم ويمارسون حريتهم فيه.

لأن لبنان تمّكن أن يكون رمز الكونية، بدا للماروني بأنه بالقدر الذي يصبح لبنانيًا بالقدر الذي يحقق ما يربط قدره وقدر أرضه بالكونية.

غير أن لبنان – الرمز اليوم ممزق كدولة وكأرض، وها إن الموارنة يجدون أنفسهم مدفوعين الى قساوتهم الأصلية، وحيدين متروكين من الدول العظمى كما في زمن هجرتهم الى أرضهم الموعودة.

ما أفادهم أن يكونوا قريبين من الغرب أو عربًا أو حتى لبنانيين؟

يجدون أنفسهم اليوم غائصين في عصورهم الأولى الى هويتهم الأصلية «موارنة بس» على بطاقة هويتهم، ليس هناك إلا إسمهم متحرّر من كل الإضافات والألقاب المبهمة والوهمية.

إنهم يشعرون بأنهم أقل ثقلاً وقدرة على تسلّق لبنان الى أعلى قممه حيث يمكنهم تنشق الهواء النقي. سيكتشفون «فلسفة العراء» التي استنبطها مار مارون كما يقول كاتب سيرته تيودوريتس القورشي، سيكتشفون وطنهم الحقيقي الذي هو قبل كل شيء مساحة روحية.

قديسوهم وشهداؤهم يدعونهم الى هناك ويذكّرونهم بقول الإنجيل «الذين يرثون الأرض هم المدعوون الى ملكوت الله»، الأرض هنا رمز لملكوت الله الذي يشكل الإيمان الباب له.

عندما يتعرّضون للقتل من أجل أرضهم، الموارنة لا يدافعون في النهاية عن إرث مادي بل ما يمثله هذا الإرث وما يرمز إليه.

من دون الرموزية الأرض المادية قشرة زائلة.

الموارنة عرفوا دائمًا أن لبنان جميل بشكل خاص من جرّاء حقائقه الروحية، وإفراغه من هذه القيم ليس إلا صخرة ناكرة للجميل..

«المارونية» مشروع حرية يشكل لبنان رمزًا له، على مدخل القارات الثلاث التي شكلت العالم القديم، كما أن تمثال الحرية يشكل رمزًا للحرية على مدخل العالم الجديد.

في السابق، كان يأتي من الغرب من يساعد على إعادة نصب التمثال، اليوم تقع على عاتق الموارنة المهاجرين مسؤولية، الحلول مكان العالم الحر المتداعي في عملية إعادة لبنان كرمز للحرية الى موقعه على مفترق طرق الأمم.

قد يُقال بعد كل شيء إننا نتكلم عن شعب صغير عدد سكانه أقل من عدد سكان حي في نيويورك، وأرضه أصغر من أراضي بعض المزارعين في تكساس. هذا صحيح من زاوية الكمّ والعدد والمساحة، أما من زاوية القيم ليس صغيرًا البلد الذي أعطى الأبجدية الأولى على الأرض، وليس صغيرًا الشعب الذي أرسل القديس الأخير الى السماء.

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​​​​​​​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل