في خضم انشغال العالم بالنتائج الكارثية لزلزال شرق المتوسط الذي ضرب سوريا وتركيا، وفي سياق مراقبة الأحداث وتحليل معطياتها من خلال المواقف السياسية التي تطلق من أكثر من دولة ورئيس ومسؤول سياسي وحكومي بات إلى حد كبير مشروعاً السؤال عن التداعيات الجيو سياسية لهذا الزلزال إن صح هذا العنوان خصوصاً أن ثمة اختلاط وثيق ﻻ بل رابط وثيق بين بعض ما يحصل على ارض لإغاثة وبين المعطيات السياسية التي تتحكم بالمنطقة المنكوبة من تركيا الى سوريا.
لمزيد من الوضوح قد يكون منطقياً جدا السؤال الذي يطرح اليوم حول إمكانية حدوث خلط أوراق جديد وتغييرات جذرية في المشهد السياسي والاستراتيجي في هذه المنطقة إثر وقوع هذا الزلزال.
في التاريخ شواهد كثيرة عل تغييرات سياسية أعقبت وقوع زلازل وكوارث طبيعية لا مجال للتبحر فيها في هذا المقال، لكن ما يميز زلزال شرق المتوسط هذه المرة انه يشبك أكثر من معادلة إقليمية ودولية انطلاقاً من معطيات الواقع الجيو سياسي المتحكم بنهاية المطاف بالحسابات السياسية والتموضعات الاستراتيجية والتداعيات التي تتظهر مع الساعات والأيام.
أولى هذه التداعيات تركية داخلية، إذ يبدو من الأخبار والمعلومات أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تعمد منذ اللحظات الأولى على وقوع الكارثة، الظهور على ساحة المعالجات والإغاثة وإدلائه بأكثر من تصريح الى الإعلام المحلي والدولي في محاولة منه لتحسين صورته في وجه معارضيه عشية معركة انتخابية صعبة وفي ظل استطلاعات رأي أجمعت في الآونة الأخيرة على تدني شعبيته. وقد أدى تصرفه هذا الى إحراج معارضيه الذين ﻻ يمكنهم علناً انتقاده على مبادراته الميدانية وحضوره المستمر والمتواصل في ساحات الكارثة ما يمكن أن يزيد من رصيده على حسابهم وﻻ يمكنهم السير مع تأييده لما لذلك من تأثير على قواعد المعارضة.
تركيا سبق لها وان عرفت تداعيات سياسية كبيرة جراء زلازل أو كوارث طبيعية كما حصل في العام 1999، إذ سقطت حكومة بولاند اجاويد في صناديق الاقتراع نتيجة زلزال ذاك العام وصعد نجم أردوغان ومعه حزب العدالة والتنمية ذات التوجه الإسلامي في بيئة تركية “كمالية” علمانية ابعد ما كانت عن الدين، ما ساهم في وصوله الى الحكم في العام 2002.
من هنا يبدو أن المعركة الانتخابية في الداخل التركي متجهة حالياً والى أمد قصير نحو التهدئة لكن من دون إغفال الموضوع الثاني الملتهب في تلك المعركة ذات العلاقة بالملف الإقليمي ألا وهو مسـألة النازحين السوريين في الأراضي التركية والتي تشكل منطلقاً آخر أمام المعارضة لمهاجمة سياسات أردوغان.
ثاني هذه التداعيات للزلزال، تموضع تركيا في المسائل الإقليمية المحيطة بها والمؤثرة مباشرة على وضعها: وهنا يبرز عاملان أساسيان: العامل الكردي والعامل اليوناني القبرصي.
العامل اليوناني يتمثل بالتوجه الذي أملاه الزلزال الى التهدئة مع اليونان وقد سارعت الحكومة اليونانية التي كانت منذ أسابيع في حالة حرب دبلوماسية شرسة مع أردوغان تنذر بعواقب وخيمة، الى مد يد المساعدة والإغاثة للأتراك وإرسال المساعدات الإنسانية والدعم اللوجستي ما سيخلف وضعاً جديداً بين البلدين من شأنه تسهيل حل الخلافات بينهما.
وبالأمس، أطلقت أنقرة في أول إشارة إيجابية على لسان وزير خارجيتها تجاه اليونان بموضوع استعداد تركيا للتطبيع معها، ما يشي بتغيرات جديدة في مشهد العلاقات المتوترة بين البلدين.
أما العامل الكردي وهو الأكثر تعقيداً والمرشح اكثر من سواه في إحداث تغييرات جذرية في الحسابات والمعادلات، فقسم كبير من المنطقة المنكوبة تقع تحت سيطرة الأكراد ﻻ سيما منظمة “قسد” الكردية، التي تعتبرها أنقرة حتى الآن منظمة إرهابية وخطراً داهماً على الأمن التركي، في حين تصر واشنطن على تلك الورقة الكردية طالما هناك تهديد إرهابي لمصالحها في المنطقة ﻻ سيما في سوريا الأمر الذي من شأنه أن يعيد طرح المسألة الكردية على بساط البحث من جديد بضغط أميركي على أنقرة خصوصاً أن الأتراك لا يزالون لغاية الآن يرفضون الدور الأميركي المتعاون مع الأكراد شمال سوريا.
فالوضعية التركية اليوم وبعد الزلزال قابلة للتغير لا سيما أن أنقرة تدرك مدى التداعيات الخطيرة التي يمكن أن تتعرض لها من الأميركيين وهي لا تزال عضواً فاعلاً في حلف الناتو، وبحيث أن الأميركيين وانطلاقاً من حرب أوكرانيا بحاجة ماسة إلى “ضب” الحلفاء وتنظيم صفوفهم وراءها الأمر الذي قد يجبر أنقرة على الموافقة على نوع من المهادنة مع الأكراد في مرحلة أولى تمهيداً لإيجاد صيغة تعايش مع الأمر الواقع، تماماً كما تعايشت ولو على مضض مع إقليم كردستان العراق الى الآن.
وبالتالي، وانطلاقاً من هذه المشهدية قد تكون المنطقة عشية تدخل أميركي مباشر في إعادة صياغة جديدة للمنطقة قد تذهب الى حد الانفتاح على النظام السوري ولو جزئياً وقد بدأت مؤشرات هذا الانفتاح مع استعداد واشنطن لرفع جزئي للعقوبات على نظام دمشق إن كان من شـأن ذلك تسهيل عمليات الإغاثة وإيصال المساعدات الى المناطق السورية المنكوبة.
من هنا أيضاً الملاحظة أن تركيا مضطرة للمساعدات الإنسانية لإقليم هاتاي على الرغم من وجود الأكراد فيه وعلى الرغم من أنه ﻻ يزال مسرحاً لعمليات عسكرية مستمرة منذ بدء الحرب الأهلية في سوريا.
ومن المعلوم جغرافياً واستراتيجياً أن لواء اسكندرون امتداد طبيعي لمحافظة حلب السورية منذ الانتداب الفرنسي وحتى دخول الأتراك الى الإقليم في أواخر الثلاثينات من القرن الماضي وقد تغير اسم اللواء من اسكندرون الى اسم هاتاي حيث مسرح الزلزال الحالي، وحيث العنصر الكردي حاضر بقوة فيه ما سيؤثر إيجابياً على العلاقات الكردية التركية وقد يكون تمهيد لإعادة خلط أوراق في المنطقة مع تراجع العداء التركي الكردي إن استمر التعاون الذي أملاه الزلزال بتداعياته خصوصاً أن للأكراد تأثيراً كبيراً في الانتخابات التركية ما يمكن أن نشهد معه تطوراً في العلاقات بين أنقرة والأكراد شمال سوريا، الأمر الذي قد تسهله واشنطن إن رأت أن هذا التقارب يفيدها وهو حتما يفيدها بالدرجة الأولى لأنه ينقذ ماء وجهها تجاه الأكراد الذين اتهموها مؤخرا بالتخلي عنهم رغم الخدمات التي كانوا وما زالوا يقدمونها لواشنطن في حربهم ضد داعش والمنظمات الإرهابية شمال سوريا والعراق.
آثار زلزال شرق المتوسط اذاً ﻻ يبدو أنها ستقتصر على الإنسانيات والماديات والاقتصاد، بل ستتعداها الى تغير الأولويات وسقوط حكومات وصعود أخرى وتغير السياسات الخارجية وما حصل يمكن أن يطيح بحكومة الرئيس أردوغان وحزبه ويدفع بالأميركيين الى المزيد من التدخل المباشر في ملفات المنطقة قد يصل الى حد التدخل العسكري.
الرئيس أردوغان الذي وصلت به متطلبات فوز حزبه في الانتخابات حد الانفتاح على نظام دمشق، أثارت حفيظة السوريين المعارضين لبشار الأسد وأعطت المعارضة التركية سلاحا إضافياً لانتقاده، يراهن على إعادة اللاجئين السوريين إلى سوريا كحل لمسألة تلقي أثقالها على المعركة الانتخابية إسكاتاً لصراخ المعارضة له في تركيا ضده وإنهاء للخطر الكردي الذي يشكل خطر على الأمن القومي التركي إن تمكن من إقناع نظام دمشق بدعم روسي من مساعدته في حل مسألة اللاجئين فموسكو يهمها في هذه المرحلة دعم أردوغان في مقابل خدمات وسياسات ناجحة يتولاها الرئيس التركي في الملف الأوكراني وملف التموين العالمي من موانئ أوكرانيا وعبر المضائق التي تديرها أنقرة.
زلزال 6 شباط 2023 غيّر الكثير من الأولويات بحيث أن الانتخابات التركية باتت أمام تحدي مختلف عما سبق على أشهر طويلة مقبلة ألا وهو مقياس مدى نجاح أردوغان في إدارة ملف آثار الكارثة. فالناخب التركي قد يصوت ضد حزب الرئيس التركي إن فشل في إدارة هذا الملف ولا يجب أن نستبعد احتمالية تأجيل الانتخابات التركية في ظل تآكل البنية التحتية جراء الزلزال علماً أن الانتخابات تبدأ في شهر أيار المقبل برلمانياً ومن ثم رئاسياً.
الأكيد أن خطط أنقرة بمهاجمة مناطق شمال سوريا لضرب الأكراد لم تعد أولوية واردة لأشهر خصوصاً مع تزايد الضغط الأميركي الغربي عليها بالتزامن مع تراجع الاهتمام بلقاء الأسد مع تراجع ملف النازحين السوريين الى مرتبة متدنية أمام أولوية معالجة تداعيات الزلزال مع تأجيل الانتخابات إن حصل.
كما أن الأسد بدوره لم يعد باستطاعته قبول عودة آلاف اللاجئين من تركيا مع النكبة التي خلفتها الكارثة على الأراضي السورية شمالاً وحصول موجة تهجير ونزوح جديدة نتيجة الزلزال.
ففي ظل كل هذه الحسابات نرى أن ما قبل زلزال 6 شباط لن يكون أبداً كما ما بعده، فالمنطقة تبدلت حساباتها ومعها خارطة الأولويات والمعادلات الجيو سياسية.