“كان قديماً يُدعى فساد تركوه يكبر فـساد”

حجم الخط

صحيحٌ ان حزب الله يستفيد من منظومة الفساد القائمة في لبنان اليوم، ويعمل على تكريسها وتغذيتها حتى توفّر له بالمقابل الغطاء لسلاحه غير الشرعي، حائلاً بالمقابل دون قيام المؤسسات الرسمية بدورها القضائي والمجلسي والرقابي في مكافحة هذه الآفة، غير أن قضية الفساد في لبنان ترجع الى ما قبل وجود حزب الله بكثير، وترتبط ارتباطاً وثيقاً بفلسفة التركيبة السلطوية القائمة اليوم، والتي هي استمرارٌ لتركيبة عام 1943.

لا شك ان وقوع لبنان تحت الحكم العثماني لأكثر من 400 سنة قد ادخل الى ثقافته مفاهيم مثل الرشوة والبخشيش والبرطيل التي كانت سائدة حينها على امتداد أراضي “الرجل المريض”، غير ان إنشاء الدولة اللبنانية كمسارٍ سياسي ودستوري واداري متناقض لمسار السلطنة العثمانية المتلاشية حينها، كان يفترض به وضع حدٍ لهذه الآفة، وبناء دولة القانون والمؤسسات والمساواة على النمط الغربي، إلا ان ذلك لم يحصل.

صحيحٌ ان دولة لبنان الكبير نشأت عام 1920 بقوة الانتداب الفرنسي وإرادة المجموعة المسيحية بشكلٍ أساسي، إلا ان التركيبة الحالية للسلطة هي وليدة ميثاق عام 1943 الذي يُعتبر بمثابة العقد التأسيسي للدولة بين المسلمين والمسيحيين، والتاريخ الفعلي لنشوء تركيبة السلطة التي نعرفها اليوم، ونقطة الارتكاز السياسية والدستورية التي تنبثق عنها كل السلطات الدستورية في لبنان، منذ ذلك الحين.

لا شك ان تبدّل موازين القوى لغير مصلحة فرنسا عام 1943، بفعل تراجع وزنها الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، قد اضعف التيار الأكثري المسيحي المؤيد لها في لبنان، والمُمثّل حينها بالرئيس اميل ادّه والإكليروس الماروني، لصالح التيار المسيحي الأقلوي الوسطي المؤيد لبريطانيا بزعامة الرئيس بشارة الخوري، وهو ما ادخل الأخير بقوة الى المعادلة الدستورية والسياسية الجديدة بعد عام 1943، وكرسّه بقوة الأمر الواقع الدولي من جهة، وقوة المقبولية الإسلامية من جهة ثانية، ناطقاً دستورياً باسم المسيحيين وممثلاً لهم في السلطة، فيما بقي الممثلون الفعليون للمسيحيين خارج تلك التركيبة.

امّا الرئيس رياض الصلح، الشريك الثاني لبشارة الخوري في العقد التأسيسي لدولة لبنان عام 43، فكان بدوره يمثّل جزءاً من المسلمين السنّة لا كلّهم، كما انه لم يكن يمثّل بطبيعة الحال الشيعة والدروز، وهذا بدوره ما جعل من مشروعيته الشعبية الإسلامية مُنتقصة وغير مكتملة بالأساس، تماماً كالمشروعية الشعبية المسيحية لشريكه بشارة الخوري.

من الواضح انطلاقاً من ذلك، ان نقطة ارتكاز لبنان الميثاق، التي اوجدتها شراكة الرئيسين بشارة الخوري ورياض الصلح، كانت غير دقيقة، ولا تُعبّر بالضبط عن موازين لبنان المجتمعية والسياسية، بالنظر الى ان الممثلين الدستوريين للمسيحيين والمسلمين في هذه الشراكة، لم يكونوا في الحقيقة يمثّلان سوى جزءاً يسيرا ًمن هاتين الطائفتين فحسب، وبالتالي فإن نقطة ارتكاز السلطة وانبثاقها لم تكن تأخذ بعين الاعتبار إرادة اللبنانيين الآخرين، من مسلمين او مسيحيين.

تركيبة السلطة قامت بدورها على قاعدة مجتمعية مسيحية-اسلامية من الوسطيين، وبذلك صيغت كل قوانين الاقتراع بشكلٍ يُتيح لهؤلاء الوسطيين من كل الطوائف الحصول على أكثرية مجلس النواب، ولم يكن مُتاحاً تبعاً لذلك، وتبعاً لموازين مجالس النواب التي سيطر عليها وسطيون، سوى بوصول المرشحين الرئاسيين الأكثر وسطية والأقّل تمثيلاً للمسيحيين الى موقع رئاسة الجمهورية.

فعلى سبيل المثال لا الحصر، فاز شارل حلو المرشح المغمور مسيحياً، على الزعيم المسيحي الكبير بياّر الجميّل في انتخابات رئاسة ال 64 بفارق اكثر من 50 صوتاً.

الوسطيون الذين شكّلوا اقلية لدى طوائفهم، لم يحاولوا إعادة تصحيح الخلل البنيوي في نقطة ارتكاز تركيبة السلطة عام 1943، عبر تكريس مفهوم الدولة الحديثة التي تؤمن المساواة والعدالة وتكافؤ الفرص لأبنائها بدون تمييز، بما يؤدي الى إعادة تصحيح هذا الخلل واستحواذ تركيبة ال 43 على مشروعية كل الشرائح اللبنانية مع الوقت، بل عمدوا الى إدخال الفساد والمحسوبية والزبائنية الى صلب الحياة السياسية في لبنان، ساعين بذلك الى استقطاب شرائح لبنانية جديدة بشكلٍ سريع، لإضعاف قادة الطوائف الفعليين، وتحوّلهم هم الى ممثلين للأكثرية، تماماً مثلما فعل جبران باسيل عندما وصل الى السلطة، بحيث انه اتخم الإدارات والمؤسسات بالمحاسيب والصفقات في كل الاتجاهات، لمحاولة تطويق وإضعاف القاعدة الشعبية للقوات اللبنانية واستقطاب الأكثرية المسيحية، قبل ان ينقلب السحر على الساحر.

ويبدو ان الشركاء المسيحيين في ميثاق 43 قد حفزّوا شركائهم المسلمين بالدخول في تلك الشراكة انطلاقاً مما قد توفرّه لهم من مكاسب، وامتيازات، ومحسوبيات، ومصالح، ومحاصصة، وزعامة، واستقلالية، داخل النظام الجديد حينها، بعيداً عمّا يمكن ان يُقلصّ حجمهم ويحّد من نفوذهم، في ما لو اُعيد ضم المناطق الإسلامية الى امبراطورية عربية موحدّة، وتحوّل زعماء المسلمين في لبنان تبعاً لذلك، الى مجرّد ملحقين سياسيين محليين للزعامة العربية الأكبر في الإقليم.

وهذا ما أدى بدوره الى انخراط هذه الزعامات في منظومة المحاصصة والزبائنية لتكريس زعامتهم الإسلامية بمواجهة زعماء المسلمين الاخرين من جهة، وكتعويضٍ عن اعترافهم بنهائية الكيان، وانسلاخهم عن امتدادهم الطبيعي في الإقليم.

وعليه، فإن الفساد والمحسوبية والزبائنية كانت جزءاً لا يتجزأ من صفقة تركيبة 1943، والتي ما زالت تتوالى فصولاً حتى اليوم، حتى ولو تغيّرت أسماء اللاعبين وقواعد اللعبة، وحتى لو دخل عامل السلاح غير الشرعي الى معادلة الفساد لتكريس تركيبة ال 1943 التي تحتوي بنيوياً على كل عناصر هذا الفساد، وتوفّر تالياً الغطاء لهذا السلاح.

لذلك نرى بأن عبارة “فساد” ظهرت وشاعت وترافقت مع عهد اول رئيس جمهورية لنظام 43 الرئيس بشارة الخوري، وقد كُتب الكثير عن سماح هذا الرئيس بتفشّي هذه الظاهرة منذ ذلك الحين، خصوصاً ان اول من لحقته تهمة الفساد في الجمهورية اللبنانية، قبل جبران باسيل بعقود، كان سليم الخوري، شقيق الرئيس بشارة الخوري، والمعروف بالسلطان سليم، وهو ما اشعل ثورة لبنانية عارمة بوجه هذا العهد بتهمة الفساد والإفساد، شبيهة بثورة 17 تشرين، انتهت باستقالة الرئيس عام 1952.

وفي مقابل تعبير “سرايا فرن الشبّاك” حيث ادار السلطان سليم شبكات المصالح والزبائنية والفساد داخل تركيبة 43، ظهرت عبارة “سرايا البرج” وهي مقّر رئاسة الحكومة، حيث ادار الشريك المسلم في تركيبة 43 شبكات مصالح شبيهة عملاً بقاعدة 6 و6 مكرر، وتطبيقاً لأحد البنود غير المعلنة في تركيبة شراكة الـ 43، والذي يقوم على اعتراف الشريك المسلم بنهائية الكيان ونظام 43 في مقابل إدخاله شريكاً مُضارباً في منظومة الفساد والمحسوبية والمحاصصة.

إمساك الزعماء الوسطيين المسيحيين والمسلمين بتركيبة 43 أدى الى تهميش الفريق المسيحي الأكثري المناهض للنهج الدستوري بزعامة بشارة الخوري، وتهميش القيادات السنّية غير الموافقة على هذه الشراكة، خصوصاً في طرابلس، بالإضافة الى مزيدٍ من التهميش للشيعة والدروز غير المشاركين اصلاً في كل هذه الشراكة من أساسها.

منذ اول رئيس استقلالي والفساد موجود في لبنان كجزءٍ لا يتجزأ من تركيبة ال 43، وقد رفض رؤساء الجمهورية ورؤساء الحكومات الذين تعاقبوا على السلطة، بعد الرئيسين بشارة الخوري ورياض الصلح، محاكمة أي رئيسٍ جاء قبلهم بتهمة الفساد خشية ان يأتي من بعدهم من يفتح لهم ملفاتهم، ولذلك تم تكريس الفساد بالعرف، واصبح القضاء عليه بمثابة الإخلال بواحدةٍ من مرتكزات ميثاق 1943.

لقد حتّمت تركيبة السلطة في لبنان على كل من يرغب بتبوأ موقعٍ سلطوي ان يجري سلسلةً من المساومات والصفقات تُعبد له هذا الطريق وهذا يُعتبر جزءاً من الفساد، فرئيس الجمهورية لا يمكنه الوصول الى موقعه الا بعد اجراء هكذا نوع من مساومات، بحجّة التوافقية، والتي لم تكن في حقيقتها سوى ممرٌ الزامي للمساومات وللفساد الذي يلي خلال العهد.

وحده قائد القوات اللبنانية بشير الجميّل نجح بإيقاف دورة الفساد حتى قبل ان يتولّى مهامه الدستورية، والسبب في ذلك يعود أولاً الى ان بشير جاء من خارج الاستابليشمنت اللبناني ومن خارج التركيبة، ووصل الى الرئاسة عبر اختلال موازين القوى، ومن دون اضطراره لعقد صفقات ومساومات، كما انه وصل كرئيسٍ قوي بالفعل، ممهداً الطريق لنظامٍ برأسٍ واحد فقط، بما كان سيُنهي المحسوبية والفساد، باعتبار ان الإدارة ستكون مطبوعة فقط بطابع الرئيس الذي لم يكن مضطراً بالأساس للدخول في متاهات الفساد، لتمتين سلطته القوية أصلاً.

وبعد استشهاده عادت حليمة الى عادتها القديمة، وعادت دوّامة الفساد الى ما كانت عليه قبله، لا بل اصبح مستشرياً اكثر فأكثر، لدرجةٍ اصبح الفساد يُشكّل اليوم تهديداً وجودياً للبنانيين بالنظر الى ما وصلت اليه أوضاع البلاد من انهيارات.

“كان قديماً يُدعى فساد تركوه يكبر فساد” (احمد مطر) فلو لم يكن الفساد عرفاً دستورياً غير مُعلن عنه في تركيبة 43 لما كان استمر، وكبر، وتعاظم شأنه، واستعصى على الاجتثاث، وساد، على الرغم من وصول رؤساء مشهود لهم بنزاهتهم كفؤاد شهاب وشارل حلو والياس سركيس.

لذلك فإن كل حديث عن مكافحة الفساد جذرياً، لا شكلياً، يستوجب أولا البحث عن تركيبة جديدة لا تستبطن بداخلها كل بذور الفساد، ولا تستولد تبعاً لذلك الأزمة تلو الأزمة، خصوصاً ازمة السلاح غير الشرعي الذي يتلطى خلف منظومة الفساد المتأصلة منذ عقود وعقود، حتى يبقى ويستمر.

المصدر:
فريق موقع القوات اللبنانية

خبر عاجل