رسالة “الموارنة” في رؤيا الدكتور شارل مالك

حجم الخط

كتب أنطوان نجم في “المسيرة” – العدد 1738

في أحد ليالي العمل معًا، وحدنا، في دارته في الرابية، زمنَ القصف من العام 1981، وكان الوقت قد تخطّى منتصف الليل، قام الدكتور شارل مالك فجأة من مقعده ووجّه كلامه إليّ بصوت جَهْوَريّ قائلًا: “هل تعلم، يا أنطوان، أنّكم، أنتم الموارنة، لستم أوادم”؟ قلت: خير إن شاء الله؟

قال: “لستم أوادم. ولكن لا تخافوا”.

إنّ الله لن يترككم. قد يقاصصكم ويقسو عليكم. ولكن لا تخافوا. فكما أنّ الربّ ضرب شعبه المختار، أي اليهود، ليربّيه ويعيده إلى صوابه مع محافظته عليه وحمايته له من الفناء، ليحقّق بواسطته وعدَه، كذلك هو يحافظ عليكم ويحميكم. ولكنّه يربّيكم أيضًا ويجعلكم تدفعون ثمن خطاياكم.

قلت، مع شيء من الإبتسامة: “إذا تصرّف الربّ مع شعبه على هذا النحو وأبقاه، فلكي يأتي المسيح المنتظر. أمّا نحن فأيّ مسيح سيخرج منّا؟ فأجاب بصوت صارخ: لا تسخر! لا تسخر! أنت تعرف التاريخ. ألم تلاحظ أنّ الطوائف المسيحيّة المشرقيّة كلّها تقلّصت عددًا وانتشارًا جغرافيًّا باستثناء الموارنة؟ ألم تلاحظ أنّ الموارنة وحدهم نموا عددًا، وتمدّدوا جغرافيًّا على الرغم ممّا جرى لهم من ويلات، خصوصًا في عهد المماليك. حتى إنّهم أسّسوا دولة لبنان الكبير، وأصبحوا فيها المسؤولين الأوّلين”؟

قلت: “بلى، وماذا يعني ذلك”؟

قال: “إنّ الله يريد أن يحقّق، بواسطتكم، أمرًا هامًّا جدًّا جدًّا. وأنتم وحدكم قادرون على تحقيقه”.

قلتُ (وقد أخذني العجب والإضطراب): “ما هو هذا الأمر الهام جدًّا جدًّا”؟ قال: “لست أدري. لم أُعطَ موهبة الإطّلاع على نيّات الرب. ولكنّ المهمّة مصيريّة”.

هنا دخلتُ معه في جدال. وأفهمته إمّا أنّه يتسلّى بي ويسخر منّي، وإمّا أنّ رؤيا أو إلهامًا ما دفعه الى اعتقاد ما يعتقد. ولمّا أصرّ على عدم الإجابة، قلتُ له: “أنا باقٍ هنا، في هذه الغرفة إلى ما شاء الله، ولن أبرحها قبل أن تنقل إليّ ما جال في خاطرك في هذا الشأن”.

ولمّا رآني حازمًا في موقفي، ومصرًّا عليه، قال: “سأقوله لك. ولكن هل تعدني بأنّك لا تفشي السرّ”؟ وعدتُه (1). فقال: “إنّ الله أراد لبنان الكبير كي يكون على حدود فلسطين، أيْ جارًا لدولة يهوديّة ستنشأ في ما بعد. والله أبقى الموارنة وأنماهم ووسّع آفاق وجودهم، لأنّه سيُدخل يهود إسرائيل في الدين المسيحيّ بواسطتهم. لذلك فإنّ وجود لبنان الكبير ليس صدفة”. وهناك ملاءمة لغويّة ومشرقيّة بين اليهود والموارنة. لذلك سيصير اليهود مسيحيّين من طريقهم.

سكتُّ مشدوهًا. ومرّت لحظات شعرتُ في خلالها أنّني غير قادر على التفكير. ولم أستطع التعليق على ما قاله.

إنّه أمر يتخطّاني إلى ما لا نهاية. ولكنّني تذكّرت أنّ الدكتور مالك جاء على ذكر شيء من هذا في إحدى رائعاته المنشورة في مجلّة “الفصول اللبنانية”.

فور عودتي إلى منزلي، وكان الصباح قد اقترب، راجعت العدد المعني من المجلّة. وأعدتُ قراءة المقالة المطوّلة ذات العنوان المثير “الكثير المطلوب”.

وفي ما بأتي بعض ما جاء فيها: (2)

“الآرامية… لغة وحضارة، جُبٌّ نهلت منه العبرانيّة والعربيّة في آن. الآراميّة خلفيّة من خلفيّات هاتين اللغتَين والحضارتَين، بينما لا العبرانيّة ولا العربيّة تشكّل خلفيّة للآراميّة بنفس المعنى. والموارنة اليوم هم الورثة الأحياء الأحرار لهذه الخلفيّة…

من يدري إذن، ما هي إرادة العناية بشأن تطوّر علاقتهم مع العرب واليهود؟ القربى الساميّة الأساسيّة بين الموارنة والعرب واليهود قد يكون لها، في تدبير العناية، أثر مصيريّ في تطوّر هذه المنطقة المأهولة بالشعوب الثلاثة والحضارات الثلاث. قلنا إنّ سرًّا يكمن في مجرد وجود الموارنة، وقد يكون مفتاح هذا السرّ هذا الأثر المصيريّ بالذات. لا يدري السرّ غير الله. بكلّ تأكيد لا يدريه الموارنة في كماله بعد، ولا يدريه أحد في لبنان أو خارج لبنان”…

ويضيف الدكتور مالك:

“…إذا وُجد الله ووُجدت معه عنايته بكلّ شيء في الوجود، بما في ذلك، وقبل كل شيء، بالإنسان ومصيره، أليس معقولًا، بل منتظرًا، أن يكون لبقاء الموارنة، بتراثهم الآراميّ العريق، مغزًى أزليٌ في هذه الآونة بالذّات، في هذه البقعة بالذّات، حيث يُحيي اليهود تراثهم وحياتهم وذاتيتهم المستقلة…” (ص30)

ويضيف أيضًا:

“من يدري ماذا تُعدّ العناية لهم (للموارنة) بعد من جرّاء الآلام والتجارب والمحن التي يجتازون؟ إذا تأمّلنا بضوء الإيمان، حقيقة كلّ هذه العطايا العشر، وما قد تضمر في طيّاتها من تحديّات آتية، لذُهلنا من الإمكانات التي قد يكون المستقبل حبلانًا بها، للموارنة وللبنان” (ص32).

ويقول الدكتور مالك في تلخيصه “الكثير المطلوب” من الموارنة:

“خامسًا – التأكد من ان لوجود الموارنة وبقائهم مغزى وسرًّا عجيبين، وتلمّس هذا السرّ بتطلع وشغف.

سادسًا – التأكّد من أنّ هذا السرّ الدفين لا ينكفئ على لبنان فحسب، بل يتعدّاه إلى أبعدَ وأعمق منه بكثير” (34).

لا بدّ، بادئ ذي بدء، من التّنبيه إلى أنّ كلام الدكتور شارل مالك – وهو مَن هو في عالَم المسيحيّة الأرثوذكسيّة – لا يعني البتّة أنّ المسيحيّة محصورة في المارونيّة، أو أنّ الموارنة “وحدهم مالكو المسيحيّة ولأنّ المسيحيّة عند غيرهم ناقصة أو زائفة” (3). إنّه أمر لا ينبغي أن يداخله أدنى ريب، أو يخالطه أدنى شكّ. وإذا رأى الدكتور مالك أنّ “الموارنة هم المسؤولون عنها (عن المسيحيّة الحرّة) أمام العناية الإلهية” (4)  فانطلاقًا، في رأيه، من المعطيات الموضوعيّة القائمة التي ترتّب عليهم “الكثير المطلوب منهم بالذّات” (5) في حدود “الكثير المعطى لهم” (6). ثم ليس المجال هنا أن يُقيَّم ما ذهب إليه الدكتور مالك في رؤياه (؟). فضلًا عن أنّه لشرف ومسؤوليّة أن يخصّ الربّ أحدًا ـ وإنْ من غير جدارة – بدور في مخططّه الإلهي. وأصلّي بحرارة أن يُفهم ما يرمي إليه الدكتور مالك على حقيقته، فلا تأوِّله النيّات السود تأويلًا شيطانيًّا.

هامش

1 – بعد وفاته، اعتبرتُ أنّ ما قال لي ينبغي أن يُعلم ويُعلن. فضلًا عن أنّ واجبي أن أرويه لأنّه جزء ممّا حدث معي خلال مسيرة حياتي السياسيّة.

2 – شارل مالك، الكثير المطلوب، من الصفحة 24 إلى الصفحة 34.

3 – شارل مالك، الكثير المطلوب، ص 25.

4 – المرجع نفسه.

5 – المرجع نفسه ص 24.

6 – المرجع نفسه.

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​​​​​​​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل