يؤخذ على “القوات” أنها في مواقفها تحمل “السلّم بالعرض” إلى حد المغالاة أحياناً. وفي حين يعترف لها البعض بواقعيتها السياسية وبراغماتية رئيسها، يدرك الكل أنها تمارس السياسة وفقاً لسلّم قِيَم ومبادئ، من دون الغرق في الطروحات المثالية العبثية البعيدة عن الواقع. ففي السياسة، التمسك بالمبادئ ليس طوباوية، تماماً كما أن الواقعية ليست تنازلاً ولا خذلاناً شرط ألا تمس بالأسس التي يقوم عليها الطرح والبرنامج السياسي.
نعم، نحمل السلّم بالعرض، لكنه سلّم لا مناص منه لصعود اللبنانيين من واقعهم الأليم باتجاه كيان حر مستقل ودولة سيّدة حديثة تملك القرار وترسم الاستراتيجية العامة للدولة.
في ما يلي بعض قناعاتنا الوطنية المصنفة من قبل البعض في خانة المغالاة:
أولاً، لا قيام للدولة بوجود ميليشيا مذهبية مسلحة مرتبطة استراتيجياً بإيران وتنتهك السيادة الوطنية بحجة مقاومة إسرائيل وممانعة مشاريع “أمريكا” في المنطقة. ميليشيا خارجة عن القانون، تتبع لفيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني وتقاتل ضمن صفوفه في سوريا والعراق واليمن. ميليشيا تنتمي لمحور إقليمي ـ دولي وتعمل على زعزعة الأمن القومي العربي عبر الخلايا الأمنية وتهريب المخدرات.
ثانياً، لا امكانية لحوكمة رشيدة وإدارة منتجة بوجود مجموعة فاسدة في السلطة التنفيذية. لا يمكننا بعد اليوم التعايش على طاولة واحدة مع وزراء يمثلون المافيا والميليشيا. لقد كان عهد الرئيس ميشال عون نموذجاً لفشل سلطة تحالف عون ـ الثنائي أمل وحزب الله وحلفائهم. لقد فشلوا بإدارة البلد السياسية والاقتصادية، وكانت النتيجة إفلاساً وعزلة عربية ودولية وانهيارات على كافة المستويات.
آن الاوان ليكون هؤلاء خارج السلطة إفساحاً في المجال أمام غيرهم لإنقاذ البلد بعدما خربوه. إذ لا يمكن لعربة أن تقلع فيما تجرها أحصنة من الامام وأحصنة أخرى من الخلف، وفق تعبير البطريرك مار نصرالله بطرس صفير رحمه الله. فكيف ذلك وبعض الأحصنة من نوعية رديئة أصلاً؟
ثالثاً، لا يجوز في ظل الأزمات العالمية وبعد ما مررنا به من انهيار إقتصادي ومالي وثورة شعبية وتفجير لمرفأ العاصمة، التعاطي مع مؤسسات الدولة بمنطق البقرة الحلوب والمحاصصة واقتسام مواقع النفوذ وكأنما الدولة غنيمة حرب عند حزب أو طائفة. لا يمكن للادارة أن تستمر بحجمها ونوعيتها الحالية. لذا يجب تطهيرها من تخمة التوظيف السياسي والمحسوبيات والاحتفاظ فقط بالموظفين الكفوئين والمنتجين بعد الاستغناء أقله عن نصف عديدها.
رابعاً، لا يمكن لثنائي أمل ـ الحزب الاستمرار بمنطق السيطرة على مؤسسات الدولة والتحكم بإداراتها من خلال تحكمه بتعيينات مفصلية وخاصة استئثاره بتعيين وزير المال والمدعي العام المالي ورئيس ديوان المحاسبة كي لا نذكر إلا القليل. سياسة قضم مواقع الدولة مذهبياً لا تبني دولة بل مزرعة عشائر تنهش من لحم بعضها البعض الى ما لا نهاية.
خامساً، نعمل بكل قدراتنا للإتيان برئيس للجمهورية من الخط السيادي والاصلاحي. رئيس غير فاسد ويملك ما يكفي من الوعي والحكمة والعلم وحسن الحوكمة والإدارة. سنمنع بكل قدراتنا مجيء رئيس موال لحزب الله وبشار الأسد لأن أي رئيس محسوب على هذا المحور يعني استمراراً للأزمات والإفلاس والنهب والمصائب والعزلة والفقر والتعتير. كيف لا وهذا الفريق موجود في السلطة أحادياً أقله في السنوات الثلاث الأخيرة وواقع حال اللبنانيين يخبر عن انجازاته وبرنامجه وطريقة حكمه.
سادساً، علينا جميعاً احترام الدستور. هو الناظم للحكم الرشيد وإلا تحولت مواقع الدولة الى سلطات استنسابية تعسفية. المؤسسة الدستورية الأم أي مجلس النواب هي صانعة القوانين وتسهر على حسن تطبيق الدستور، وعلى رئيس البرلمان والنواب الالتزام بمواده ومقتضياته. فوفق المواد 49 و74 و75، المجلس النيابي اليوم هو هيئة انتخابية لا اشتراعية ويمنع عليه التشريع قبل انتخاب رئيس للجمهورية. كذلك وفقاً للدستور تمارس الحكومة مهامها في النطاق الضيق لتصريف الاعمال ولا تجتمع إلا للضرورات القصوى ولأسباب وطنية مهمة وطارئة.
سابعاً، إذا أصرّ حزب الله على معادلة “الفراغ أو وصول مرشحه إلى رئاسة الجمهورية”، واذا استمر بسلاحه ومشروعه وسلبطته وأخذه البلد رهينة لمصالح محور إيران واستراتيجياتها في المنطقة، فمعنى ذلك أننا وصلنا معه الى نهاية الطريق. إن نموذج الحشد الشعبي والحرس الثوري والبعث، أي وجود إطار مسلح إلى جانب الدولة الشرعية ويهيمن على مؤسساتها، هو نموذج مرفوض. كما أن النموذج الاقتصادي ـ الاجتماعي المطبق في كوريا الشمالية وفنزويلا وإيران لا يشبه لبنان لا شكلاً ولا مضموناً.
ثامناً، يخطئ من يختزل الصراع اليوم على أنه تنافس بين المسيحيين أو بينهم وبين المسلمين. إنها مواجهة شرسة دفاعاً عن هوية لبنان وسيادة دولته ونمط عيشه ضد من يريد تحويله إلى ولاية تابعة لحكم الملالي في إيران. الكلام عن إعادة النظر بالتركيبة وحتى في صيغة الحكم انما هو نتيجة تعطيل الحلول من قبل حزب الله ومحاولات فرض استراتيجيته على باقي اللبنانيين. يُعيب على الآخرين مجرد البحث في تطوير النظام في حين يطبق في مناطق نفوذه فدراليته العسكرية والأمنية والمالية والمصرفية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
إلى متى المعاناة؟ يسأل اللبنانيون. وهل بالامكان الاستمرار بهذا الوضع السياسي والاقتصادي وبهذه البنى التحتية للمجتمع بغياب دولة فعلية، وبظل عدالة مسيّسة وإدارة مهترئة ولا مساواة في الحقوق والواجبات بين مواطن وآخر وبين منطقة وأخرى؟
هل يقتنع الجميع بالعودة إلى مشروع الدولة سبيلاً وحيداً للخلاص أم أنه آن أوان الحوار الجدي والصريح للفصل النهائي بين لبنان الدولة ولبنان الولاية؟
المواجهة مستمرة. ونحن الذين حملنا صليب لبنان الكبير على أكتافنا دفاعاً عن وجوده واستقلاله لن يضيرنا اليوم حمل السلّم بالعرض إيماناً بمبادئ ومسلمات وقضية دفعنا من أجلها دماً ودموعاً وتضحيات كثيرة.