تاريخ من تاريخ…
لأننا واجهنا ببسالة دفاعاً عن لبنان، ولأننا نصرّ على بناء الدولة وعلى ألا يتكرر الماضي، نسترجع من ذاكرة الزمن أحداثاً خبرناها، لتكون العبرة لمن اعتبر.
نعم، هي الذكرى للعبرة وليس استفزازاً، الذكرى للقاء عابر مع أبطال صنعوا مجد لبنان ويستحقون العودة إليهم عبر صفحات الوقت. الذكرى لتكريم من كانوا متراساً بأجسادهم ليموتوا هم، ويحيا لبنان.
أنا الأب يوسف شلفون، أخدم الربّ في دير مار جرجس دير جنين. وصلتُ إلى بيت لحم بعد أن كلّفتني الرهبانية اللبنانية المارونية البقاء مدة سنة هناك وذلك للمساعدة في للقضايا الرعوية.
عند عودتي، اتجهت إلى دير مار جرجس في دير جنين لأن من في الدير بحاجة لمساعدة، بعد أن طلبتُ الإذن من الرهبانية.
كانت الحلقة تضيق أكثر فأكثر على أهالي عكار… غرباء، مسلّحون فلسطينيون وسوريون… أصبحنا نعيش نقصاً في المواد الغذائية، فما كان عليّ إلا أن بدأتُ بمساعدة إخوتي بالمزروعات في الأراضي التي تحيط بالدير.
17 كانون الثاني من العام 1976، عيد مار أنطونيوس الكبير، سمعنا عدة طلقات رصاص وتبيّن لنا أن ثلاثة شبان من دير جنين خرجوا من بيتهم ولم يعودوا، بحثنا عنهم كثيراً وبقينا حتى ساعات الفجر الأولى من دون أن نعلم عنهم شيئاً.
يوم الأحد 18 شباط من العام 1976، تناولتُ طعام الغذاء مع الكاهنين جرجس حرب ويوسف فرح، وتوجهت بعد ذلك إلى الصيد آخذاً معي بندقية، ورحت أسير ناحية الغابة القريبة منا. بعد دقائق سمعتُ هدير آلياتٍ عسكرية، وصوت إطلاق رصاص ودويّ قنابل، ورأيتُ الدخان الأسود الكثيف يتصاعد من المنازل والطرقات. أسرعتُ نحو الغابة واختبأتُ هناك، كانت أصوات الرصاص تخترق الليل من حينِ لآخر، لتصل إلى أذنيّ كلسعات العقرب السامّ. بقيتُ في البرية حتى الساعة الواحدة فجراً، وكان الصقيع لا يُحتمل فقرّرتُ العودة إلى الدير “ويللي بدو يصير يصير”.
أخذتُ طريقاً فرعية، وصلتُ ورائحة الدخان والموت في أنفي. لا رهبان… لا زوار… لا أحد. ومن كثرة التعب والنعس غفوتُ ولم أستيقظ إلا عند الساعة الثامنة من صباح اليوم التالي. لبستُ ثياباً مدنية ووضعتُ على رأسي كوفية وعقالاً وخرجتُ نحو الضيعة التي تبعدُ عن الدير مئات من الأمتار، فوجدتُ بالقرب من منزل الأب أنطوان الطحّان جثتي كلّ من الأب الرئيس جرجس حرب والأب يوسف فرح فاتحين أيديهما بشكل صليب. نزلتُ من هناك إلى الساحة وأحصيتُ عدد القتلى وكانوا تسعة.
ركعتُ على الأرض فاتحاً يديّ إلى الأعلى ناظراً إلى السماء:
“يا يسوع أنت إلهنا، فداك ما يحصل، كن عوناً لنا ولوطننا…
ساعدني لألملم جثث شهدائنا الأبرار
استقبلهم في كنفك السماوي… آمين”.