!-- Catfish -->

لماذا التَّورية؟

في كلِّ مرّةٍ يُخضَعُ جسدُ الوطنِ للتّعذيب، وبوسائلَ بربريّةٍ معروفٌ مَنْ يمارسُها، يبدو أكثرُ اللبنانيّينَ وكأنّ الأيامَ ناءَت بهم، وأُصيبوا بالكَدَرِ، والخوف، حتى أنّ قسماً منهم، تقبَّلَ أن ينجرَّ الى مبايعةِ مؤامرةٍ دخيلة، اتِّقاءَ المصادمةِ، والمواجهة. وهكذا، شرَّفَتنا أبوّةٌ جديدةٌ تطلبُ جماهيرَ طيِّعة، مغلوبة، ومرعوبة، يجري تهديدُها بردود فِعلٍ ترهيبيّة، قمعاً، وتهويلاً، واغتيالاً، حتى تنأى عن مخالفةِ مشيئةِ المُستَقوين، وكأنّ المخالفةَ، بالنسبةِ لهؤلاء، تعني الكفرَ بعينِه.

إنّ التّوريةَ تعني إخفاءَ الشيءِ، وسَترَهُ، لغايةٍ أو لهروب. والتّوريةُ المقصودةُ، اليوم، هي محاولةُ شَطبِ مَنْ يدمّرُ البلادَ، من مشهدِ الواقع، وكأنّه غيرُ موجودٍ، أو غيرُ مُتَّهَم. فالذي يُمعنُ في نَحرِ الوطنِ، وتشليعِ الدولة، وتفكيكِ النّظام، وتَيئيسِ الناس، وهدمِ المؤسسات، وحمايةِ النشاطاتِ غيرِ المشروعة، والإتجارِ بالممنوعات، والتّهريبِ عبرَ المعابر، وعقدِ الصّفقاتِ المشبوهةِ والسّمسرات، وأعمالِ الإبتزازِ وترويجِ الفاسد… معروفٌ، وهو يجاهرُ بذلك، فلماذا تغطيتُهُ بالتّورية؟

لقد أعادَتنا الممارساتُ الفتّاكةُ التي يمارسُها المستَقوون، الى مرحلةِ ما قبلِ الدولة، الى زمنِ الإنحطاطِ والهمجيّةِ، وشريعةِ الغابِ، والقهرِ بالقوة، وهذه لوثةُ زمنِنا الرّديء، والتي قضَت، بالإستقواءِ، على شرعةِ الحريّةِ والحقوق، وقانونيّةِ الإنتماء، وخيارِ الكرامةِ والأمل… فأيُّ معجمٍ حكَّمَه بنا المستَقوون، مُرِسِّخاً بقاءَ لبنانَ في دائرةِ النار، ورقماً في جدولِ القتل؟ وأيُّ حيثيّةٍ جرى تصديرُها الى لبنان، من أهدافِها فرضُ إيديولوجيّةٍ مُتَسَلِّطة، تقضي على السيادة، وتستخدمُ ما يمكنُها من وسائلَ لتطويعِ الناس، والهيمنةِ على قرارِ السلطة، وأخدِ لبنانَ رهينةً، أو ورقةً تُستَغَلُّ في مفاوضاتٍ، أو مساومة، أو ضغط؟…

نحن نعلمُ أنّ أيَّ قرارٍ يُصنَعُ خارجَ لبنان، أيّاً يكنْ هذا الخارج، وخصوصاً إذا أنتَجَهُ مخزونٌ راديكاليٌّ، لا بدَّ من أن يفرضَ أجندةَ هيمنةٍ تُبيحُ له تدميرَ مشروعِ الدولة، والتحكّمَ بالسّلطة، واغتيالَ الحقوقِ والحريّات، وذلك بنَهجٍ يَسفكُ الإستقرار، بتعدُّدِ مصادرِ الإضطرابِ والفوضى، وبممارساتٍ قمعيّةٍ مشحونةٍ بالتّدجين، ما يُعيدُ عقاربَ زمنِ الوطنِ الى عصورِ الظلام.

لقد مارسَ المُستَقوونَ ديكتاتوريّةً ليسَت مقنَّعة، وذات استراتيجيّةٍ مُمَنهَجَةٍ قوامُها الإطباقُ على الدولةِ، ونهبُ مقدّراتِ الوطن، والإمعانُ في سيطرةٍ تطالُ مؤسساتِ الحكم، وتؤسِّسُ لمؤسّساتٍ بديلةٍ كمؤشِّرٍ للانقلابِ على ما كان يُسَمّى دولة… أمّا ما نُتحَفُ بهِ من خُطَبٍ بروباغانديّة، فليسَ سوى تمويهٍ مُتذاكٍ لبنودِ خطّةِ إستعماريّةٍ، تسعى الى بسطِ حالةٍ ” كولونياليّةٍ ” شبيهةٍ بسياسةِ التَّتريكِ التي مارستها السلطنةِ العثمانيّةِ، ضدّ الشّعوبِ العربية، في عصورِ الإنحطاط. لكنّ الإستعمارَ الجديدَ، أيَّ استعمارٍ كان، سيكونُ أسوأَ مِمّا سَلَفَه في بلادِنا، انطلاقاً من إنكارِه للهويّةِ الوطنيّة، وتهميشِهِ لشرعيّةِ الدولة، واستبدالِهِ الديمقراطيةَ بديكتاتوريّةٍ محنَّطة.

لقد أُدخِلَ لبنانُ في شِدقِ سياسةِ المحاورِ بعدَ أن جُهِّزَ، لذلك، فريسةً سهلة. ولعلَّ سببَ الغزوِ يعودُ لأَهدافٍ مختلفةٍ، من أهمِّها موقعُ لبنان الإستراتيجيّ المتقدّم، ووجودُهُ على طلَّةٍ متوسّطيةٍ كصلةِ وصلٍ بين قَرنَي العالمِ، الشَّرق والغرب، أو مُلتقى الحضارات، لكنّ تحويلَه ساحةً تُصَفّى فيها الحساباتُ الإقليميّة، يبقى الهدفَ المُعتَبَر…

بالعودةِ الى مقاربةِ الواقعِ، وبدونِ تمويهٍ لأحداثِهِ أو مواربة، يبدو جليّاً أنّ ما عُمِلَ عليه كان القضاءَ على مقوِّماتِ البلادِ كلِّها، وأركانُ هذه المقوّماتِ هي مؤسّساتُ الجيشِ، والقضاء، والمصارف… إنّ اللبنانيّين، في غالبيّتِهم، يقفون خلفَ جيشِهم وقواهم المسلّحةِ الشرعيّة، ومن دون أيّ تردّد، ويطالبون بتسليحِ الجيشِ الذي يجدونَه، وحدَه، ضمانةً لصَونِ الوطنِ والدّفاعِ عنه. في المقابلِ، تَمَّت عرقلةُ خطّةِ التّسليح، بحجّةٍ واهيةٍ مردودةٍ، هي الخوفُ من انتقالِ الجيشِ من موقعِ الدفاعِ الضّعيف، الى موقعِ المواجهةِ القادرةِ التي تشكّلُ عائقاً يَصعبُ تجاوزُهُ للانقضاضِ على الدولةِ لافتراسِها. وكذلك، كان التدخُّلُ في القضاء، سبيلاً الى شرذمَتِهِ، وإدخالِهِ في مأزقٍ حرِج، بِحضِّ أركانِهِ على مواجهةٍ في ما بينهم، ولا سيّما بعدَ جريمةِ المرفأ، ما حوَّلَ رصيدَه باهِتاً في إقامةِ العدالة، مُتنصِّلاً من واجبِهِ بِنصرةِ الحقّ، ومُتعطِّلاً بالدفاعِ عن القانون، كلُّ ذلك جعلَ التوكَّلَ عليهِ مَضيَعةً للوقت، وحلماً عقيماً يؤدّي الى اللّاشيء. أمّا الوضعُ النّقديّ، والمصرفيّ، والذي كان يشكّلُ عاملَ أمانٍ للناس، فقد تدخَّلت جهاتٌ في السّوقِ الموازية، بمشاركةِ مافيا السّلطة، واستطاعَت أن تُمسِكَ بسعرِ صَرفِ الدولارِ الأميركيّ، صعوداً وهبوطاً، محقِّقةً أرباحاً هائلةً ذهبَ أكثرُها الى خارجِ مساحةِ البلاد، وقد شكّلَ هذا الإجراءُ مقصلةً فرمَت إمكانيّاتِ النّاس على مستوى القدرةِ الشّرائية، وباتَتِ العِملةُ الوطنيّةُ في الحضيض. كما تَمَّ ضُربُ مصرفِ لبنانَ من الدّاخل، وجمعيّةِ المصارف، ما أشعلَ المواجهاتِ بين المودِعينَ والبُنوك، منذ اندلاعِ ثورةِ تشرين، وحتى الساعة، وكادَ ذلك أن يدفعَ بالمصارفِ الى إعلانِ إفلاسِها، وهذا آخرُ مسمارٍ يُدَقُّ في نعشِ البلد…

إنّ تشويهَ الوقائعِ بالتّوريةِ جريمةٌ تطالُ حقَّ الوطنِ بالوجودِ الحرِّ، وتَهَرُّبٌ من مسؤوليّةِ إبلاغِ النّاسِ بالحقيقة، ولو مُرعِبة. فأيُّ رَفاهٍ مأمولٍ للبنانَ، في ظلِّ الإعتداءِ على هويّةِ البلد، واستباحَةِ سيادتِه، والقضاءِ على رجاءِ أهلِهِ بِغَدٍ ” نظيف “؟؟… إنّ الأخطبوطيّةَ الإنقلابيّةَ المستَقويةَ هي مَكمنُ الخطرِ الذي فتكَ بالوطن، ونشلَ الدولةَ، وسَبا الكيان، وخلخلَ التركيبةَ الأهليّة، واخترقَ مفاصلَ السلطة، وحوَّلَ البلادَ جثَّةً متكلِّسَةً جاهزةً لإعادةِ تدويرِها، ولكنْ، بتركيبةٍ لن تُبقيَ للبنانَ إسمَه.

 

المصدر:
فريق موقع القوات اللبنانية

خبر عاجل