ما هو أخطر من السلاح؟!

حجم الخط

إنّ التركيز المتواصل على ازدواجية السلاح بين سلاح الدولة وسلاح الثورة الإسلامية ضروري من زاوية إعاقة هذه الازدواجية لقيام دولة فعلية وطبيعية، لكنه غالباً ما يُهمل إشكالية لا تقل خطورةً عن السلاح ويستحيل قيام الدولة معها.

الانقلاب على اتفاق الطائف بدأ مع التخلي الدولي والعربي عن لبنان وتسليمه للنظام السوري، وتواصلَ مع عدم تطبيق هذا الاتفاق بشقه السيادي من خلال استثناء “حزب الله” من تسليم سلاحه بحجة مقاومة هي كناية عن مشروع خاص يتعلّق بالحزب ومرجعيته الإيرانية، ولكن في موازاة هذا الجانب وضع المحور الممانع بمرجعيته السورية في المرحلة الأولى خطة مُسدسة الأبعاد لإمساك النظام السياسي بنيوياً بما يحول دون خسارته الورقة اللبنانية في حال حصول أي تبدلات وتحولات خارجية، وذلك بمعزل عن جيشه وجيش “حزب الله”:

البعد الأول: الإطباق على الإدارات كلها بموظفين معيارهم الأول الالتزام بأجندة مَن عَيّنهم، فتصبح الإدارات ممسوكة من خارج الدولة، كما الإمساك بمفاصل الإدارات الأساسية العسكرية والأمنية والقضائية والمالية والإدارية من أجل ان تصبح بخدمة القرار السياسي الممسوك من الممانعة.

البعد الثاني: إقرار قانون التجنيس سعياً إلى تبدلات ديموغرافية تُسرِّع في ضرب التوازن وتخلق وقائع على الأرض تتحكّم بمسار الحياة السياسية، فضلاً عن اختراقات مناطقية مدروسة لتغيير هوية الأرض بالتزامن مع العمل على تغيير هوية الجمهورية اللبنانية.

البعد الثالث: رفض تطبيق اللامركزية من أجل التحكُّم بكل تفاصيل حياة اللبنانيين وإبقاء الملفات الحياتية المتعلقة بالكهرباء والمياه والنفايات والاتصالات وغيرها مرتبطة بالدولة المركزية خلافاً لكل منطق وأصول معتمدة عالمياً، حيث ان الهدف في نهاية المطاف تسهيل حياة الناس وليس تصعيبها وتعقيدها او تحميل فئة أوزار فئات أخرى.

البعد الرابع: استخدام سلاح الفيتو المذهبي في انقلاب على الدستور وميثاقه، لأن الميثاقية في لبنان هي بين المسيحيين والمسلمين وليس بين مذاهب الفريقين، والرئيس فؤاد السنيورة هو الوحيد الذي لم يخضع لسلاح الفيتو المذهبي ولم يعلِّق عمل حكومته الأولى بسبب استقالة لون مذهبي منها انطلاقاً من انّ الميثاقية هي مسيحية وإسلامية وليست مذهبية، فيما الرئيس نجيب ميقاتي رفض الدعوة إلى اجتماع لحكومته عندما عَلّق اللون المذهبي نفسه مشاركته في الحكومة من أجل إرغامها على اتخاذ قرار مخالف لدورها بكفّ يد القاضي طارق البيطار، واي خضوع للفيتو المذهبي يعني نسفاً للدستور وميثاقه والانتقال عمليا من الشراكة المسيحية-الإسلامية إلى المثالثة من دون الحاجة إلى إقرارها دفتريا ودستوريا.

البعد الخامس: الإصرار على مَذهبة الحقائب الوزارية خلافا للدستور الذي لا يخصِّص المذاهب بحقائب، وهذا الإصرار ليس بالصدفة طبعاً، إنما في سياق سياسة القضم والمثالثة ووضع الدولة تحت سيطرة هذه الفئة، وأصبح اي رئيس للجمهورية والحكومة أمام تحدٍ حقيقي، حيث ان موافقتهما على مذهبة الحقائب الوزارية يعني ضرب صدقية الحكومة قبل ان تولد واستمراراً للممارسة المخالفة نفسها للدستور وتكبيل الحكومة من داخلها وتقييد عملها.

البعد السادس: الإمساك بالحدود البرية والبحرية والجوية في سياق ربط بيروت بطهران، فلا المجتمع الدولي طبّق القرار 1701 وأولويته مسايرة قوى الأمر الواقع خوفاً على جنوده وعناصره، لأنّ الممانعة تعتبر الحدود الجنوبية هي حدود إيران مع إسرائيل، ولا الدولة اللبنانية قادرة على الإمساك بالحدود مع سوريا لأن الممانعة تعتبرها جزءا من الخط الاستراتيجي مع طهران، والمطار والمرفأ حدِّث ولا حرج، فيما ممنوع إنشاء مطارات أخرى كونها لن تكون خاضعة للممانعة، فيما من البديهي إنشاء مطارات تسهيلاً لأوضاع اللبنانيين.

وتأسيساً على كل ما تقدّم، فأي رئيس جمهورية واي رئيس حكومة واي حكومة ستتمكن من وقف هذا الانقلاب المتمادي على الدستور والدولة في كل المجالات والقطاعات، خصوصاً ان الدولة ممسوكة بقرارها الاستراتيجي المتعلِّق بالحرب والسلام والدفاع من جهة، وممسوكة من عمقها وقلبها من جهة أخرى؟

ولا شك انّ الفريق المُمانع استفاد من الجيش السوري في المرحلة الأولى وسلاح “حزب الله” في المرحلة الثانية من أجل خلق وقائع سياسية وعسكرية وأمنية وقضائية وإدارية تجعل الدولة ممسوكة من خارج مؤسساتها، والسلاح هو الوسيلة للإمساك بكل مفاصل الدولة، ولكن هذا السلاح لا يستخدم سوى في الحاجات القصوى كما حصل في 7 أيار 2008، وبالتالي ما هو أخطر من السلاح يتمثّل في ان الفريق الممانع أصبح يتحكّم بكل تفصيل في الدولة من دون الحاجة إلى استخدام سلاحه، بدءاً من الحدود المشرّعة لحساباته الإقليمية، وصولا إلى إقفال مجلس النواب غب الطلب والتحكُّم بالرئاسات وطريقة تأليف الحكومات، وما بينهما وضع اليد على السياستين الداخلية والخارجية، ما يعني السيطرة على القرار السياسي من فوق بواسطة الرئاسات والحكومات، والسيطرة على تركيبة الدولة من تحت عن طريق التحكُّم بإداراتها وأجهزتها. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل ستتمكّن السلطات الدستورية المنتخبة (رئيس الجمهورية) والمكلفة (رئيس الحكومة) والمؤلفة (الحكومة) من وضع خطة إصلاحية في ظل الإطباق الشامل على الدولة كلها؟

فما هو أخطر من السلاح انّه وظِّف واستُخدم للسيطرة على جسم الدولة من داخله، ولم يعد فريق السلاح بحاجة لاستخدام سلاحه لتعطيل قرار معيّن، إنما يحصل هذا التعطيل بشكل تلقائي، واي توجُّه إصلاحي سيصطدم بالعوائق المزروعة والموضوعة لإبقاء الدولة تحت السيطرة، ما يعني ان اللبنانيين أمام مشكلة سلاح أصحابه ليسوا في وارد تسليمه للدولة، وأمام مشكلة ان الدولة أصبحت ممسوكة بكل مفاصلها العادية والاستراتيجية من فريق السلاح، وبالتالي لم تعد المسألة تحييد السلاح عن مسار الدولة، أو ترحيل ملف السلاح والتركيز على الإصلاح للخروج من الانهيار، لأنّ منظومة 13 تشرين 1990 و8 آذار 2005 تسلّلت إلى جسم الدولة كله.

وقد سادت وجهة نظر بعد انتفاضة الاستقلال مفادها استرداد مواقع الدولة التي تأتمر بفريق 8 آذار، ولكن الانقلاب الذي مارسه هذا الفريق ما قبل اتفاق الدوحة وما بعده مَكّنه من ان يوسِّع تغلغله داخل جسم الدولة، خصوصا بعد ان اصطدم بواقع انّ خروج الجيش السوري من لبنان أخرجَ جزءا من هذا الجسم من دائرة التأثير المُمانِعة، فاعتمد سياسة الفيتو ومن ثم الثلث المعطِّل لتعطيل أي قرار لا يتناسب مع سياساته، وعلاوة على ذلك يُمسك برئاسة المجلس النيابي ويسعى لرئيس جمهورية من صفوفه ويعمل على تحييد رئيس الحكومة ولن يوافق على تأليف حكومة لا يضمن فيها حقيبة المال وقدرته على تعطيلها، فضلاً عن إمساكه بالحدود ومرافق الدولة وقطاعاتها وأي مؤسسة خارج سيطرته لديه القدرة على تعطيلها.

وما تقدّم لا يعني انّ على الفريق الخصم للمانعة الخروج من الدولة، إنما على العكس عليه ان يُضعاف حضوره داخلها رئاسيا وحكوميا ونيابيا وعسكريا وأمنيا وقضائيا وإداريا بهدف منعها من استخدام الدولة لتصفية الحسابات مع هؤلاء الخصوم، ولكن كل ذلك يعني ان الرهان على التغيير من داخل الدولة شبه مستحيل ما لم تُرفَع قبضة السلاح التي تمكِّن المنظومة من مواصلة تغلغلها والسيطرة على الدولة المسمّاة عميقة، وهذا يعني ضرورة مواصلة ربط النزاع مع الممانعة من داخل الدولة من جهة، والبحث جدياً عن مخارج وحلول أخرى من جهة ثانية.

المصدر:
صحيفة الجمهورية

خبر عاجل