!-- Catfish -->

لن نَقبلَ بِ ” عَفا اللهُ عَمّا مَضى “

في البداية، لن أتركَ مجالاً لاتّهامي برفضِ المسامحةِ، استناداً الى مفهومِ الرّحمةِ التي نُشِّئتُ عليها، لاهوتيّاً وتربويّاً وعائليّاً، والتزمتُ بها قناعةً ما فارقَت إيماني وسلوكي. والرّحمةُ، عندي، هي جَمالُ علاقةِ اللهِ بالإنسان، والمُتجلِّيَةِ بحُبِّهِ المُطلَقِ الذي دفعَهُ الى أن يبذلَ ابنَهُ لخلاص العالَم. واستُكمِلَ الحبُّ باتِّصافِ اللهِ بالرَّحوم، ومعنى ذلك أنّ الخالِقَ، برحمتِهِ الإنسان، في الدّنيا والآخِرة، يُقيمُ معه مُصالحةً لا قياسَ دُنيَوِيّاً لها، وأساسُها الغفران.

أمّا ما أدعو إليهِ، استناداً الى عنوانِ هذا النصّ، فدعوةٌ الى تحقيقِ العدالةِ في وطنٍ هجرَتهُ العدالةُ، وسحقَهُ الظّلم، ونفخَ فيه روحُ الشيطان، وحَكَمَهُ أبالسةُ الشرّ، والفساد، بشكلٍ هابِطٍ، مأسَويٍّ، سَكَّنَ اليأسَ في نفوسِ النّاس، وشكَّلَ جسرَ عبورِهم الى جهنَّم. من هنا، بحثتُ، وبجُهدٍ فائق، عن وحدةِ التَّرابطِ بينَ الرَّحمةِ والحاكِمين، من حيثُ استحقاقُهم إيّاها، فلم أَجِدْ الى تلكَ العلاقةِ سبيلاً.

إنّ المُتَحَقِّقَ من طبيعةِ الذين توالَوا على سُدّةِ السلطةِ، عندَنا، ولا سيّما في العُهودِ القريبةِ من زمنِنا الحالي، يصلُ الى أنّ هذه الطبيعةَ احتَضَنَت، في ذاتِها، إرادةً تَأَصَّلَت فيها مُيولُ ” الأَنا ” النَّرجسيّةِ، وكان لأدائِها القبيحِ اليَدُ الطّولى في جعلِ حياةِ النّاسِ مواسمَ أَلْغامٍ، فطَمَرَتهُم جِراحُ العَوَزِ، والجوعِ، والذلِّ، والهجرةِ، والإنكسارِ أمامَ أبوابِ وكالاتِ الغَوث… أمّا مَنْ يُنكِرون هذه الحقيقة، ويتبرَّعونَ بوصفٍ مُغايِرٍ لها، فهم، بلا شَكّ، جماعةُ المُستَفيدينَ، والأزلامِ عَقيمي النَّظر، ومُضَيِّعي بوصلةِ العقل.

إنّ مقولةَ أنّ المتسلِّطينَ تَنبضُ في ذواتِهم حيويّةُ الفسادِ، بكلِّ مندرجاتِها، لا تحتاجُ الى بَرهَنَة، وبالتالي، فتَجريمُهم مُمكِنٌ، بل واجِب. لقد دنَّسوا الوطنَ لأنّهم لم يَحذَروا ” خَميرَ الفرّيسيّين “، وأَخضعوا ممارساتِهم للخُبثِ، والمكيدة، واغتيالِ الوطنيّةِ بالتَّبَعيّةِ والخيانة، ولموبِقاتِ الدّناءةِ التي دمَّرَت نقاءَ العيشِ، وفرضَت حالةً تتخبَّطُ في وِسطِ سلطانِ الشرّ. لقد أدّى هَوَسُ المتسلِّطين بالفَرديّةِ، والمناصِبِ، وشَقعِ المالِ المنهوب، والهيمنةِ على مقدِّراتِ الدولة، وإجهاضِ نصوصِ الدّستورِ والقوانين، الى أن يتجوَّلَ الوطنُ في كَفَنٍ ينزفُ رماداً، ويردِّدُ مراثيَ الإحباطِ، ويَلحسُ من دَمِهِ، ويقعُ رُكاماً أمامَ خلاصٍ موعود.

في مواجهةِ هذا الواقعِ الذي جعلَ الناسَ، عندَنا، دمعةً صَفَعَها اليأسُ وهي تترجّى، لا غرابةَ في أن تكونَ علاقتُهم بالحقدِ علاقةَ شَريكَين، وأن يكونَ انحيازُهم للمعاقبةِ يصدرُ عن تَشَبّثِهم بالحقِّ المَهدور. لستُ، هنا، وعلى الإطلاق، أدعو الى الوَعيدِ بالإنتقامِ الجَسَديِّ، اغتيالاً، وقَتلاً، وتنكيلاً جسمانيّاً… فهذا التَّدبيرُ بعيدٌ، الى أَقصى مَدًى، عن أدبيّاتِ اللبنانيّين الحقيقيّين، وطهارةِ أخلاقيّاتِهم، ومناقبيّتِهم الإنسانيّة، والتي هي كَمالُ الفضائلِ الوطنيّةِ التي، لطالما، كانت عنوانَ حياةِ النّاسِ السّاميةِ في بلادِنا. وخيرُ دليلٍ على نقاءِ ردّاتِ فِعلِهم، أنّهم  لم يبادِلوا اغتيالَ أركانِهم الرِيادِيّين في السياسةِ، والإعلام، والفكر، بمِثلِهِ.

ولكنْ، لا وجودَ للمثاليّةِ أمامَ الجريمة، وأيِّ جريمة !!! ولا قَبولَ لتكرارِ ” عَفا اللهُ عَمّا مضى “، فما مضى من ممارساتِ السّرقة، والإختلاس، والصّفقاتِ المشبوهة، والإعتداءِ على حقوقِ النّاس، وقتلِ الحريّات، وكَمِّ الأفواهِ والأقلام، واغتيالِ أصحابِ الرأي، وخيانةِ الوطن… لم يردَعْ مُقتَرِفيها العَفوُ، والتَّسامحُ، وغَضُّ النَّظرِ، والتَّساهُلُ، بل حُفِّزوا على الإستمرارِ في أدائِهم البَغيض، لأنهم اطمأنّوا الى أنّ العِقابَ لن يطالَهم، فاللبنانيّون ” أَوادِم “، وسُذَّج، وقليلو النَّباهةِ، وعلى نِيّاتِهم ينخدِعونَ بسهولة، أو قُلْ هم أغبياءُ، يفتقرونَ الى الحُنكةِ التي تقودُ الى حُسنِ التَبَصّرِ بالأمور، وينسَون بسرعة. والأدلَّةُ على تكرارِ الحكّامِ والمسؤولينَ، على مختلفِ مستوياتِهم ومراكزِهم، عادةَ النَّهبِ، والغشِّ، والسّرقاتِ المفضوحة، والتعدّي على الحقِّ العامِ والخاص… تملأُ الإِخبارات، واَخبارَ البلاد، وذاكرةَ العِباد.

من هنا، وإذا كان الفَهيمُ لا يُلدَغُ مرَّتَينِ ليتعلَّم، فكيفَ إذا لُدِغَ مرّاتٍ ومرّاتٍ ولم يتعلَّم ؟؟؟ نعم، هذه الحالُ من اللَّدغِ المُؤذي كانت، بالفِعلِ، تتكرَّرُ، ولا محاسبة، فهل من مسؤولٍ فاسدٍ ” تَخَّ ” في السّجن ؟؟ وهل من  “حْرامي ” في إداراتِ الدولةِ صودِرَت سرقاتُهُ ؟؟ لا. لذلك، وحتى لا تستمرَّ الحالُ على ما كانت عليه، وعلى ما هي عليه، أيضاً، ينبغي الإِحجامُ عن السّكوت، والمبادرةُ الى مواجهةٍ صارمةٍ مع جميعِ مَنْ نهبوا مقدّراتِ البلد، وفَقَّروا الشَّعب، وبكلِّ الوسائلِ القانونيّةِ في الدّاخلِ والخارج، والتحرّكاتِ الإعتراضيّةِ الشعبيّة، والصّفحاتِ الإعلاميّة، فالحقُّ لا يريدُ إنساناً ذليلاً، باصِماً، بل يفرحُ بالإنسانِ الواقِفِ على قَدَمَيه.

 

المصدر:
فريق موقع القوات اللبنانية

خبر عاجل