ليس من شيم حزب القوات اللبنانية التنصّل من تعهداته والتزاماته، وبهذا المعنى فهو لا يزال ملتزماً بوثيقة المصالحة التاريخية التي عقدها مع تيار المردة برعاية بكركي في تشرين الثاني 2018، لذلك فهو يحاول تحييد النائب السابق سليمان فرنجية كشخصية سياسية لها رمزيتها الزغرتاوية، عن معاركه السيادية والإعلامية والرئاسية والسياسية المفتوحة مع دويلة 8 آذار، لمنعها من إيصال مرشحها الرئاسي الذي سيُعمّق الهوة الجهنمية التي خلفّها العهد السابق، بصرف النظر عن اسم هذا المرشح أو هويته، خصوصاً أن وثيقة المصالحة التي تطوي صفحة الخصومة التاريخية بين القوات والمردة، تُشدد في الوقت ذاته على احتفاظ كل طرف من طرفيها بقناعاته السياسية المتباعدة، من دون أن يفسد ذلك في الوّد قضية.
وممّا نصّت عليه وثيقة المصالحة التاريخية:
“ينطلق اللقاء من قاعدة تمسّك كل طرف بقناعاته وثوابته السياسية ولا تقيّد حرية الخيارات والتوجّهات السياسية ولا تحمل الزامات محددة، بل هي قرار لتخطي مرحلة أليمة، ووضع أسس حوار مستمر تطلعاً إلى أفق مستقبلي مفتوح.
الاختلاف السياسي في بلد سيَد ودولة مؤسسات لا يمنع التلاقي حول القضايا الوطنية والإنسانية والاجتماعية والإنمائية مع السعي الدائم لتضييق مساحة الاختلاف السياسي قدر الإمكان”…
أما بعد، التسويق بأن فرنجية هو مرشح المسلمين للموقع الرئاسي لا يُعبّر عن الواقع، لأن الأخير مرشح الثنائي الشيعي ومن لف لفيفهم من النواب السنّة لـ8 آذار، وليس مرشح المسلمين سنّة وشيعة ودروز ككل، ولأنه، بشكلٍ أدق، مرشح الغالبية الشيعية لا كلّهم، والأقلية السنّية وليس غالبيتهم، والأقلية الدرزية الممثلة بارسلان ووهاب، وليس الغالبية الدرزية بزعامة جنبلاط التي ثابرت على التصويت للنائب ميشال معوض، وقدّمت سلّةً من الأسماء الرئاسية، ليس اسم فرنجية من بينها.
يعتقد حزب الله أن ترشيح فرنجية يمكّنه من التطبيع مع الطائفة السنية في لبنان، ودول الخليج من خلفها، فهو يريد رئيساً من صلب محور الممانعة في المضمون، إنما “ناعم الملمس” تجاه الطائفة السنية في الشكل، فيحافظ حزب الله من خلاله على رأس هرم التركيبة السلطوية التي يقيمها ويسيطر عليها منذ العام 1990 في لبنان، ويستحوذ بالتوازي على أموال الخليج التي تحول دون سقوط هكذا تركيبة وسقوط حزب الله معها في مجهول أي تركيبةٍ جديدة.
غير أن موقف المملكة العربية السعودية الرافض لمرشح من 8 آذار، بما لها من موقعٍ وهالةٍ ونفوذ عربياً ودولياً وإسلامياً وخليجياً، يحول دون تحقيق حزب الله لهدفه، وهو ما يجعل من فرنجية مجرد مرشحٍ للثنائي فحسب، من دون أن يُشكّل أي قيمة مالية واقتصادية عربية وخليجية ودولية مُضافة تمكّن الحزب من استنهاض تركيبته السلطوية المتلاشية.
وبالتالي، حتى لو تمكن حزب الله من إيصال فرنجية بـ65 صوتاً، غير أن ذلك لن يساهم في انتشاله من الهوة الاقتصادية التي أوقع نفسه واللبنانيين بها، بل سيكون عهده استكمالاً للسنوات الست الماضية، وهذا ما لا يريده اللبنانيون، مسلمين ومسيحيين، الذين يتوقون لرئيسٍ إنقاذي يطمئن الدول المانحة، ويستقطب رؤوس الأموال الخليجية، ويحقق النمو والازدهار في لبنان.
الموقف السعودي الرافض لمرشحٍ من حزب الله، يضع النواب السنّة المترددين أو المستقلين أو المستقبليين السابقين، أمام لحظة الحقيقة الصعبة، ذلك أن خروجهم عن الإرادة السعودية يجعلهم في موقع المكشوفين خليجياً وسنياً والمُستتبعين للمحور الإيراني، حتى ولو كانوا يرتاحون ضمنياً لفرنجية، انطلاقاً من اعتقادهم أنه يُضعف تأثير القوات اللبنانية والتيار العوني على ملف الاستحقاق الرئاسي، ويُحيلهم الى بيضة القبّان فيه، وهذا ما سيجعلهم يعيدون النظر بموقفهم، كونه يضع لهم مستقبلهم السياسي على المحك، خصوصاً اذا ما تبيّن أن عهد فرنجية ما هو إلا استكمال للعهد السابق في معظم جوانبه السياسية والمعيشية والمادية والاستراتيجية وغيرها.
ربط النزاع الذي يريده حزب الله مع الطائفة السنية في لبنان من خلال ترشيح فرنجية، يُفترض أن يبدأ أولاً بتسليم المتهمين باغتيال زعيم الطائفة السنية رفيق الحريري، وبالانسحاب من سوريا، واليمن، حيث يخوض حزب الله المعارك ضد الإرادة العربية والسنية الجامعة، فيكون التلاقي حول مرشحٍ رئاسي تتويج لهذا المسار، وليس مجرد عملية تعمية عن الحقائق الدامغة لبنانياً، وعلى مستوى الإقليم.
صحيحٌ أن ما يُفرّق فرنجية عن باسيل، هو أن الأول يتمتّع بالفروسية والصدق وأخلاقيات معينّة، غير أن مضمون طرحهما السياسي تجاه نظام الأسد وسلاح حزب الله والمحكمة الخاصة بلبنان، هو نفسه.
كما أن الفارق الآخر بينهما، هو أن باسيل “عينه ضيقة” على كل المناصب والمواقع، بينما فرنجية، بحسب اعتقاد المسلمين، لن ينافس زعماء السنّة والشيعة، سواء رئيس الحكومة أو رئيس مجلس النواب، على المواقع، فيجعلهم يتمددون ضمن المدى الحيوي للحصة المسيحية في النظام. غير أن ذلك ليس سبباً كافياً للنواب السنّة المترددين لرفض باسيل والقبول بفرنجية، بالنظر الى أن المشروعية المسيحية المنتقصة لفرنجية ستجعله اكثر تشدداً مسيحياً، حتى لا يظهر بمظهر المفرّط بالحصة المسيحية في الدولة، وهذا ما حصل بالضبط مع جدّه الراحل الرئيس سليمان فرنجية عندما اعتقد زعماء المسلمين أن الأخير سيكون أقل تشدداً من زعماء الحلف الثلاثي، فأثبتت الوقائع العكس تماماً، وصولاً الى اندلاع حربٍ مسيحية إسلامية، شكّل موضوع الصلاحيات الرئاسية جانباً أساسياً منها.
من هنا، يتبيّن أن ما يميّز فرنجية عن باسيل هو الأخلاقيات فقط، فيما الموقف السياسي والاستراتيجي والموقف من الحصة المسيحية في السلطة سيكون هو نفسه، وبالتالي فإن الأخلاقيات وحدها في دولةٍ لبنانية تقوم على توازنات طائفية وإقليمية ودولية دقيقة، وفي ظرفٍ اقتصادي ومعيشي دقيق، ليس كافياً.
كما أن الأخلاقيات وحدها لا تُطعم فقيراً ولا تُدخل الى مستشفى ولا تفتح مدرسة ولا تُنزِل سعر الدولار، خصوصاً إذا لم تقترن بالبُعد الانقاذي والإصلاحي الذي يحتاجه لبنان اليوم. ولو كان هذا الجانب الأخلاقي هو المعيار الذي ينطلق منه النواب السنة المترددون لاختيار فرنجية ورفض باسيل، لما اختاروا عن سمير جعجع بديلاً، ليس لأنه يتمتع بالأخلاقيات العالية والصفة الانقاذية الإصلاحية فحسب، بل لأنه أيضاً وأيضاً ينتمي الى الخط السياسي والاستراتيجي ذاته داخلياً وعربياً ودولياً، ولأن سبق أن سلّف الطائفة السنية منذ العام 2005 مواقف وطنية وخطوات مشرفّة، ولأن مشروعيته المسيحية الكبيرة تسمح له بأن يكون اكثر مرونة بالنسبة للحصة المسيحية في السلطة.
ففكروا مرتين ولا تضيّعوا البوصلة مرّة من جديد.