سلاح تعطيل النصاب في وجه الإستحقاق الرئاسي…

حجم الخط

كتب شربل زغيب في “المسيرة” – العدد 1738

سلاح تعطيل النصاب في وجه الإستحقاق الرئاسي

“تشريع الضرورة” أم “تشريع الفراغ”؟!

بعد مرور حوالى خمسة أشهر على تسيير الدولة من دون رأس، وانعقاد الجلسة البرلمانية رقم 11 لإنتخاب من يملأ هذا المنصب، أصبح الفراغ والشغور الرئاسي أمرًا طبيعيًا، وكأنه مفروض عند انتهاء كل ولاية رئاسية التغاضي والتملص من تطبيق أحكام الدستور اللبناني، و»تفضيل» اللجوء الى الحوارات والتسويات السياسية سواء الداخلية أو الخارجية للإتفاق على رئيسٍ توافقي يدير الأزمة، إن دارها، من دون معالجتها، أو إنتظار نشوب حوادث أمنية تفرض رئيسًا بالأمر الواقع.

روزنامة التاريخ السياسي الحديث في لبنان، مليئة بالفراغ والشغور في موقع رئاسة الجمهورية، فإذا تصفّحنا هذه الروزنامة نرى أن لبنان قد عرف أربع مرات شغوراً رئاسياً، والفترة الحالية هي فترة الشغور الخامس.

إن عدّاد الشغور الرئاسي الحالي والخامس بدأ مع نهاية ولاية الرئيس ميشال عون، ولا زال المشهد ضبابياً حول هوية الرئيس المقبل. فسلاح «تعطيل النصاب القانوني» قادر على فرض نفسه بمنع أي مرشح من أي فريق نيل عدد الأصوات اللاّزم والمفروض قانوناً لملء سدّة الرئاسة.

إن هذا «السلاح» المتوازي مع مشهديّة خروج النواب من جلسات الانتخاب، إن هو إلا تخلّف نواب الأمة واستنكافهم عن أداء المهام الموكلة إليهم، ويقتضي أعادة النظر بمسؤولياتهم الوظيفية والأخلاقية ووضع نصب أعينهم دستور الأمة لا دستور الإصطفافات والحسابات السياسية الضيّقة. فمهمة النائب الأساسية هي المشاركة في سنّ القوانين وتشريعها، ومراقبة أعمال الحكومة وتوجيه الأسئلة إليها والى أعضائها ومحاسبتها، والمشاركة في جلسات الانتخاب والإستحقاقات الدستورية، فإن تخلّف النائب الوكيل عن هذه المهام، يُعتبر متخلّفاً عن تنفيذ الوكالة المعطاة له من الشعب.

ففي عام 1970، وكانت الانتخابات الرئاسية في أوج صراعها بين كل من المرشحين الياس سركيس وسليمان فرنجية، حيث تعذّر حصول أي من المرشحين على غالبية الثلثين اللازمة، إنتقلت الانتخابات الى الدورة الثانية مع بقاء النواب في المجلس، فأدلوا بأصواتهم وفاز الرئيس سليمان فرنجية بفارق صوت واحد فقط.

هكذا تُدار العملية الديمقراطية والدستورية، وذلك على عكس ما يحصل في هذا «الزمن الرديء».

إن النصوص الدستوريّة الناظمة لحالة الفراغ الرئاسي واضحة وضوحاً تاماً بشكل لا يحمل التأويل والتحوير، فالمواد /73/ و/74/ و/75/ من الدستور اللبناني قد نصّت على ضرورة إلتئام مجلس النواب حكماً وعفواً بحكم القانون في حال خلو سدّة الرئاسة، ويُعتبر المجلس في هذه الحالة، هيئة انتخابية لا هيئة إشتراعية ويترتب عليه الشروع حالاً في انتخاب رئيس الدولة من دون مناقشة أو القيام بأي عمل آخر.

فإن هذه المواد الدستورية لا سيّما المادة /75/ من الدستور اللبناني تعلّق العمل التشريعي لمجلس النواب في حالة واحدة وهي خلو سدّة الرئاسة، ما يعني أن أي عمل تشريعي قبل انتخاب رئيس للجمهورية يكون قابل للإبطال أمام المجلس الدستوري المخوّل مراقبة دستورية القوانين.

ونصّت أيضاً المادة /49/ من الدستور على أنه يُنتخب رئيس الجمهورية بالإقتراع السري بغالبية الثلثين من مجلس النواب في الدورة الأولى، ويُكتفى بالغالبية المطلقة في دورات الإقتراع التي تليها.

في الحقيقة يعمد الفريق المعطل الى تحوير نصّ المادّة /49/ من الدستور والتوسع في تفسيرها أو بالحري تطبيقها على غير حقيقتها، في حين واضحة وجلية لناحية تعيين النصاب القانوني الواجب بالجلسة الأولى، من دون تعيين النصاب بالجلسة الثانية، فاكتفت هذه المادة بذكر «الغالبية المطلقة» في الدورات التي تليها، الأمر الذي فسره بعض الحقوقيين بأن النصاب الواجب في الدورة الثانية والدورات التي تليها هو 65، وذلك استناداً لنص المادة /34/ من الدستور اللبناني التي نصت على أنه لا يكون اجتماع المجلس قانونياً ما لم تحضره الأكثرية من الأعضاء الذين يؤلفونه وتتخذ القرارات بغالبية الأصوات.

فيما اعتبرت آراء حقوقية أخرى أنه لو أراد المشرّع الدستوري في المادة /73/ نصابًا خاصًا لانتخاب الرئيس لكان نص على ذلك صراحة، ما يعني أن المادة /49/ هي مادة انتخاب وليست مادة للإنعقاد، حيث يُكتفى بحضور الغالبية المطلقة لأعضاء المجلس في الدورة الثانية من أجل اعتباره منعقداً بصورة قانونية في حال لم يحصل الرئيس على غالبية الثلثين في الدورة الأولى لتأمين هذا للنصاب.

أمام ضبابية النصّ الراهن، وتفسيره بحسب أهواء الفريق المعطّل، نكون أمام إستحالة مطلقة لانتخاب رئيس من دون توافق الكتل السياسية الرئيسية.

على الرغم من وضوح المواد الدستورية المذكورة وإلزامية تطبيقها، وجّه رئيس مجلس النواب نبيه برّي دعوة الى الكتل النيابية لعقد جلسات تشريعية موضوعها مناقشة قانون «الكابيتال كونترول» وتمديد ولاية المدراء العامين والأمنيين خاصّة ولاية المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم التي تنتهي في مطلع شهر آذار من العام الحالي، إضافة الى مواضيع أخرى، وذلك تحت ذريعة «تشريع الضرورة». وقد لاقت دعوته إستنفارا ً لبعض الأحزاب والكتل النيابية المُعارضة، الذين وقّعوا على عريضة نيابية أدت الى تعطيل النصاب وإلغاء الجلسة المخطّط لانعقادها.

إن مفهوم «تشريع الضرورة» قد شكّل منذ سنوات في لبنان، إشكالية دستورية مرتبطة بإمكانية ممارسة مجلس النواب لصلاحياته التشريعية خلال المهلة الدستورية المفروضة لانتخاب رئيس للجمهورية. فهناك سابقة حصلت عام 2014 بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان، والدخول في أطول فراغ رئاسي شهده لبنان والذي استمر حتى العام 2016، حيث توافق مجلس النواب على عقد جلسة تشريعية للتمديد لنفسه لمدة ثلاث سنوات لغاية عام 2017 وقد سمّى بعض «المؤيدين» للتمديد هذه الجلسة بجلسة «تشريع الضرورة» منعاً لنهاية ولاية مجلس النواب من دون إجراء انتخابات نيابية. في حين اعتبر البعض آنذاك ولا سيّما سفيرة الاتحاد الأوروبي أنجيلينا إيخهورست أنه يوم حزين في التاريخ الدستوري اللبناني. وفي المراجعة التي تقدم بها بعض النواب أمام المجلس الدستوري فقد نص هذا الأخير في حيثيات قراره على أن أسباب وذرائع التمديد غير موجودة ومخالفة للدستور، وإن خلص في فقرته الحكمية الى رد الطعن خشية الوقوع في الفراغ في المؤسسات الدستورية. ليعود المجلس ويعقد جلسة تشريعية أخرى عام 2015 أقرّ خلالها مجموعة من القوانين بينها قوانين مكافحة تبييض الأموال.

لم يلحظ الدستور اللبناني مفهوم «تشريع الضرورة» بل هذا المفهوم ان هو إلا بدعة سياسية نشأت خلال الشغور الرئاسي بهدف تشريع الفراغ والتقليل من أهمية موقع الرئاسة وضعضعة إنتظام المؤسسات، يلجأ إليها في كل مرة بعض الأطراف السياسيين لزوم مصالحهم الشخصيّة والحزبية. فدعوة المجلس النيابي لتشريع التمديد بموقع المدراء العامين والأمنيين خشية الوقوع في الفراغ الأمني والإداري، هي لزوم ما لا يلزم في ظل إمكانية إجراء التمديد عن طريق إصدار مرسوم من مجلس الوزراء أو قرار من الوزير المختص يقضي بالتمديد، كما حصل حين تم تمديد ولاية قائد الجيش السابق العماد جان قهوجي.

إن التشريع بمفهومه العام يُعتبر دائماً حاجة ملحّة وقصوى ليتلازم وتطورات الحياة المعيشية التي تتبدل في مسار حياة المواطن والبلاد، إنما أحكام الدستور واضحة وصريحة لجهّة تقسيم عمل المجلس الى هيئتين، تشريعية وانتخابية، وخلال القيام بمهامه الانتخابي لا يجوز له القيام بأي مناقشة أو عمل آخر.

وإن كانت «الضرورات تبيح المحظورات»، فإن «الطبيعة تكره الفراغ» وانتخاب رئيس جديد للجمهورية هو الأولى اليوم، حفاظاً على قدسية الدستور، كونه رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن، يسهر على احترام الدستور والمحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه، وموقعه وصلاحياته لا يمكن تجييرها لأي موقع آخر.

فمن المعيب اليوم في هذا الظرف الإستثنائي الذي تمرّ به البلاد، مناقشة دستورية انعقاد جلسات المجلس النيابي بدلاً من التداول والمناقشة بمواصفات الرئيس المقبل لمواجهة التحديات الراهنة، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مؤسسات وإدارات وشعب ضاقت أنفاسه تحت أنقاض الزلازل السياسية والأمنية والاقتصادية والمالية.

 

شربل زغيب ـ  باحث قانوني

 

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​​​​​​​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل