المنطق الدستوري هو منطق متكامل ومترابط مع بعضه البعض، فالتعطيل في اي موقعٍ دستوري ينسحب حُكماً على مواقعٍ اخرى، وهكذا دواليك حتى بلوغه كل المواقع واحداً واحداً.
التعطيل الممنهج الذي مارسته دويلة 8 آذار منذ عام 2005، اعتقاداً منها انه سيبقى محصوراً في الموقع الدستوري المُستهدف بغية القبض عليه نهائياً، بات اليوم يتمدد ليطال مواقع كانت اصلاً في قبضة 8 آذار، ويطال مؤسسات ومنظومة مؤسساتية متكاملة كانت توفّر لهذه الدويلة ولبيئتها الحاضنة، الروافد الخدماتية والتوظيفية والمالية، على حساب الإدارة الناجحة والمنتجة.
هذا التعطيل الممنهج الذي مارسته قوى 8 آذار للقبض على المواقع الدستورية، بدءاً من تعطيل الحكومات بحجّة الثلث المعطل، وصولاً الى تعطيل انتخابات الرئاسة للإتيان برئيسٍ من خارج الأكثريات النيابية الشرعية، هذا التعطيل، قابلته قوى 14 آذار بمنطق “ام الصبي” فتنازلت عن اكثريتها النيابية، وعن الثلث المعطّل، وصولاً حتى التنازل عن موقعي رئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية، وحتى عن الحكومة مجتمعة، بعدما كان التنازل عن موقع رئاسة مجلس النواب تحصيلٌ حاصل.
“الصبي” الذي تنازلت قوى 14 آذار عن حقوقها لأجله، ظنّاً منها انه الدولة اللبنانية، وأنها والدته الحقيقية التي تريد له الحياة والنمو والازدهار، حتى لو في عُهدة والدته المزيّفة، لم يكن في حقيقته سوى تركيبةٍ سياسية-امنية-قضائية مسخ انتحلت صفة “الدولة اللبنانية” واقامها النظام السوري وحزب الله بعد الطائف، وتالياً كان كل تنازل تُقدم عليه 14 آذار يصّب في خدمة تلك التركيبة المسخ، وليس في خدمة الدولة اللبنانية الحقّة.
ففي هذه الحالة، كانت قوى 14 آذار، وخصوصاً القوات اللبنانية، هي الوالدة المُزيفّة للتركيبة القائمة اليوم، فيما قوى 8 آذار هي “ام الصبي” الحقيقية، وهي المُجبرة، دون سواها، على تقديم التنازلات في سبيل بقاء تركيبتها المسخ.
فدويلة 8 آذار، تقبض على معظم المواقع الدستورية والسياسية والأمنية والقضائية في هذه التركيبة، وتُتخم ادارات هذه التركيبة ومؤسساتها بالموظفين والمحاسيب لتُرخي عن كاهلها عبء إعالتهم ومعيشتهم، وهي التي تُسخّر المعابر البرية والجوية والبحرية في هذه التركيبة لعمليات التهريب التي تدرّ عليها المليارات، وهي التي تستغّل تقديمات مؤسسات الرعاية والضمان والخدمات اكثر بكثير من سواها، وهي التي تمتلك قدرة تعطيل المؤسسات السياسية والقضائية، وهي التي لا تدفع الضرائب كما يجب، وتستخدم مؤسسات هذه التركيبة الداخلية والخارجية في خدمة الترويج لمصالح المحور الذي تنتمي اليه…
ومع ذلك كلّه لا تتورّع عن ابتزاز الآخرين بالفراغ الدستوري وانهيار “الدولة اللبنانية”، حتى يرضخوا ويتنازلوا لهذه القوى حرصاً على عدم انهيار الدولة، فيما الحقيقة هي ان التركيبة القائمة اليوم هي النقيض للدولة اللبنانية، وبقاءها واستمرارها لا يخدم بطبيعة الحال، سوى دويلة 8 آذار، فقط لا غير.
هذه اللعبة اتقنتها دويلة 8 آذار منذ العام 2005 وحتى الأمس القريب، من دون ان تتنبّه بعض رموز 14 آذار الى ان هذا الابتزاز تمارسه “ام التركيبة” حتى تدفع 14 آذار لرعاية “ابنتها” اللقيطة، وتسخي عليها من نفسها، وعلاقاتها العربية والدولية، وجهدها، وعرقها وحتى دمائها، ولكن من دون ان تتنازل “امّها الحقيقية” عن اي جانب من جوانبها، ولو قيد انملة.
هذه اللعبة انتهت اليوم، فتعطيل انتخابات الرئاسة لابتزاز الباقين برئيسٍ من 8 آذار او الانهيار، لن يُضعف سوى التركيبة المسخ ودويلة 8 آذار من خلفها؛ والفراغ سينسحب على مواقع هذه التركيبة واحداً واحداً؛ والانهيار لن يطال سوى التركيبة المسخ التي سيقوم على انقاضها دولة لبنانية حقّة هذه المرّة؛ ودويلة 8 آذار هي من ستخسر المواقع واحداً واحداً، وهي من ستخسر الغطاء السياسي والدستوري والخدماتي والتوظيفي والأمني الذي وفرّته لها هذه التركيبة منذ عام 1990، وليس القوى السيادية والاصلاحية التي لا تمتلك شيئاً اصلاً في هذه التركيبة حتى تخسره، لا بل ان وجود هكذا تركيبة يُضّر بمصالحها ومصالح اللبنانيين الأوادم بالأساس…
من يخاف من انهيار هذه التركيبة عليه هو وحده ان يُسدد الأثمان الباهظة، لا ان يستمّر بالتلاعب والتشبّث بالمواقع وممارسة التعطيل والابتزاز، ومن يريد إفراغ موقع الرئاسة للإتيان برئيس تابع له، عليه ان يتوقّع خسارة مواقعه الدستورية واحداً واحداً، من دون ان يؤدي الفراغ الرئاسي الى خسارة الآخرين موقعاً آخر في تركيبةٍ مناوئةٍ لهم اصلاً واوشكت مدّة صلاحياتها على الانتهاء.
فالمشكلة ليست مشكلتنا، ومن اصعد الحمار الى المئذنة ليُنزله وحده، وللعِلم، عام 1977 كان الاتجاه المسيحي داخل الجبهة اللبنانية هو في التخلّي عن موقع رئاسة الجمهورية الذي ذهب عام 1975 مع لبنان القديم، لصالح مجلسٍ رئاسي في تركيبةٍ دستورية جديدة تمهيداً لولادة لبنان جديد.
فلا احد يبتزّنا، ولا احد يهُددنا، ومن شرب البحر لن يغّص بالساقية.