بعد انعقاد مؤتمر ميونيخ للأمن، أخيراً، للبحث في التحديات الأمنية والعسكرية والاستراتيجية التي تواجه القوى المتصارعة، ترتسم على أرض الواقع الدولي إفرازات جيو سياسية جديدة من شأنها تغيير معالم ومعادلات بشكل جذري.
فهل نتجه نحو نظام مسالم أم نظام حربي متناقض؟
هذا السؤال الذي شغل بال المحللين والمختصين بالشؤون الدولية من امن وطاقة واقتصاد وتجارة وتكنولوجيا وجيل الذكاء الاصطناعي الى ما هنالك من تحديات وملفات مفتوحة للنقاش والتبصر والاستشراق.
كتبت وكالة بلومبرغ نقلاً عن مسؤولين وخبراء أن حرب أوكرانيا فرضت على دول عدة إعادة تقييم عقائدها العسكرية، وزيادة ميزانيتها العسكرية، بعد “الصدمة” التي أحدثها الغزو الروسي.
وبحسب مسؤولين دفاعيين حاليين وسابقين، تستخلص البلدان في جميع أنحاء العالم الدروس من أول حرب بهذا الحجم في أوروبا منذ العام 1945، إذ تعيد تقييم كل شيء.. من مخزونات الذخيرة إلى خطوط الإمداد”، كما تعيد بعض الدول مراجعة عقائدها العسكرية لتحديد الحروب التي يجب الاستعداد لها.
نعيش نهاية حقبة ما بعد الحرب الباردة (التي) انتهت في 24 شباط 2022 لتبدأ معها حقبة جديدة من تلك الحرب بنسخة منقحة، إذ ومنذ انطلاق الغزو الروسي والدول الأوروبية تعمل على إعادة هيكلة القوات، والبحث عن ذخائر. فكل جيوش الغرب مستنفرة لأنه من الواضح الآن أنه لا أحد لديه المخزونات اللازمة للتعامل مع حرب كبيرة وطويلة.
وتشرح بلومبرغ أن الحرب مثلت “صدمة” في معظم دول “الناتو” بعدما استفادت من مرحلة ما بعد سقوط الاتحاد السوفييتي في خفض ميزانيات الدفاع، وإنهاء التجنيد الإجباري، وكانت تستبعد وقوع حرب برية كبيرة فيما ألمانيا، كان نصفها الغربي وحده يمتلك آلاف الدبابات في الثمانينيات، وهي تمتلك الآن 321 دبابة.
المملكة المتحدة، التي خصصت 4 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لقوة مسلحة قوامها 325000 جندي في منتصف الثمانينيات، تنفق الآن حوالي نصف ذلك على قوة مشتركة قوامها 150 ألفاً. فيما بلغ الانخفاض في الإنفاق ذروته، العام 2014 بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، لكن يبدو أن تأثير الحرب بدأت تداعياته حتى في زمن الميزانيات التقشفية.
البلدان الأقرب لأوكرانيا زادت من الإنفاق الدفاعي بشكل هائل، وكذلك قدرات الإنتاج المحلي، وتوسعت في أساطيلها من الدبابات وأنظمة الدفاع الجوي فيما بولندا زادت مخصصات الدفاع لعام 2023، بأكثر من الضعف عن العام الماضي، ووقعت قانوناً يزيد حجم جيشها بأكثر من الضعف، وتوسعت في عمليات شراء الأسلحة، وتخطط لشراء أكثر من 700 قطعة مدفعية ثقيلة ذاتية الدفع جديدة، وهو عدد ضخم مقارنة بالدول الأوروبية الأخرى.
حتى المجر، صديقة روسيا، بدأت تزيد فيها عمليات شراء الذخائر، مع مخاوفها من “بيئة أمنية متقلبة ولا يمكن التنبؤ بها”، فيما فنلندا والسويد تقدمتا بطلب الحصول على عضوية “الناتو”
وأنشأت ألمانيا صندوقاً قيمته 100 مليار يورو (107 مليار دولار) لمساعدة ميزانيتها على تلبية هدف “الناتو” المتمثل في أن تبلغ ميزانيات الدفاع في الدول الأعضاء 2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهي تستعد لزيادة ميزانيتها الدفاعية إلى 10 مليارات يورو العام المقبل، وفقا لأشخاص مطلعين على الخطط العسكرية.
بريطانيا تعمل على “مراجعة متكاملة” لاستراتيجيتها الدفاعية، في غضون أسابيع، مشيرة إلى أن وزارة الدفاع طلبت 10 مليارات جنيه إسترليني، تشمل الإنفاق على إعادة تشكيل الجيش.
في خضم كل هذه الحقائق طلب وزراء دفاع “الناتو”، في ميونيخ زيادة الاستثمار في الدفاع الجوي والمدفعية والتحديث الرقمي.
على الجانب الآخر، من دول الاتحاد الأوروبي نجد كلا من الصين والهند وتايوان تراقب عن كثب الآثار المترتبة على بما يجري على بعد آلاف الأميال، بينما تستخلص الصين العبر من إخفاقات الجيش الروسي وكيفية استفادة كييف من تدريب الغرب لجيشها، وقد أدى مسار القتال في أوكرانيا إلى إدراك الهند، على سبيل المثال، لمسألة حاجتها إلى صواريخ طويلة المدى على طول حدودها مع الصين.
الحرب أثرت على التفكير الاستراتيجي للهند، فالحكومة طلبت شراء 120 صاروخاً باليستياً جديداً منتَج محلياً يعرف باسم “برالاي”، وهو مماثل لصاروخ “إسكندر” الروسي.
بالعودة الى أوروبا، رئيس اتحاد غرف الصناعة والتجارة الألمانية يقول إن حرب أوكرانيا ستكلف الاقتصاد الألماني نحو 160 مليار يورو(171 مليار دولار ) فيما تطوي الحرب الروسية الأوكرانية عامها الأول ولا يزال الحل الدبلوماسي السياسي متعذراً، بين دعم غربي غير منقوص لكييف “علها تنتصر في الحرب كما يتمنون ويرغبون”، لما لها من تداعيات على القارة الأوروبية، في حين يواصل الدب الروسي “عمليته العسكرية” كما يحلو له أن يسميها بتصميم قوي على تغيير قواعد اللعبة ورسم معالم المرحلة المقبلة محذراً بين الفينة والأخرى من اشتباك أوسع مع الولايات المتحدة قد تصل إلى مستويات لا تحمد عقباها وتلقي بظلالها القاتمة على العالم بأسره من مختلف النواحي.
وعلى جانب التحشيد والاستنفار العالميين المهيب، نجد رئيس الشيشان رمضان قديروف يعلن أنه يخطط لتأسيس شركته العسكرية الخاصة، وأكد يوم الأحد أنه يخطط يوماً لتأسيس شركته العسكرية الخاصة على غرار مجموعة فاغنر التابعة ليفغيني بريغوجين، كإشارة واضحة الى جنوح العالم نحو التصعيد العسكري والاستعدادات لحقبة حروب.
وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن، يلفت إلى أن الصين تنظر في إرسال “أسلحة” إلى روسيا لاستخدامها في حرب أوكرانيا ما حمله على توجيه تنبيه الى نظيره الصيني وانغ يي الى أن بكين تنظر في إرسال “أسلحة” الى روسيا دعماً لهجومها في أوكرانيا. وفي تصريح له، كشف بلينكين عن محادثات أجراها مع نظيره الصيني عن الحرب التي تشنها روسيا وعن قلق يشعر به لكون الصين تنظر في تقديم دعم فتاك الى روسيا”.
فرنسا من جهتها تعلن أن باريس ستسلم أوكرانيا دبابات خفيفة “اعتبارا من هذا الأسبوع. إعلان جاء على لسان وزير الجيوش الفرنسي سيباستيان لوكورنو في مقابلة مع صحيفة “لو باريزيان” نشرت منذ أيام، معلناً أن الدبابات القتالية الخفيفة “آ أم اكس-10” ستُسلّم إلى كييف.
وبالتالي تزامن تسليم هذه الدبابات مع الذكرى السنوية الأولى للغزو الروسي لأوكرانيا في 24 شباط 2022، وأعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في بداية كانون الثاني الماضي عن إرسال هذه الدبابات، في إطار تحديث المعدات التي يسلمها حلف شمال الأطلسي (ناتو) لأوكرانيا، بعد تردد استمر أشهرا خوفًا من دفع موسكو إلى تصعيد.
وأكد وزير الجيوش للصحيفة الفرنسية اليومية أنه لن يذكر عدد الدبابات “حتى لا يعطي معلومات استراتيجية لروسيا فيما من جهة أخرى أشار إلى أن تدريب الأوكرانيين على هذه المعدات الجديدة “على وشك الانتهاء” لذلك سيتم تسليمها، موضحاً انه وبشكل عام تتسارع وتيرة التدريب على أراضي فرنسا، من خلال التدريب التخصصي على المعدات التي نقدمها، وفي بولندا، مع مزيد من التدريب العامل لكتائب بأكملها بمعدل 600 جندي في الشهر اعتباراً من آذار المقبل.
وعن إمكان تسليم أوكرانيا طائرات حربية مقاتلة، قال لوكورنو إن “لا شيء محظوراً”، لكنه أشار إلى تعقيد “المسائل اللوجستية والعملية فيما لم يستبعد المسؤول الفرنسي تدريب طيارين كما تفعل بريطانيا. ودافع لوكورنو عن موقف فرنسا المتمثل في الإبقاء على “قنوات النقاش مع الروس كلما كان ذلك مفيداً”، مكرراً بذلك موقف ماكرون.
من ناحية الإيطاليين، قال مصدر سياسي يوم الأحد إن رئيسة وزراء إيطاليا جورجا ميلوني التي زارت كييف الأسبوع الماضي والتقت الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، إذ أفصحت عن دعمها لأوكرانيا دعماً راسخاً على الرغم من خلاف داخل ائتلافها اليميني الحاكم وانقسام الرأي العام بشأن القضية الأوكرانية.
فرئيس الوزراء الأسبق سيلفيو برلسكوني، زعيم حزب (إيطاليا.. إلى الأمام) المحافظ المشارك في الائتلاف الحاكم، أكد منذ أيام أنه لم يكن ليسعى إلى الاجتماع مع زيلينسكي لو كان رئيساً للحكومة لأنه يلقي مسؤولية اندلاع الحرب مع روسيا على عاتق الرئيس الأوكراني.
هذا واختتمت إيطاليا وفرنسا أخيراً محادثات حول إرسال منظومة دفاع جوي متقدمة إلى كييف في الربيع.
روسيا من جهتها، حظرت الوصول إلى موقع ذا بيل الإلكتروني الإخباري عبر الإنترنت الذي أسسته شخصية صحفية بارزة في روسيا ليكون بذلك أحدث موقع يُحظر في ظل حملة تشنها موسكو على وسائل الإعلام المستقلة. وقد حظرت روسيا عشرات المواقع الإخبارية منذ غزت أوكرانيا العام الماضي، وتتهم هذه المواقع في الأغلب بنشر أخبار “زائفة” حول ما تصفه بأنه “عملية عسكرية خاصة” في أوكرانيا.
على الصعيد الأوكراني، مسؤولون أوكرانيون طالبوا أعضاء الكونغرس الأميركي بالضغط على إدارة الرئيس جو بايدن لإرسال مقاتلات إف-16 إلى كييف، وأكدوا أن من شأن الطائرات تعزيز قدرة أوكرانيا على ضرب وحدات الصواريخ الروسية بصواريخ أميركية الصنع. وجاءت المطالبات على هامش مؤتمر ميونيخ للأمن خلال محادثات بين مسؤولين أوكرانيين، من بينهم وزير الخارجية دميترو كوليبا، وأعضاء ديمقراطيون وجمهوريون من مجلسي الشيوخ والنواب. وقال السناتور مارك كيلي لرويترز “أخبرونا بأنهم يريدون (طائرات إف-16) لسحق الدفاعات الجوية للعدو ليتسنى لهم إطلاق مسيّراتهم خلف خطوط المواجهة الروسية”. ومارك كيلي هو رائد فضاء سابق حلق بمقاتلات تابعة للبحرية الأميركية في معارك. لكن الرئيس جو بايدن لا يزال يرفض طلب أوكرانيا بإرسال تلك المقاتلات فيما في الكونغرس يتزايد التأييد لتزويد أوكرانيا بها.
من جهته، قال مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل في كلمة خلال مؤتمر ميونيخ للأمن إنه يتعين على الغرب تقديم المزيد من المساعدات العسكرية لأوكرانيا والإسراع في تسليمها.
وأعلنت الحكومة الهولندية أنها ستغلق قنصليتها في سان بطرسبرغ بروسيا، وستقلص عدد الدبلوماسيين الروس المسموح بوجودهم في السفارة الروسية في لاهاي لكبح جماح روسيا في محاولة إدخال عملاء مخابرات سراً إلى هولندا تحت غطاء الدبلوماسية، فيما أمرت الحكومة الهولندية أيضاً المكتب التجاري الروسي في أمستردام بالإغلاق بحلول يوم الثلاثاء.
إنها نهاية حقبة وولادة نظام عالمي جديد مقلق… والولادة عسيرة وشائكة إذ لا يسمح لروسيا أن تنتصر في أوكرانيا ولا أوكرانيا أن تخسر حربها ضد موسكو وهنا يكمن المأزق الكبير.