قيلَ، ونحنُ نؤَيِّدُ ما قيل، إنّ لبنانَ هو، من بينِ بلدانِ الدّنيا، الأَطيَبُ مسكناً، والأَحسنُ رَوضاً، فكأنّه الدرُّ الأَنيق. وهو محروسٌ بِعَينِ القُدرةِ حتى لا يكونَ جسداً عارياً بِلا لَون، وبالتالي، فكيانُهُ مُنصَهرٌ في ذاتِ اللهِ، لِذا، لن تَزيحَ جبالُهُ عن مَقارِّها. أمّا الإشكاليّةُ التي تفرضُ نفسَها، في يومِنا، مُستَنِدةً الى الوقائعِ والأحداث، فيَتشابكُ فيها الشكُّ والإيمان، لتطرحَ ما هو بديهيٌّ، موضوعياً: هل لبنانُ الطَيِّبُ الخَير، هو صالِحٌ، بعدُ، للبَعثِ والنُّهوض؟
مَنْ هم من بَطانةِ الوطن، ونحن منهم، ما رُوِينا من مائِهِ إلّا زِدْنا ظَمَأً، وإذا عُرِضَت علينا النّارُ لأَجلِهِ، لم نَتَّقِها، فالوطنُ مُستَأنَسٌ لنا، بِطولِ ما صادَقناه، وبِقَدْرِ ما كانَ وَجْدُنا بهِ شَرِهاً. ولمّا بدا لنا جرحُهُ نازِفاً، لم نقفْ منهُ على الأطلال، وأَفصَحنا عن ذَوبِ ذاتِهِ في ذَواتِنا، بتأديتِنا له ما كان يُملي عنفوانُنا على دَمِنا. من هنا، فنحنُ المُصطَحِبينَ برائحةِ أرضِهِ، والمُدَخَّرينَ بحُبِّهِ في لُجَجِ قلوبِنا، لا يزالُ روحُنا المُلتَهِبُ على إيمانِهِ باليومِ الثّالث.
أمّا قَدّاحو الشرّ، مَنْ رَشَحَت مُخَبَّآتُ عُراهُم الوطنيِّ عن استِطيابِهم الغَدرَ، واستِئناسِهم بالخيانة، وتَصافيهم مع العَمالة، فقد كانَ لِمَخالبِ عَبَثِهم بمصيرِ البلادِ رَجَحان، ولغُربَتِهم عن الولاءِ مؤامرةٌ خرَّبَتِ الكيانَ، وشلَّعَتِ الهويّة، وسحقَت أملَ النّاسِ بالغَد. هؤلاءِ الذين حاولوا تَطبيعَ الوطنِ بالخَوف، وافتراسَ كرامتِهِ بالوصاية، انقَضّوا على مقدِّراتِ الدولة، بِما أوتوا من فَيضِ قوّةٍ غيرِ مشروعة، وَدَعمٍ من مَعطوبينَ بَلَدِيّينَ مُؤَطَّرينَ على الوصوليّةِ والفساد، لتمريرِ أغراضٍ استراتيجية مشبوهة، تَقضي على البلادِ بتَفكيكِ بُنياتِها الأمنيّةِ والقضائيّةِ والماليّة، وبتَفتيقِ الصِّلةِ بين إنسانِها ومفهومِ الانتماء، متوسِّلينَ القَمعَ، والتّرهيبَ، والقَضمَ، وإجهاضَ مشروعِ الدولةِ القادرةِ والباسِطَةِ سلطتَها على مساحةِ الجمهوريّةِ كاملةً.
هذه هي التّركيبةُ التي تَطفو على سطحِ الواقعِ، اليوم، والتي تُمسِكُ بِهَمِّ النّاس، فالصِّراعُ بين قُطبَي التّركيبةِ، ليسَ تَكتياً كلاسيكيّاً، بمعنى ” القَوطَبَة ” لحيازةِ مركزٍ في الوزارةِ أو الإدارةِ أو النّيابة… بِقَدْرِ ما هو صراعٌ واسعٌ يتواجهُ فيهِ طَرحانِ متناقِضان، واحدُهما مُدَمِّرٌ للكيانِ، وجوداً وهويّةً، وآخرُ مرتبِطٌ بالوطنِ، نظاماً ومُرتَجًى. إنّ التّوصيفَ غيرَ المُعَقَّدِ لهذا الصّراع، يكمنُ، تحديداً، في كلمةِ “مَصيريّ”، من هنا، يُفهَمُ انقسامُ الفَريقَينِ الى واحدٍ يغتالُ المفهومَ الكيانيَّ للوطن، وآخرَ يعيشُ حالةً اندماجيّةً معه، تصلُ الى حَدِّ التَّماهي المُطلَق به.
ينبغي ألّا نُسَخِّفَ هذا الصّراعَ المتماديَ منذ زمن، والذي يعملُ الفريقُ ” اللّاكيانيّ ” على توصيفِهِ، زُوراً، بالسياسيّ، أو النِّظاميّ، ساعِياً الى تقليصِ مساحةِ الانتباه الى حقيقتِهِ المُهلِكَة. وما تعريفُ لبنانَ بأنّه وطنُ المصادفة، أو بِدعةُ الجغرافيا، أو وَعدُ الاستعمار الفرنسيِّ بعدَ ” سايس – بيكو “، إلّا المؤامرةُ ذاتُ الخطورةِ القُصوى. ولا تَخفى، أبداً، أهدافُ هذا التَّمريرِ المؤامراتيِّ الذي يسعى الى تَكتيلِ إصاباتٍ بُنيَويّةٍ في حيثيّةِ السيادةِ، للمساسِ، تحديداً، بالكيانِ الوجوديِّ للوطن، ولتسطيحِ فكرةِ الدولة. ولا يُفهَمُ من هذا التَسَلُّلِ الخادِعِ إلّا السَّطوُ على ” ولايةِ ” لبنان، وتَقويضُ هويّتِهِ، وتشليعُ ولاءِ أَهليهِ، والولاءُ هو عمودُ الوطنِ الأقوى، ومرتكزُهُ المتين.
إنّ لبنانَ، اليوم، ليسَ له الكلمةُ الوازنةُ في القرار، ولَو في الشّكل، فهناكَ وَكيلٌ عنه، هو ليسَ، في الواقعِ، سوى نَكبتِهِ الحقيقيّة. وهذا الوكيلُ يحملُ شعاراتٍ خشبيّةً تلعبُ على أوتارٍ حسّاسةٍ يفوحُ منها أكثرُ من صفةٍ سيِّئة، ليسَ أَقلَّها التّسويقُ لنفسِهِ مُنقِذاً، والتّرويجُ لحَلٍّ يدَّعي ترسيخَ عناصرِ الدولةِ، وأيّةِ دولة؟؟؟ فبدلاً من الارتقاء صوبَ الأفضلِ، من حريّةٍ وعدالةٍ واستقرار، واستِظلالِ الدّستورِ والقوانين التي توفِّرُ للجميعِ المساواةَ بالحقوقِ والواجبات، انتقالاً من أنقاضِ الفوضى، ورواسبِ الفساد، واستباحةِ القِيَم، يُسَرِّبُ الوكيلُ القاضِمُ مشروعَ هيمنةٍ يُعيدُ البلدَ الى زمنِ الانحطاط، والإقطاعِ، والاستبداد، والعنفِ، والقَبَليّة…
في مواجهةِ هذا الواقعِ الذي غَيَّبَ حالَ السيادة، وأَزهَقَ مفهومَ الدولةِ الحديثة، وفرضَ عسكرةً قمعيّةً جائرةً أَفقَدَتِ الوطنَ الحريةَ والخُبزَ معاً، لن نُزَكِّيَ لَوثَةَ الاستئثار بالبلاد، واستعبادِ العِباد، بالخوفِ، والخضوعِ، والإحباطِ، واليأس، وينبغي أن نعملَ، جميعاً، على إنضاجِ ” الأرضِ” لتُصبحَ مهيَّأَةً للمواجهة، انطلاقاً من مَنعِ إيصالِ دميةٍ تابِعةٍ لما يُسَمّى فريق الممانَعة، الى سدّةِ الرئاسة، وصولاً الى التصدّي لخطّةِ تركيعِ الوطن، هذا المُؤَيَّدِ بروح الله، والذي لم يَرضَ، ولن يرضى، معنا، بأقّلَّ من استمرارِهِ سيّداً يَتَنَشَّقُ الحريّة.