مؤرّخون مُتعدِّدو الهويّات مُتنوّعو الأهواء والغايات حاولوا ويُحاولون التَّنقيب عن مَنبتِك أصولاً وفروعاً وتَشعُّبات.
بعضٌ هزيل الروح منهم أدرج وجودك على لائحة الأساطير والقصص الشعبيَّة المُتوارثَة من دون أثبات وبرهان، وبعض منهم انصرف إلى التَّدقيق برقم يوم وشهر وسنة مولدك وأرقام مساحة الأرض التي نشأتَ عليها وانتقلت فيها من مكان جغرافي إلى مكانة تاريخيَّة، وهذا البعض وذاك البعض تغافل عن أدراكِك أُمَّة مُتَّصلة لاهوتاً وناسوتاً بملء زمان ومكان ولادة أبن الآب والعذراء في رحيب العراء الأقدس داخل حظيرة رعيان ونِعاج وبريَّة خارج مدينة بيت لحم بعيداً من ظلال ورعاية تاج داود الملك وسائر ملوك مملكتُهم من هذا العالم!
بحلول القرن السّادس الميلاديّ انهزمت القسطنطينيَّةُ في معركة تمييزها بين ما هوَّ لقيصر وبين ما هوّ لله، فضُرِبَ الرُّعاة بداء التّاج والصَّولجان وتبدَّدت الرَّعيَّة في كلّ شِقاق وشُتات، فنهض من بقيَ منها على مذهب أنقياء القلوب وبُسطاء الروح يسعون للاهتداء إلى وجه وصوت الراعي الصّالح الذي يعرف رعيَّتَه ورعيَّتُه تعرفُه وجهاً وصوتاً، فكنتَ أنتَ يا أبانا الهديَّة المُهداة إليهم من العليّ الذي يسترهم بستر جناحه!
ذلك الزمان المشرقي المُدجَّج بالعقول الكالحة الظلام والعقائد الظّلاميّة كانت سهول القمح في الأقطار الشّامية وافرة الغلال والأغلال، غِلالها واقعة في قبضة أهراءات سلاطينها وأغلالها خبزٌ ذُميٌّ يقيِّدُ أفواه وألسُن آكليه بقيود العقيدة الأكثر نذالة وأذلالاً: “مَن يأكل مِن خبزِ السّلطانِ يضربُ بسيفِه”…
نهضتَ وأنهضت معك أُمَّتك من مراتع ومعالف الشَّبع الذَّميم الأثيم فَمَشيت بهم ومعهم أباً بطريركاً قائداً، سلاحُكم الأمضى وعدُ آية الربِّ يسوع: “لا تَخَف أيها القطيعُ الصَّغير”، سلاحكُم الأمض والأفعلُ ذخيرتُه الحربيَّةُ الحيَّةُ: “ليس بالخبز وحده يحيا الأنسان”!. وديعةُ الأيمان حطَّت على أكتافك صخرة بطرسيَّة أنطاكيَّة خلقيدونيَّة ومذبحًا يوحناوياً شاهداً ليسوع أنَّه كما هو ابن الله الحيّ كذلك هو أبن الإنسان الحيّ شهادة فادحة الثمن، كلَّفت دير أبيه مارون عند ضفاف العاصي ثلاثمئة وخمسين راهب شهيد حفرتِ الخناجر الذَبّاحةُ في رِقابِهم حفائراً مودوعةً حتى يوم القيامة داخل الدير المحفور على خدِّ شير النهر العاصي حَفرَ قانون إيمانهم بالإله الواحد الضّابط الكل وبالأبن المصلوب عنّا على عهد بيلاطس البنطيّ وبالروح القدس المساوي للآب والأبن في الجوهر!
من وادي الغدير والهدير ارتفعت يا أبانا رؤوس شعبك ارتفاع الأرز في لبنان، فحطَّت شمالاً فوق قِمَم تُقيم فوقها قيمُ سِفرِ نشيد الأناشيد: “هلمّي معي من لبنان أيتها العروسةُ من لبنان”!
فوق عند “جبال النمور ومرابض الأسود وأوكار النسور سيتِم ملء زمان ومكان بيت لحم اللبنانية الجديدة داخل ملكوت ومملكة الوعر الكامل القداسة والبطولة والشهادة والحرية حيث الانتماء المُطلق لقِفار ممسوحة المساحة النسكيّة بآية أمنيّة الناسك يسوع: “أتكنزوا لكم كنوزا في الأرض”!
أبون يوحنا مارون
بين شواهق وعواص وأوديَّة وكهوف ومغاور ليس بينها مكان واحد خارج عن أيات أرض وأمكنة أنجيل العهد الجديد تمَّت المواجهة الغريبة العسيرة على منطق وفهم حُكماء هذا العالم بين رعيتك والراعي المعلّم الصالح، هو يحسم ويجزِم ويؤكد بان “الشوكَ لا يُثمرُ عنباً”… ليُجيبُه عُصاتُكَ: “لكن يا رب إن هذا الشوكَ بالذات هو الذي أثمر لك تاجاً يوم صعودك إلى الجمعة العظيمة وهو الذي أثمر لنا تيجاناً أيام نقلنا جلجلتِك من جبل أورشليم إلى جبال لبنان بأيمانٍ مِقدارُه مِقدار حبّات دماء شهودِنا وشهدائنا!
أبانا البطريرك الأول والدائم
برعاية وعناية ذوي قلوب من ذَهَبِ السَّماء وذوي صولجانات من خشب سنديان لبنان، صمد لنا آباء وأجداد طوال مئات السنين في بواطن وادي لا منفذُ فيه للعيون على بحر بعيد على أحلام بنجدات غريبة تَستورِدُها أساطيل…
برعايتك وشفاعتك يا أبانا نستلهم النَّافذةَ المفتوحة على السماء الرَّحيبة والرجاء العظيم تلك التي أستلهم منها آباؤنا وأجدادنا طول مئات السنين في قارة قاديشا مناداة حليفهم الواحد الوحيد الذي لم يكُن جيلا بعد جيل إلاًّ نشيد أناشيدهم:
عمانو موريو عمانو موريو
موريو عمانو بليليو وبايمومو
الرب معنا الرب معنا
ليلاً نهاراً الرب معنا!