كتب سيمون سمعان في “المسيرة” – العدد 1738
نقابات لبنان… بين العمل والأمل
الدولة ألغت دورها وعطَّلتها
بلغت الحركة النقابية في لبنان حدًّا كانت معه تُسقِط حكومات وتحقِّق معجزات، لأنها كانت متضامنة وهادفة. لكن «جرّافة الهدم» السياسية التي ما تركت قطاعًا إلا ودمّرته أو أصابته بالتصدّعات، لم توفر النقابات لا بل استهدفتها لشل عصب المطالبة بما لا يخدم مصالح الحاكمين أكانوا محتلّين كما في الزمن السوري أو محلّيين كما في الزمن التالي. من يومها بدأت النقابات تتفجّر وتتشظّى وتتوالد. ظل البعض منها متماسكًا موحّدًا، لكنه ما استطاع البقاء محصّنًا خارج التجاذبات والتدخلات. وإن كان هذا همًّا مضى، إلا أن الهمّ المتجدد هو قدرة النقابات حاليًّا على القيام بدورها في ظل انهيارات البلد التي ما تركت قدرةً حتى لمحاولات الإنقاذ.
معلوم أن التردّي الذي يعانيه لبنان على كل المستويات وفي كل القطاعات، إنما أصاب في ما أصاب العمل النقابي المنتِج. وإذا كانت النقابات تشكَّل أصلاً لتحقيق مصالح ومطالب وتأمين حقوق المنتسبين إليها، فكيف لها مثلًا أن ترفع مداخيل العمّال والموظفين في بلد مفلس؟ وكيف لها أن تؤمّن الحقوق ولا قضاء ينعقد، وإن انعقد فمعظمه مأجور ولا ينطق بالحق؟ وكيف لها أن تؤمّن المطالب ولا سلطة قائمة تراجعها وتضغط عليها لإجبارها على الإعتراف بالحقوق وتلبيتها؟
الأمثلة على ذلك كثيرة واللائحة تطول. فحتّى نقابات المهن الحرّة، ممن كانت برامج عملهم تتطلّع إلى التطوير والتغيير إلى الأفضل، باتت اليوم متبدّلة إلى حدود البحث عن كيفية سد الثقوب في السفينة لمنع الغرق لا لإكمال الرحلة على رغم الأمواج. وهناك نقابات المؤسسات كالمستشفيات والفنادق والصناعيين وسواهم حيث باتوا مضطرين للعمل على جبهتين: واحدة لتلبية مطالب العاملين لديهم، ولو بالحد الأدنى. وأخرى لحماية مؤسساتهم من السقوط وضمان استمراريتها أيضًا بالحد الأدنى.
إنها واحدة من معجزات القدر اللبناني ألقاضي بأن تستنبطَ شيئًا من اللاشيء، وأن تُنتج حلًّا عندما تُعدَم الحلول، وأن تعطي وأنت لا تملك وتأخذ شيئًا ممن أتاك طالبًا كل شيء. هي واحدة من المصائب التي حلّت باللبنانيين فعطّلت، ولو جزئيًا، كل ما لديهم من مؤسسات وقطاعات وصولًا إلى النقابات.
بدايات ومعاناة ونجاحات
منذ بداية ولادة الحركة النقابية في لبنان كانت ملفوفة بقِمَاطٍ من السياسة واستطرادًا الطائفية. حتى القائمون بها والقيّمون عليها وقعوا يومًا في علّة تلوينها قبل أن تعمد أطرافٌ سياسية بعينها إلى ذلك. لكن هذه السقطات في الطريق إلى الهدف، لم تمنع نشوء نقابات فاعلة، كانت لها في العديد من المحطات وقفات شرف والتزام، واستطاعت أن تُحدث التغيير المطلوب. وكانت لها على مدى عقود اليد الطولى والعناوين الأولى على صفحات العملين النقابي والسياسي، وسط ظروف متفجّرة وتدخلات كبيرة وإمكانيات قليلة.
فبعدما نال لبنان استقلاله، بدأت حركتا الصعود السياسي والإقتصادي تتناميان بقوة. وكان من الطبيعي أن يؤدي ذلك إلى نشوء حركات نقابية، سواء لتنظيم العمل المهني أو لحماية القطاعات، أو لتأمين حقوق ومطالب العاملين المزدادين عددًا وفعّالية. وبالتوازي مع تجارب نقابية أخرى في العالم العربيّ، ساهم الحراك الشعبيّ في لبنان في تسليط الضوء على الدور المحتمل للنقابات المهنية أو العمّالية في تفعيل الحياة الديمقراطية.
ساهم ذلك، معطوفًا على ظروف مؤاتية، في إنشاء نقابات مهنية مستقلة، علمًا بأن الإنطلاقة لم تكن سهلة بداية الأمر. ففي الخمسينات مثلًا رفضت الحكومات إعطاء الترخيص للاتحاد النقابي، ومنحته في المقابل لنقابات موالية للسلطة. وبعد الإنقسام الذي ولّدته ثورة 1958 شهدت الحركة النقابية هي الأخرى إنقسامًا مدفوعًا بالحال القائمة في البلد. وبسببه توزعت إلى خمسة اتحادات على أساس الانقسام العقائدي والسياسي بين اليمين واليسار. ولكن من غير أن يصيبها ذلك بالشلل التام.
وفي العام 1967 تم إنشاء المجلس الأعلى للعمال، وبدأ العمل النقابي المنظّم يتعزّز أكثر فأكثر، إلى أن انضمت كل الإتحادات إلى الإتحاد العمالي العام عام 1970. وقد حقق هذا الإتحاد في بعض المحطات منجزات كبيرة وتصدّى لحكومات لم يكن يخطر في البال أنها سترضخ تحت الضغط العمالي. غير أن الحرب التي لم تتأخر قوّضت تلك الإنطلاقة العمالية التي ظلت تقاوم التفكّك إلى أن جاءها على صهوة حصان المصالح وحكم النظام الأمني اللبناني ـ السوري المشترك بعد العام 1990، ففعل فعله في أن جعل الإتحاد العمالي العام قطارًا من غير عجلات، فيما بقي بعض النقابات والمعتبرة حامية لحصون الحق، يقاوم هذه التدخّلات ورافعًا سراج العمل النقابي الحر فوق مكيال زواريب التخريب.
نقابيون يتحدثون لـ»المسيرة»
اليوم وبعد كل هذا المسار من الصعود والهبوط، ووسط هذا الوضع القاتم والإنهيار القائم، كيف تتصرف نقاباتنا على اختلافها؟ في أي وضع هي، وما المخارج لاستعادة الدور؟
رئيس الإتحاد العام لنقابات عمال لبنان مارون الخولي يقول لـ«المسيرة» واصفًا وضع النقابات اليوم والمشاكل التي تواجهها: بـ»مكره أخاك لا بطل». ويتابع: «من أصعب الأمور أن تعمل النقابات في ظروف إقتصادية ومالية وإجتماعية منهارة كالوضع الحالي في لبنان، بحيث أن جزءًا أساسيًا من العمل النقابي هو المطالبة بتحسين أوضاع العمال المالية وبيئة العمل وتطبيق التوصيات الدولية الصادرة عن منظمة العمل الدولية. وبالتلي تختلف حالة النقابات العمالية بحيث يمكن للأزمة الإقتصادية والمالية أن تزيد من الضغط والنضال داخل النقابات من أجل الحفاظ على ما تبقى من حقوق العمّال، ومحاولة زيادة الأجور وتحسين ظروف العمل.»
ويعتبر «أن هذا الضغط لا يمكن إلا أن يؤدي إلى اتخاذ إجراءات كالإضرابات والتظاهرات والإجراءات القضائية للمطالبة بالحقوق المشروعة. وهذه الاساليب تكون صعبة جدا في ظروف الشلل الإقتصادي بحيث أن الإضراب عن العمل في بعض الأحيان لا يأتي بنتيجة بسبب إنعدام الإنتاجية في الأساس».
ويلخّص الخولي المشاكل والتحديات والمعوقات التي تعترض النقابات العمالية «بغياب الاستراتيجية النقابية القادرة على التكيُّف مع التغيّرات الإجتماعية والإقتصادية والسياسية التي أصابت مجتمعنا اللبناني. فمعالجة هذه التداعيات تتطلب تحقيق أهداف محدّدة، منها الدفاع عن مصالح العمال ورعايتهم من الناحية الإجتماعية والإقتصادية والمهنية، ومعالجة البيروقراطية في تطبيق القانون، وعدم تجاهل الإتفاقيات الدولية»، مشيرًا الى «ضعف ثقافة العمل النقابي لدى العمال وبعض قادة الحركة النقابية، وضعف الخطط والسياسات التنموية وغيابها عن برامج عمل النقابات العمالية. يُضاف إلى ذلك ضعف نسب الانتساب إلى النقابات، وتراجع القدرات والإمكانيات التي تمنح النقابة القدرة على تمويل برامجها وأنشطتها».
وسط هذا الواقع ما هي الحلول الممكنة؟
يشير الخولي إلى «أن فتح الحوار بين النقابات وأرباب العمل خصوصًا في ظل الأوضاع الإقتصادية الراهنة، والتفاوض للوصول إلى حلول مشتركة تحمي حقوق العمال وتدعم الاستقرار الاقتصادي، هو المدخل الأول إلى البحث عن حلول وستنباطها. والعمل على مكافحة ظاهرة البطالة المستشرية بحدود غير مسبوقة في لبنان بحيث وصلت لحدود 30 في وذلك عبر تحسين التعليم والمهارات لدى العمال من خلال توفير دورات تدريبية وورش عمل ودعم التعليم الفني والمهني. فذلك يمكن أن يؤدي إلى تحسين فرص العمل وتوفير دخل أفضل للعمال، وهذا الإجراء يمكن أن تقوم به وتنظمه النقابات».
هذا في القطاع الخاص أما في القطاع العام فهناك تمايز في آلية العمل النقابي. عن هذين التمايز والآلية تحدّث لـ»المسيرة» رئيس نقابة هيئة أوجيرو الدكتور إيلي زيتوني لافتًا إلى «أن هيكلية الدولة تتضمّن المؤسسات العامة التي أجاز لها القانون تشكيل نقابات، والإدارة العامة كالوزارات التي لم يكن لها الحق في العمل النقابي. لكن مؤخرًا بعد تردي الوضع العام وزيادة المطالب غير المحقّقة للموظفين تشكّلت هيئات باسم روابط مثل رابطة موظفي الإدارة العامة التي تتابع شؤون الموظفين ومطالبهم، وقد باتت لها هيكلية ومقررات تسمع لها الحكومة. وهذا يعني أن هناك غض نظر عن هذا العمل النقابي الذي لم يلحظه القانون.»
أما لناحية قدرة العمل النقابي اليوم على تحقيق المطالب فيقول إن قدرة النقابات موجودة كما في السابق ولكن المشكلة ألّا جهة موجودة لتُرفع إليها المطالب. لا رئيس جمهورية للّقاء به ووضعه في صورة ما يجري ولا مجلس وزراء قائم ويجتمع لمطالبته أو للتظاهر في وجهه، ولا مجلس نيابيًا يمكنه التشريع، كونه بحسب الدستور هيئة ناخبة لغاية انتخاب رئيس، للضغط عليه لسن القوانين. لذلك فالعمل النقابي اليوم شبه مشلول، وما نقوم به هو متابعة وضع الموظفين وتحديد الحاجات والبقاء على جهوزيتنا بغية المبادرة فورا عندما تستقيم الأمور ويعود عمل الدولة إلى الإنتظام».
ويحمّل زيتوني الإتحاد العمالي العام الذي تنضم تحت لوائه نقابات المؤسسات العامة فيما رابطة موظفي الإدارة العامة ليست ضمنه، مسؤولية تراجع نفوذ الحركة النقابية كونه بات أداة طيّعة في أيدي أطراف في السلطة تسيّره حسب مشيئتها لا حسب مصالح الموظفين والعمال.
عندما تتعاون السياسة
بعد هذا العرض وفي ظل هذا الوضع يجدر السؤال: ما العمل؟ وماذا تفعل القوى السياسية لتدارك الوضع أو لإبقاء القدرة قائمة إلى أن تصطلح أمور الدولة؟
«القوات اللبنانية» لم تبقَ مكتوفة الأيدي وفعّلت التواصل مع النقابات عبر المصالح الحزبية المعنية بذلك. وفي هذا الإطار التقى مؤخرًا رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع، في معراب، رئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الأسمر، نقيب المعلمين نعمة محفوض، نقيب الصيادلة جو سلوم، نقيب المعالجين الفيزيائيين سيدة ساسين صهيون، في حضور الأمين العام للحزب إميل مكرزل، رئيس مصلحة النقابات ريمون حنا ورئيسة مصلحة الصيادلة هيلين شماس. وبحث الضيوف مع الدكتور جعجع المشاكل التي تواجه النقابات، ليؤكد بدوره لهم أن تكتل «الجمهورية القوية» الى جانبهم ويساندهم في كل مطالبهم.
وبالمناسبة قال سلوم الذي «وضع جعجع في جو الاجتماع الذي عقد في نقابة الصيادلة وضمّ الاتحاد العمالي العام، روابط المعلمين ونقابات المهن الحرة، حيث أطلقت خلاله صرخة باسم كل مواطن لبناني ومريض ومعلم وعامل لم تعد لديه القدرة على الإستمرار وتأمين الدواء والإستشفاء وأبسط الحقوق في خضم إنهيار البلد». أضاف: «وضعنا الدكتور جعجع في حيثيات «البيان رقم 1» الذي يتمثل بانتظام عمل الدولة المؤسساتي والدستوري والتشريعي ووجوب البدء بخطة إنقاذية، الأمر الذي لن يتحقق سوى بانتخاب رئيس جديد للجمهورية. ولمسنا تأييدًا واضحًا من «الحكيم» لهذه المطالب ولا سيما أنه مؤمن أيضًا بأن مفتاح الحل يكمن بانتخاب رئيس للبلاد.»
سلوم تحدث لـ»المسيرة» عن المبادرة والإتصالات القائمة مع الأفرقاء كافة، متمنيًا على الجميع التجاوب، خصوصًا النواب الذين يتوجّب عليهم انتخاب رئيس في أسرع وقت، مؤكدًا استمرار النقابات بالقيام بدورها الوطني وواجبها تجاه المواطن بغية تحقيق الهدف المنشود، في ظل الإنهيار الكامل للبنان في كل القطاعات وعلى الصعد كافة.»
ولفت إلى أن «نقابة الصيادلة ربما تكون مسؤوليتها اليوم أكبر من قبل وأدق من نقابات أخرى. فهي تتابع مسألة جودة الدواء ونوعيته وتأمين الدواء. وكانت أطلقت في 8 أيار الماضي 2022 مؤتمر هوية لبنان الدوائية، والذي ركز على أن نظام لبنان الدوائي يجب أن يكون مرتكزًا على ثلاث ثوابت هي: دعم الصناعة المحلية وتحفيزها ما يخلق فرص عمل. وثانيًا، الحفاظ على المكاتب العلمية وشركات الأدوية، خصوصًا وللأسف أننا نشهد اليوم على إقفال بعض المكاتب العلمية. وتاليًا الحفاظ على الصيدليات والقطاع الصيدلي لأنه المركز الأساسي لصرف الدواء الجيّد للمريض.»
وأضاف أن «الهم الأساسي لنقابة الصيادلة اليوم هو تأمين الدواء للمرضى وبأسعار مقبولة في ظل الوضع الإقتصادي الصعب وتراجع قدرة الصناديق الضامنة. ولذلك لا بد من البحث عن آلية لدعم المريض مباشرة وليس دعم السلعة. فقد دعمنا الدواء بـ8 مليارات دولار خلال 3 سنوات وكان يُخزَّن أو يهرّب إلى الخارج وخصوصًا أدوية السرطان. من هنا كان اقتراحنا اعتماد البطاقة الصحيّة أو الدوائية. المستوى الثاني الذي عملت عليه النقابة هو مكافحة الدواء المهرّب أو المزوّر وأطلقت بناء على ذلك حملة «مش كل دوا دوا».
أما لناحية الوضع الداخلي للنقابة، فقال «إنها كما باقي النقابات تعاني من شح الإيرادات. فإيراداتها في معظمها تأتي من نسبة الإستيراد والذي تراجع من مليار دولار في 2019 إلى 300 مليون دولار في 2022. وعلى النقابة أعباء كبيرة فهي لديها حوالى الألف متقاعد، بين معاشات تقاعدية رفعناها إلى 11 مليون ونصف شهريا والتأمين. هذه المشاكل وسواها نعمل عليها بكل جهد. يُضاف إلى ذلك دور النقابة على الصعيد الوطني والمساهمة في الحفاظ على رسالة لبنان وريادته وهويته».
في المحصّلة تجدر الإشارة والتوقّف عند الدور النقابي قطاعيًا كما وطنيًا للقول إن نقاباتنا واتحادنا العمالي العام عليهم مسؤوليات كثيرة وأكبر من تأمين مصالح العمال أو المنتسبين إليها. نعم هناك دور وطني لا بد من القيام به، لأنه عندما تصطلح الأمور على مستوى الوطن وتسير الدولة في مسارها الصحيح تستوي قضايا الجميع عمّال وموظفين وغير منضوين ضمن نقابات. وعندها لا يبقى إلا القليل للعمل عليه وتصبح سبل تحقيقه متوفّرة. ولا بد أن نتذكر بالمناسبة أن الإتحاد العمالي العام في بولندا استطاع مع ليخ فاونسا تغيير النظام!
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]