كتب أنطوان مراد في “المسيرة” – العدد 1738
ينحى منظّرون في الشأن الماروني بخاصة، وبمعزل عن مدى أثرهم وخطورة آرائهم، إلى القول إن الأمور لا تستقيم إلا باستقامة سيبة رئاسة الجمهورية وسيد بكركي وقيادة الجيش، وهي المواقع المارونية التي تحافظ على لبنان المتنوّع الذي يتساوى فيه المسيحيون والمسلمون. ويضيف بعضهم إلى هذه السيبة أحياناً حاكمية مصرف لبنان.
هذه الصورة كانت محسوسة ومعيوشة وإن لم تكن نافرة وسافرة، بالنسبة لهؤلاء المنظّرين، في زمن الجمهورية الأولى قبل الطائف، كدليل على الضمانة التي يوفرها الحضور الماروني والمسيحي في الدولة ليس للموارنة والمسيحيين حصرًا، بل أيضًا لسائر الطوائف، في إطار تمتعها وتمتع جميع اللبنانيين بالحرية وغنى التنوع.
حاليا، ومع التغيير الذي أحدثه الطائف على صعيد صلاحيات الرئيس، يرى المنظّرون أن السيبة ما زالت قائمة وصالحة، وقد باتت على مستويين، رئاسة الجمهورية والبطريرك الماروني على المستوى الأول، وقيادة الجيش وحاكمية مصرف لبنان ورئاسة مجلس القضاء الأعلى على المستوى الثاني.
على أنه ينبغي التعاطي مع هذه المعادلات والقراءات بحذر وفطنة، لأنه مع تراجع صلاحيات رئيس الجمهورية، بات التركيز أكثر على شخص الرئيس، الذي لم يعد يستند إلى ما يوفره له الدستور قرارًا وفاعلية فحسب، بقدر ما ينبغي أن يستند إلى ما يتوافر لديه من هيبة وشجاعة معطوفتين على كفاءة وخبرة ونظافة كف، لأن هذه الصفات والمواصفات هي التي تستطيع تحصين موقفه وتجعله يعوض الصلاحيات بقوة تأثير قد تكون أهم، وبخاصة عندما يرفدها الرأي العام بالتأييد.
لكن ما هو حاصل، أن بعض من احتل كرسي الرئاسة، أساء إلى الموقع وأضعفه، بل جعله أقرب إلى ستار وممسحة بحسب الحسابات والمصالح الخاصة. وليس أدل على ذلك مما شهده العهد الماضي من ظاهرة مرضية على صعيد تبادل الخدمات بين «حزب الله» والتيار البرتقالي، تحت غطاء تفاهم مار مخايل، إلى تقدم منطق المحاصصة والصفقات، ما جعل الرئاسة في موقع زعامة حزب وفئة، وفي خانة شريك مضارب في المناصب والمكاسب، وإذ بشاغل الكرسي يتصدر حيناً الواجهة ويتصدى لكل من يهدد شبكة السلطة والمال، بالتكافل والتضامن مع الشركاء الذين قد لا يكونون دائما بالضرورة من الحلفاء، متسلحًا بفائض القوة المجيرة له، فيما ينكفئ حينا آخر ويتبرأ ويتملص، بحجة «ما خلّونا» أو لم نعرف، أو عرفنا وحوّلنا الأمر على المعنيين، على غرار التقارير حول الخطر الداهم الذي مثله تخزين نيترات الأمونيوم في المرفأ، وكأن المسألة تتعلق بترفيع موظف من الفئة الرابعة إلى الفئة الثالثة، أو بمد قسطل مياه الى بناية في طرف الحي.
ولذلك، إن الهزال الذي يسود صورة الرئاسة الأولى يعود في جانب أساسي منه إلى التعاطي معها كطريدة أو كمنصة لتحقيق الطموحات الشخصية، وهذا ما استغله «حزب الله» جيدًا عندما تنبّه الى نقطة الضعف لدى حليفه المسيحي الأبرز، فتعاونا في مرحلة أولى، وفي سابقة مهينة، على تعطيل انتخاب خلف للرئيس إميل لحود، عبر التبليط في وسط العاصمة وشل المجلس النيابي وحصار السرايا، وصولاً الى السابع من أيار، وقد تكرر المشهد بضجة أقل ولكن بخبث أكبر، مع التعطيل الثاني للإستحقاق الرئاسي من قبل الحلف ذاته على مدى نحو عامين ونصف عام بهدف تأمين وصول ميشال عون للرئاسة. ولا داعي للإستفاضة في عرض ما شهده العهد من إضعافٍ لموقع الرئاسة بحجة الرئيس القوي، ومن تنكيل بهيبتها تحت وطأة حسابات النفوذ والصفقات على أنواعها. وها هو المشهد يتكرر اليوم، بعدما توسّعت دائرة المستهترين بالرئاسة وبأهمية انتخاب رئيس للجمهورية، لتشمل للأسف بعض من يدّعون الإستقلالية والإعتدال والتغيير.
ولا ريب أن التمديد مرة أولى للرئيس الياس الهراوي ومرة أخرى للرئيس إميل لحود وجّه بدوره ضربتين موجعتين لموقع الرئاسة وهيبتها من قبل سلطة الوصاية، وفتح الباب أمام المزيد.
على أن الركيزة الثانية للسيبة والمتمثلة بالبطريركية المارونية، تبقى أكثر ثباتاً لأن قوتها تكمن في تاريخها وثقلها المعنوي ورصيدها الوطني، ولو أن شخص البطريرك له أثره البالغ أحياناً كثيرة.
وغالبًا ما نأت بكركي عن الإنغماس في لعبة إختيار رئيس للجمهورية، ولو أنها كانت توحي بأفضليات وتمنيات، ومع ذلك كان سيدها يتصرف دائمًا على قاعدة إحترام الخيار الديمقراطي والتسليم بنتائجه، باعتبار أن ما يهمّ هو الحفاظ على موقع الرئاسة وصونه بمعزل عن شخص الرئيس وشخصيته. ومن هنا يمكن فهم تحفظ البطاركة على مر العهود تجاه الدعوات الصريحة لرؤساء الجمهورية إلى الإستقالة تحت وطأة أزمات معينة، مع العلم أن أمنيتهم قد تكون باستقالة هذا الرئيس أو ذاك فعلا.
فبطريرك الإستقلال الأول أنطون عريضة لم يدعُ الى إسقاط الرئيس بشارة الخوري، علمًا أنه كان في موقع المعارض له، لكنه ارتاح لإقدام الخوري على تقديم استقالته في نهاية المطاف.
أما الرئيس كميل شمعون فاصطدم بالبطريرك بولس المعوشي مرارًا، لمعارضته السياسة الخارجية للعهد، لكنه تحفظ على دعوة إسقاطه، في مقابل تعاطفه ولو ضمناً مع الثورة في وجه شمعون، لدرجة إطلاق تسمية محمد بولس المعوشي عليه، وقد انتقل الخلاف أيضًا إلى عهد فؤاد شهاب لأسباب مختلفة، لكنه لم يبلغ أيضًا حد الترحيب عندما لوّح شهاب باستقالته أو حد التصدي المباشر لمن كان يدعو إلى التجديد له.
ولم يؤيد البطريرك أنطونيوس خريش الدعوات لاستقالة الرئيس سليمان فرنجية تحت ضغط الحرب، على الرغم من عريضة وقعت عليها الأكثرية النيابية، ورفض لاحقاً الدعوات إلى تقصير ولاية الرئيس أمين الجميل.
والصحيح أيضًا أن البطريرك مار نصرالله بطرس صفير لم يكن مؤيدًا للتمديد لكل من الرئيسين الياس الهراوي وإميل لحود، وعبّر على طريقته عن تحفظ ضمني، لكنه تعاطى مع المسألة كأمر واقع. ومع تصاعد التوتر على خلفية ثورة الأرز التي بلغت أوجها في 14 آذار 2005، رفض البطريرك صفير الدعوات إلى الزحف على قصر بعبدا لإسقاط لحود، ولو أنه كان يتمنى أن يُقدم لحود نفسه على الإستقالة، كي لا تكون إطاحته قسرًا سابقة يدفع ثمنها موقع الرئاسة قبل شاغله.
ومعلوم أن سيد بكركي تاريخيًا لا يسمي مرشحين أو يتعاطى بالتفاصيل الانتخابية الرئاسية، لكنه في الوقت عينه يمكنه أن يؤشر الى مواصفات معينة. على أن الظروف الإستثنائية الضاغطة في ظل الفراغ العام 1988 مع نهاية عهد الرئيس أمين الجميل، دفعت بالبطريرك صفير المتوجّس من التطورات الدراماتيكية، الى طرح بضعة أسماء من دون ضجة، وعبر قنوات بعيدة من الأضواء، لانتخاب أحدها، لكن اقتراحه تم إهماله. ومع الشغور الثاني في نهاية عهد الرئيس لحود، تلمّس البطريرك صفير مجددًا محاذير تغييب رئيس للجمهورية، لكنه رفض الدخول تكرارًا في لعبة الأسماء، ليعود ويوافق في العام 2007 بناء على إلحاح فرنسا بشدة عليه لوضع لائحة بالأسماء التي يقترحها حتى يتم اختيار واحد منها، فسمّى ستة مرشحين، لكن مبادرته «القسرية» انتهت الى عدم التجاوب معها، وكان البديل غزوة 7 أيار وصولاً إلى إتفاق الدوحة وانتخاب ميشال سليمان رئيسًا.
أما البطريرك مار بشارة بطرس الراعي، فسعى إلى تجنب الوقوع في فخ التسميات، في مرحلة أولى، بعد نهاية عهد الرئيس ميشال سليمان، وفضل التركيز على رعاية حوارات على أكثر من خط وتلمّس التوجهات حيال ما طُرح من أسماء، لا سيما وأن هوامش اللعبة كانت أوسع إقليمًا ودوليًا، وترك الأمور تنضج على صعيد المصالحة المسيحية بين القوات اللبنالنية والتيار الوطني الحر.
وفي ما خص الإستحقاق الحالي، يستشعر البطريرك الراعي محاذير كبيرة حيال إطالة أمد الشغور الرئاسي، لا سيما في ظل الإهمال الدولي وتراجع الإهتمام بالملف اللبناني، في ضوء بروز أزمات خطيرة عالميًا تتمثل بالحرب في أوكرانيا والتداعيات الاقتصادية والتوتر الأميركي ـ الصيني…
ومع ذلك، لم يتورط البطريرك الماروني مباشرة في التسميات، كأن يقدم ورقة بها للمعنيين، أو لجهة طرحها علناً، بل فضّل وما زال إستمزاج القوى المسيحية حيال كيفية خرق المراوحة، وتاليًا التشاور حول بعض الأسماء التي يعتبر أنها يمكن أن تلقى قبولاً من الجميع.
على أن المشكلة تكمن قبل الأسماء في المواصفات، لأن المرحلة تحتاج رئيسًا سياديًا بالحد الأدنى ويتمنطق بالدستور أولاً، ويؤمن بالإصلاح الجدي، وهذا ما يتمناه سيد بكركي، الذي يسأل في الوقت عينه عن كيفية وصول هكذا مرشح. ومن هنا أهمية التركيز على فتح اللعبة الديمقراطية السليمة على مصراعيها، من خلال التشديد على التزام الجميع بانتخاب رئيس للجمهورية والتخلّي عن تعطيل النصاب وعن المناورات سعيًا لفرض رئيس على أكثرية اللبنانيين بقوة الفريق المتمترس وراء سلاحه لتغطية ضعف الرصيد السياسي للمرشح المعني، سواء أكان من صلب محور الممانعة أو من الأسماء التي لا لون لها ولا نكهة.
أنطوان مراد ـ مستشار رئيس حزب “القوات اللبنانية” لشؤون الرئاسة
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]