الأباتي بولس نعمان – “المسيرة” – العدد 1738
لأنّها، بكلّ بساطة، ليست مذكّرات شخصيّة وإن كُتِبَتْ بهذا القالب المذكراتي الشخصي.
ولأن وراء هذه الكلمات السحرية الثلاث، الإنسان والأرض والحريّة، تاريخًا من النضال يرتقي إلى أكثر من ألف وخمس مئة سنة. تاريخ، لا بل مأساة إنسانية كنت أتحسّسها في فكري وفي ضميري، مع من عاشها بالفعل وعاناها بالحياة، وأنا لا أزال أدرس تاريخ تكوّن لبنان وطنًا حرًّا سيّدًا مستقلاًّ. وكنت أتساءل: لماذا هذه الواحة من الحريّة في صحراء من الإذلال للإنسان، أيّ إنسان، وللحريّة، أيّة حريّة؟
سوء فهم هو؟ أم سوء حظٍّ ضرب إنسان شرقنا في عمق أعماقه وجعله يفتش بكلّ قواه عن الحريّة، وعن بقعة من الأرض تضمن عيش الحريّة بكلّ أبعادها؟، وكما كتبت في المقدّمة: «هذه القيم، أو هذه الثروة، كما دعاها الأب ميشال الحايك، كانت قد تضعضعت وتبدّدت لو لم تلتقِ بلبنان وتتحصَّن فيه. فالأرض اللبنانية، لولا الإنسانُ اللبناني لأصابها القحط والبوار والتصحُّر ما أصاب غيرها من بقاع الشرق، وهذا الإنسان المميّز التوّاق إلى الحريّة، لو لم يلتقِ بدوره بهذه الأرض لظلَّ هائمًا على وجهه حتى الضياع كما ضاع العديد من أمم الشرق.
ملحمة الأجداد كنت أعيشها قبل الأحداث وفيها وبعدها، ولمّا بدأَتِ الحربُ على لبنان وهدَّدَتِ الوجودَ والثروة معًا، ازدَدْتُ قناعة بأنّ علينا أن نفعل شيئًا غير الدفاع، شيئًا يُذكِّرُ الأجيال القادمة بواجب تحصين هذا الوطن القيمة، هذا الحلم الذي حوّله الآباء والأجداد إلى واقع نُحسَدُ عليه اليوم. فكانت فكرة الكتابة، وكم كنت جبانًا في عينيّ نفسي وفي أعين الأجيال القادمة لو لم أكتب هذه الخبرة الأليمة، وكم كنت غير وفيٍّ للتعب والضنا والقهر التراكميّ منذ أجيال، وكم كنت أسأت تقدير العذابات المحتملة والدماء المهدورة والشهادات الحياتيّة الصافية النقيّة التي أهرقت على مذبح الدفاع عن هذا الوطن القيمة، لو لم أكتب.
كتبت وسأكمل الكتابة لأرتاح ويرتاح ضميري، لأفرغ ذاتي من حلم قديم قد بدأ يٌقلقني. ما بديل لبنان حصنًا للحرية، وقد تطوّرت تقنيّات الشرّ؟ وكنت أظنّ أنّني وحدي أعاني هذا القلق، وإذ بي أفاجأ بأنّ جيلاً من الشباب والشابات يعاني القلق ذاتَهُ.
إنَّ الوجودَ المسيحيّ في لبنان لم يكن ولن يكون يومًا لوحةً معلّقةً على جدار التاريخ.
فإذا نظرنا إلى المآسي التي خلّفها المماليك والعثمانيون في جبل لبنان، لمّا صدَّقنا كيف قُيِّض للمسيحيين الرازحين تحت مصائب التاريخ أن يولدوا مجدّدًا من رمادهم ويستعيدوا دورَهم الريادي في الأنسنة والمثاقفة الذي وصل إلى أوجه في القرن العشرين.
إنّ من يصنعُ التاريخَ ليس الإنسانُ وحدَهُ، في محدوديّتهِ وتطلّعاتِهِ الخيِّرة أو وفي سعيه المجنون إلى التسلّط وإذلال الآخر وتهميشهِ وإلغائه، بل مَن هو في أصل الوجود ومَصَبِّه، أللهُ المحبّةُ والمصالحةُ والخلاص.
ـ كلمة ألقاها الأباتي بولس نعمان في حفل توقيع مذكراته “الإنسان الوطن الحرية” في قاعة “يوحنا بولس الثاني” – جامعة الروح القدس – الكسليك بتاريخ 18 حزيران 2009.
الكلمة موقف، أيًا يكن موقِعُها ووَقعُها. في الفكر، في السياسة،
في الدين، في الثقافة، في المجتمع، في الاقتصاد، في البيئة…
وحتى تصبح هذه “الكلمة” عابِرة في الزمان والمكان، تفتح مجلة “المسيرة” صفحتها “آخر الكلام” لكتَّاب وسياسيين ورجال دين وفكر وفلسفة واقتصاد، ليسطِّروا عليها كلمة… وموقف.
“المسيرة”
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]